ثم ذكر ثوابهم بقوله تعالى : { جزاؤهم } أي : على طاعاتهم ، وعظمه بقوله تعالى : { عند ربهم } أي : المربي لهم والمحسن إليهم { جنات عدن } أي : إقامة لا يحولون عنها { تجري } أي : جرياً دائماً لا انقطاع له { من تحتها } أي : تحت أشجارها وغرفها { الأنهار خالدين فيها } أي : يوم القيامة ، أو في الحال لسعيهم في موجباتها ، وأكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله تعالى : { أبداً رضي الله } أي : بما له من نعوت الجلال والجمال { عنهم } أي : بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق { ورضوا عنه } لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه تفضل في جميع ذلك لا يجب عليه لأحد شيء ، ولا يقدره أحد حق قدره ، فلو أخذ الخلق بما يستحقونه لأهلكهم كما قال تعالى : { لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] . وقال ابن عباس : ورضوا عنه بثواب الله عز وجل . { ذلك } أي : الأمر العالي الذي جوزوا به { لمن خشي ربه } أي : خاف المحسن إليه خوفاً يليق به ، فلم يركن إلى التسويف والتكاسل ، فإنّ الخشية ملاك الأمر ، والباعث على كل خير ، وهي للعارفين ، فإنّ الإنسان إذا استشعر عذاباً يأتيه لحقته حالة يقال لها : الخوف ، وهي انخلاع القلب عن طمأنينته ، فإن اشتدّ سمي : وجلاً لجولانه في نفسه ، فإن اشتدّ سمي : رهباً لأدائه إلى الهرب وهي حالة المؤمنين الفارّين إلى الله تعالى . ومن غلب عليه الحب لاستغراقه في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ، ووراء هذا الخشية { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] فمن خاف ربه هذا الخوف انفك عن جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه تعالى ، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب . روى أنس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب : إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك { لم يكن الذين كفروا } قال أبيّ : وسماني لك ؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : نعم . فبكى أبيّ » . قال البقاعي : سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهما فعرضا عليه ، فحسن لهما . قال : فسقط في نفسي من التكذيب أشدّ ما يكون في الجاهلية ، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقاً ، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً ، أي : خوفاً ، ثم قصَّ عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف ، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل ، وفيها أنه تعالى يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً ، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة ، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا ، وأنّ اليهود اختلفوا في السبت .
وسورة ( لم يكن ) على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها وزيادة ، وفيها التحذير من الشك بعد البيان ، وتقبيح حال من فعل ذلك ، وأنّ حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد ، فيكون شر البرية ، فقرأها صلى الله عليه وسلم تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوّراً ، فيكون أرسخ في النفس ، وأثبت في القلب ، وأعشق للطبع ، فاختصه الله بالتثبيت ، وأراد له الثبات ، فكان من المريدين المرادين لما وصل إلى قلبه بركة ضربة النبيّ صلى الله عليه وسلم لصدره ، وصار كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بإذن قلبه إلى روح النبوّة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة ، ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم :«اقرؤكم أُبيّ » . قال القرطبي : وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم . وقال بعضهم : إنما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبيّ ليعلم الناس التواضع ، لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على دونه في المنزلة . وقيل : إنّ أبياً كان أسرع أخذاً لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقرأ عليه ويعلم غيره . وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ ؛ إذ أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه . وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة ( لم يكن ) كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلاً » حديث موضوع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.