نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{جَزَآؤُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ رَبَّهُۥ} (8)

ولما خصصهم بالخيرية ، ذكر ثوابهم ، فقال ذاكراً جنة أبدانهم معظماً لهم بالتعبير عن إنعامه عليهم بلفظ الجزاء المؤذن بأنه في مقابلة ما وصفوا به : { جزاؤهم } أي على طاعاتهم ، وعظمه بقوله : { عند ربهم } إليهم المربي لهم وأي المحسن { جنات عدن } أي إقامة لا تحول عنها { تجري } أي جرياً دائماً لا انقطاع له . ولما كان عموم الماء مانعاً من تمام اللذة ، قرب وبعض بقوله : { من تحتها } أي تحت أرضها وغرفها وأشجارها { الأنهار } .

ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال : { خالدين فيها } ولما كان النظر إلى الترغيب في هذا السياق أتم حثاً على اتباع الدليل المعروف ، والمفارقة للحال المألوف ، أكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله : { أبداً } .

ولما كان هذا كله ثمرة الرضا ، وكان التصريح به أقر للعين لأنه جنة الروح ، قال مستأنفاً أو معللاً : { رضي الله } أي بما له من نعوت الجلال والجمال { عنهم } أي بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق . ولما كان الرضا إذا كان من الجانبين كان أتم وأعلى لهم قال : { ورضوا عنه } لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه متفضل في جميع ذلك ، لا يجب عليه لأحد شيء ، ولا يقدره أحد حق قدره ، فلو أخذ الخلق بما يستحقونه أهلكهم ، وأعظم نعمه عليهم ما منّ عليهم به من متابعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك كان سبباً لكل خير .

ولما كان ذلك ربما ادعى أنه لناس مخصوصين في زمان مخصوص ، قال معمماً له ومنبهاً على الوصف الذي كان سبب أعمالهم التي كانت سبب جزائهم : { ذلك } أي الأمر العالي الذي جوزوا به { لمن خشي ربه * } أي خاف المحسن إليه خوفاً يليق به ، فلم يركن إلى التسويف والتكاسل ، ولم يطبع نفسه بالشر بالجري مع الهوى في التطعم بالمحرمات ؛ بل كان ممن يطلب معالي الأخلاق ، فيستفتي قلبه فيما يرضي ربه ، فكان تواتر إحسانه يزيده خوفاً فيزيده شكراً ، فإن الخشية ملاك الأمر ، والباعث على كل خير ، وهي للعارفين . قال الملوي ما معناه : إن الإنسان إذا استشعر عقاباً يأتيه أو خسراً لحقته حالة يقال لها الخوف ، وهي انخلاع القلب عن طمأنينة الأمن وقلقه واضطرابه لتوقع مكروه ، فإن اشتد سمي وجلاً لجولانه في نفسه ، فإذا اشتد سمي رهباً لأدائه إلى الهرب ، وهي حالة المؤمنين الفارين إلى الله ، ومن غلب عليه الحب لاستغراق في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ، إذ لا ينفك عن خوف إبعاد أو صد لغفلة أو ذلة ، ومن غلب عليه التعظيم لاستغراق في شهود الجلاليات صار في الإجلال ، ووراء هذه الخشية { إنما يخشى الله من عباده العلماء }[ فاطر : 28 ] فمن خاف ربه هذا الخوف انفك من جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه سبحانه ، ولم يقدح في البينة ولا توقف فيها ، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب ، فكان جديراً بأن يقدح في كل ما أدى إلى العمارة ، وقد رجع آخر السورة على أولها بذلك ، وبتصنيف الناس صنفين : صنف انفك عن هوى نفسه فأنجاها ، وصنف استمر في أسرها فأرداها .

ختام السورة:

وقد رجع آخر السورة على أولها بذلك ، وبتصنيف الناس صنفين : صنف انفك عن هوى نفسه فأنجاها ، وصنف استمر في أسرها فأرداها ، وقد ذكرت في " مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور " سر تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لأبيّ رضي الله عنه بقراءة هذه السورة عليه بخصوصها ، وحاصله أن سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة رضي الله عنهم قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرهما فعرضا عليه ، فحسن لهما ، قال : فسقط في نفسي من التكذيب أشد مما كان في الجاهلية ، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقاً ، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً ، ثم قص عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف ، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل ، وفيها أن الله يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً ، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة ، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا ، وأن اليهود اختلفوا في السبت ، وسورة { لم يكن } على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها بزيادة ، وفيها التحذير من الشك بعد البيان ، وتقبيح حال من فعل ذلك ، وأن حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد ، فيكون شر البرية ، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليه رضي الله عنه تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوراً ، فيكون أرسخ في النفس ، وأثبت في القلب ، وأعشق للطبع ، فاختصه الله بالتثبيت وأراد له الثبات ، فكان من المريدين المرادين لما وصل إليه قلبه ببركة ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لصدره من كشفه الحجب ، ونفي الشياطين ، والنظر إلى سبحات القدس ، وشهود تلك الحضرة الشماء ، وصيرورته إلى أن يكون أصفى الصحابة رضي الله عنهم مراقبة لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم بما يتذكر من الأمر الشريف بتخصيصه بذلك ، فيصير كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بأذني قلبه إلى روح النبوة يتلو عليه ذلك ، فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة .

ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم : " أقرؤكم أبيّ " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه ، وهو صحيح ، ورواه بعضهم مرسلاً ، ومما فيه - ولم أذكره في المصاعد - سنة التواضع ، حتى لا يمنع أحداً ما يراه من علوه من القراءة على من هو دونه ، فإنه ما منع أكثر أهل الكتاب من الإسلام إلا رؤية ما كانوا عليه من العلم بكتب الله وسنن الرسل عليهم الصلاة والسلام وجهل العرب بذلك ، فنظروا إلى ما كان ولم ينظروا إلى الحالة الراهنة الآن ، فحلق الحسد أديانهم وسلبهم إيمانهم ، وصاروا أشقى الناس - كما نبه عليه أول السورة - نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة - آمين .