مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{جَزَآؤُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ رَبَّهُۥ} (8)

قوله تعالى : { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه } .

اعلم أن التفسير ظاهر ونحن نذكر ما فيها من اللطائف في مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقا من المحن والآفات ، فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكيا لا للفراق ولكن مشتكيا من وحشة الحبس ليرحم ، كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم ، ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدودا في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوا في المهد وشدوه بالقماط ، ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم ، ثم بعد ذلك شد بمسامير العقل والتكليف ، ثم إن المكلف يصير كالمتحير ، يقول : من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جناية ! فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل ، فوجده عالما لا يشبه العالمين ، وقادرا لا يشبه القادرين ، وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة ، لكن حقيقته محض الكرم والرحمة ، فترك الشكاية وأقبل على الشكر ، ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة ، فجعل قلبه مسكنا لسلطان عرفانه ، فكأن الحق قال : عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد : يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته ، وكذا حب الأب والأم ، وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل . أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي ، ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول ، فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار ، والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم ، وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح ، فيقول الله : عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة ، فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا ، فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة ، فلهذا قال : { جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار } بل كأن الكريم الرحيم يقول : عبدي أعطاني كل ما ملكه ، وأنا أعطيته بعض ما في ملكي ، وأنا أولى منه بالكرم والجود ، فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوبا دائما مخلدا ، حتى يكون دوامه وخلوده جابرا لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية .

المسألة الثانية : الجزاء اسم لما يقع به الكفاية ، ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء ، فهذا يفيد معنيين ( أحدهما ) : أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص ( والثاني ) : أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية ، فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلا ، على ما قال : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } .

المسألة الثالثة : قال : { جزاؤهم } فأضاف الجزاء إليهم ، والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله : { الذي أحلنا دار المقامة من فضله } ( والجواب ) : أما أهل السنة فإنهم يقولون : إنه لو قال الملك الكريم : من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار ، فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي ، فقوله : { جزاؤهم } يكفي في صدقه هذا المعنى وأما المعتزلة فإنهم قالوا في قوله تعالى : { الذي أحلنا دار المقامة من فضله } إن كلمة من لابتداء الغاية ، فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان ، إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة . فإن قيل : فإذا كان لا حق لأحد عليه في مذهبكم ، فما السبب في التزام مثل هذا الإنعام ؟ قلنا : أتسأل عن إنعامه الأمسي حال عدمنا ؟ أو عن إنعامه اليومي حال التكليف ؟ أو عن إنعامه في غد القيامة ؟ فإن سألت عن الأمسي فكأنه يقول : أنا منزه عن الانتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع ، فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله ، فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه ، كما روى : «الخلق عيال الله » وأما اليومي فالإنعام يوجب الإتمام بعد الشروع . فالرحمن أولى . وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك .

المسألة الرابعة : في قوله : { عند ربهم } لطائف :

أحدها : قال بعض الفقهاء : لو قال : لا شيء لي على فلان ، فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة ، ولو قال : لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين ، ولو قال : لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا ، إذا عرفت هذا فقوله : { عند ربهم } يفيد أنه وديعة والوديعة عين ، ولو قال : لفلان علي فهو إقرار بالدين ، والعين أشرف من الدين فقوله : { عند ربهم } يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد ، فإن قيل : الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون ، قلنا : المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق الله تعالى محال ، فلا جرم قلنا : الوديعة هناك خير من المضمون .

وثانيها : إذا وقعت الفتنة في البلدة ، فوضعت مالك عند إمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب ، فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك ، وحينئذ تخاف الشيطان من أن يغيروا عليها ، فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتابا يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله : { جزاؤهم عند ربهم } حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة .

وثالثها : أنه قال : { عند ربهم } وفيه بشارة عظيمة ، كأنه تعالى يقول : أنا الذي ربيتك أولا حين كنت معدوما صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة ، فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء فحين كنت مطلقا أعطيتك هذه الأشياء ، وما ضيعتك أترى أنك إذا اكتسبت شيئا وجعلته وديعة عندي فأنا أضيعها ، كلا إن هذا مما لا يكون .

المسألة الخامسة : قوله : { جزاؤهم عند ربهم جنات } فيه قولان :

أحدهما : أنه قابل الجمع بالجمع ، وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، كما لو قال لامرأتيه أو عبديه : إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا فيحمل هذا على أن يدخل كل واحد منهما دارا على حدة ، وعن أبي يوسف لم يحنث حتى يدخلا الدارين ، وعلى هذا إن ملكتما هذين العبدين ، ودليل القول الأول : { جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم } فعلى القول الأول بين أن الجزاء لكل مكلف جنة واحدة ، لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روي مرفوعا ، ويدل عليه قوله تعالى : { وملكا كبيرا } ويحتمل أن يراد لكل مكلف جنات ، كما روي عن أبي يوسف وعليه يدل القرآن ، لأنه قال : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } ثم قال : { ومن دونهما جنتان } فذكر أربعا للواحد ، والسبب فيه أنه بكى من خوف الله ، وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان اثنان دون الاثنين ، فاستحق جنتين دون الجنتين ، فحصلت له أربع جنات ، لسكبه البكاء من أربعة أجفان ، ثم إنه تعالى قدم الخوف في قوله : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } وأخر الخوف في هذه الآية لأنه ختم السورة بقوله : { ذلك لمن خشي ربه } وفيه إشارة إلى أنه لابد من دوام الخوف ، أما قبل العمل فالحاصل خوف الاختلال ، وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلال ، إذ هذه العبادة لا تليق بتلك الحضرة .

المسألة السادسة : قوله : { عدن } يفيد الإقامة : { لا يخرجون منها } { وما هم منها بمخرجين } { لا يبغون عنها حولا } يقال : عدن بالمكان أقام ، وروي أن جنات عدن وسط الجنة ، وقيل : عدن من المعدن أي هي معدن النعيم والأمن والسلامة ، قال بعضهم : إنها سميت جنة إما من الجن أو الجنون أو الجنة أو الجنين ، فإن كانت من الجن فهم المخصوصون بسرعة الحركة يطوفون العالم في ساعة واحدة فكأنه تعالى قال : إنها في إيصال المكلف إلى مشتهياته في غاية الإسراع . مثل حركة الجن ، مع أنها دار إقامة وعدن ، وإما من الجنون فهو أن الجنة ، بحيث لو رآها العاقل يصير كالمجنون ، لولا أن الله بفضله يثبته ، وإما من الجنة فلأنها جنة واقية تقيك من النار ، أو من الجنين ، فلأن المكلف يكون في الجنة في غاية التنعم ، ويكون كالجنين لا يمسه برد ولا حر { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا } .

المسألة السابعة : قوله : { تجري } إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد ، ومن ذلك النظر إلى الماء الجاري ، يزيد نورا في البصر بل كأنه تعالى قال : طاعتك كانت جارية ما دمت حيا على ما قال : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } فوجب أن تكون أنهار إكرامي جارية إلى الأبد ، ثم قال : { من تحتها } إشارة إلى عدم التنغيص ، وذلك لأن التنغيص في البستان ، إما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم ، وإما بسبب الغرق والكثرة ، فذكر من تحتها ، ثم الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن ، وهي نهر الماء واللبن والعسل والخمر ، واعلم أن النهار والأنهار من السعة والضياء ، فلا تسمى الساقية نهرا ، بل العظيم هو الذي يسمى نهرا بدليل قوله : { وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار } فعطف ذلك على البحر .

المسألة الثامنة : اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولا والرضا ثانيا ، وروى أنه عليه السلام قال : «إن الخلود في الجنة خير من الجنة ورضا الله خير من الجنة » .

أما الصفة الأولى : وهي الخلود ، فاعلم أن الله وصف الجنة مرة بجنات عدن ومرة بجنات النعيم ومرة بدار السلام ، وهذه الأوصاف الثلاثة إنما حصلت لأنك ركبت إيمانك من أمور ثلاثة اعتقاد وقول وعمل .

وأما الصفة الثانية : وهي الرضا ، فاعلم أن العبد مخلوق من جسد وروح ، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضا الرب ، والإنسان مبتدأ أمره من عالم الجسد ومنتهى أمره من عالم العقل والروح ، فلا جرم ابتدأ بالجنة وجعل المنتهى هو رضا الله ، ثم إنه قدم رضى الله عنهم على قوله : { ورضوا عنه } لأن الأزلي هو المؤثر في المحدث ، والمحدث لا يؤثر في الأزلي .

المسألة التاسعة : إنما قال : { رضي الله عنهم } ولم يقل رضي الرب عنهم ولا سائر الأسماء لأن أشد الأسماء هيبة وجلالة لفظ الله ، لأنه هو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها أعني صفات الجلال وصفات الإكرام ، فلو قال : رضي الرب عنهم لم يشعر ذلك بكمال طاعة العبد لأن المربي قد يكتفي بالقليل ، أما لفظ الله فيفيد غاية الجلالة والهيبة ، وفي مثل هذه الحضرة لا يحصل الرضا إلا بالفعل الكامل والخدمة التامة ، فقوله : { رضي الله عنهم } يفيد تطرية فعل العبد من هذه الجهة .

المسألة العاشرة : اختلفوا في قوله : { رضي الله عنهم } فقال بعضهم : معناه رضي أعمالهم ، وقال بعضهم : المراد رضي بأن يمدحهم ويعظمهم ، قال : لأن الرضا عن الفاعل غير الرضا بفعله ، وهذا هو الأقرب ، وأما قوله : { ورضوا عنه } فالمراد أنه رضوا بما جازاهم من النعيم والثواب .

قوله تعالى : { ذلك لمن خشي ربه } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى : { والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة }

ولعل الخشية أشد من الخوف ، لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقرونا بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال : { هم من خشية ربهم مشفقون } والكلام في الخوف والخشية مشهور .

المسألة الثانية : هذه الآية إذا ضم إليها آية أخرى صار المجموع دليلا على فضل العلم والعلماء ، وذلك لأنه تعالى قال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } فدلت هذه الآية على أن العالم يكون صاحب الخشية ، وهذه الآية وهي قوله : { ذلك لمن خشي ربه } تدل على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أن الجنة حق العلماء .

المسألة الثالثة : قال بعضهم : هذه الآية تدل على أن المرء لا ينتهي إلى حد يصير معه آمنا بأن يعلم أنه من أهل الجنة ، وجعل هذه الآية دالة عليه . وهذا المذهب غير قوي ، لأن الأنبياء عليهم السلام قد علموا أنهم من أهل الجنة ، وهم مع ذلك من أشد العباد خشية لله تعالى ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «أعرفكم بالله أخوفكم من الله ، وأنا أخوفكم منه » والله سبحانه وتعالى أعلم . وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .