السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{جَزَآؤُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ رَبَّهُۥ} (8)

ثم ذكر ثوابهم بقوله تعالى : { جزاؤهم } أي : على طاعاتهم ، وعظمه بقوله تعالى : { عند ربهم } أي : المربي لهم والمحسن إليهم { جنات عدن } أي : إقامة لا يحولون عنها { تجري } أي : جرياً دائماً لا انقطاع له { من تحتها } أي : تحت أشجارها وغرفها { الأنهار خالدين فيها } أي : يوم القيامة ، أو في الحال لسعيهم في موجباتها ، وأكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله تعالى : { أبداً رضي الله } أي : بما له من نعوت الجلال والجمال { عنهم } أي : بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق { ورضوا عنه } لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه تفضل في جميع ذلك لا يجب عليه لأحد شيء ، ولا يقدره أحد حق قدره ، فلو أخذ الخلق بما يستحقونه لأهلكهم كما قال تعالى : { لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] . وقال ابن عباس : ورضوا عنه بثواب الله عز وجل . { ذلك } أي : الأمر العالي الذي جوزوا به { لمن خشي ربه } أي : خاف المحسن إليه خوفاً يليق به ، فلم يركن إلى التسويف والتكاسل ، فإنّ الخشية ملاك الأمر ، والباعث على كل خير ، وهي للعارفين ، فإنّ الإنسان إذا استشعر عذاباً يأتيه لحقته حالة يقال لها : الخوف ، وهي انخلاع القلب عن طمأنينته ، فإن اشتدّ سمي : وجلاً لجولانه في نفسه ، فإن اشتدّ سمي : رهباً لأدائه إلى الهرب وهي حالة المؤمنين الفارّين إلى الله تعالى . ومن غلب عليه الحب لاستغراقه في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ، ووراء هذا الخشية { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] فمن خاف ربه هذا الخوف انفك عن جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه تعالى ، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب . روى أنس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب : إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك { لم يكن الذين كفروا } قال أبيّ : وسماني لك ؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : نعم . فبكى أبيّ » . قال البقاعي : سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهما فعرضا عليه ، فحسن لهما . قال : فسقط في نفسي من التكذيب أشدّ ما يكون في الجاهلية ، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقاً ، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً ، أي : خوفاً ، ثم قصَّ عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف ، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل ، وفيها أنه تعالى يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً ، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة ، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا ، وأنّ اليهود اختلفوا في السبت .

ختام السورة:

وسورة ( لم يكن ) على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها وزيادة ، وفيها التحذير من الشك بعد البيان ، وتقبيح حال من فعل ذلك ، وأنّ حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد ، فيكون شر البرية ، فقرأها صلى الله عليه وسلم تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوّراً ، فيكون أرسخ في النفس ، وأثبت في القلب ، وأعشق للطبع ، فاختصه الله بالتثبيت ، وأراد له الثبات ، فكان من المريدين المرادين لما وصل إلى قلبه بركة ضربة النبيّ صلى الله عليه وسلم لصدره ، وصار كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بإذن قلبه إلى روح النبوّة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة ، ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم :«اقرؤكم أُبيّ » . قال القرطبي : وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم . وقال بعضهم : إنما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبيّ ليعلم الناس التواضع ، لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على دونه في المنزلة . وقيل : إنّ أبياً كان أسرع أخذاً لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقرأ عليه ويعلم غيره . وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ ؛ إذ أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه . وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة ( لم يكن ) كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلاً » حديث موضوع .