وبدأ بأشرف ذلك وهو الإنسان فقال : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ } لم يزل يدبرها ويرقيها وينميها حتى صارت بشرا تاما كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة ، قد غمره بنعمه الغزيرة ، حتى إذا استتم فخر بنفسه وأعجب بها { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } يحتمل أن المراد : فإذا هو خصيم لربه ، يكفر به ، ويجادل رسله ، ويكذب بآياته . ونسي خلقه الأول وما أنعم الله عليه به ، من النعم فاستعان بها على معاصيه ، ويحتمل أن المعنى : أن الله أنشأ الآدمي من نطفة ، ثم لم يزل ينقله من طور ، إلى طور حتى صار عاقلا متكلما ، ذا ذهن ورأي : يخاصم ويجادل ، فليشكر العبد ربه الذي أوصله إلى هذه الحال التي ليس في إمكانه القدرة على شيء منها .
( خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) ويا لها من نقلة ضخمة بين المبدأ والمصير . بين النطفة الساذجة والإنسان المخاصم المجادل الذي يخاصم خالقه فيكفر به ويجادل في وجوده أو في وحدانيته . وليس بين مبدئه من نطفة وصيرورته إلى الجدل والخصومة فارق ولا مهلة . فهكذا يصوره التعبير ، ويختصر المسافة بين المبدأ والمصير ، لتبدو المفارقة كاملة ، والنقلة بعيدة ، ويقف الإنسان بين مشهدين وعهدين متواجهين : مشهد النطفة المهينة الساذجة ، ومشهد الإنسان الخصيم المبين . . وهو إيجاز مقصود في التصوير .
ثم نبه على خلق جنس الإنسان { مِنْ نُطْفَةٍ } أي : ضعيفة مهينة ، فلما استقل ودَرَج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ، ويحارب رسله ، وهو إنما خلق ليكون عبدًا لا ضدًا ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } [ الفرقان : 54 ، 55 ] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 77 ، 79 ] .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بُسْر بن جَحَّاش قال : بصق رسول الله في كفه ، ثم قال : " يقول الله : ابن آدم ، أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : أتصدقُ . وأنى أوان الصدقة ؟ " {[16319]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين }
يقول تعالى ذكره : ومن حججه عليكم أيضا أيها الناس ، أنه خلق الإنسان من نطفة ، فأحدث من ماء مهين خلقا عجيبا ، قلبه تارات خلقا بعد خلق في ظلمات ثلاث ، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ما تم خلقه ونفخ فيه الروح ، فغذاه ورزقه القوت ونماه ، حتى إذا استوى على سوقه كفر بنعمة ربه وجحد مدبره وعبد من لا يضر ولا ينفع وخاصم إلهه فقال { من يحي العظام وهي رميم } [ يس : 78 ] ونسي الذي خلقه فسواه خلقا سويا من ماء مهين .
ويعني بالمبين : أنه يبين عن خصومته بمنطقه ويجادل بلسانه ، فذلك إبانته . وعنى بالإنسان : جميع الناس ، أخرج بلفظ الواحد وهو في معنى الجميع .
استئناف بياني أيضاً . وهو استدلال آخر على انفراده تعالى بالإلهية ووحدانيته فيها . وذلك أنه بعد أن استدلّ عليهم بخلق العوالم العُليا والسفلى وهي مشاهدة لديهم انتقل إلى الاستدلال عليهم بخلق أنفسهم المعلوم لهم . وأيضاً لما استدلّ على وحدانيته بخلق أعظم الأشياء المعلومة لهم استدلّ عليهم أيضاً بخلق أعجب الأشياء للمتأمّل وهو الإنسان في طَرْفَيْ أطواره من كونه نطفة مهينة إلى كونه عاقلاً فصيحاً مبيناً بمقاصده وعلومه .
وتعريف { الإنسان } للعهد الذهني ، وهو تعريف الجنس ، أي خلق الجنس المعلوم الذي تَدْعونه بالإنسان .
وقد ذُكر للاعتبار بخلق الإنسان ثلاثة اعتبارات : جنسُه المعلومُ بماهيته وخواصه من الحيوانية والناطقية وحسن القوام ، وبقيةُ أحوال كونه ، ومبدأ خلقه وهو النطفة التي هي أمهن شيء نشأ منها أشرف نوع ، ومنتهى ما شرفه به وهو العقل . وذلك في جملتين وشبه جملة { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } .
والخصيم من صيغ المبالغة ، أي كثير الخصام .
و { مبين } خبر ثاننٍ عن ضمير { فإذا هو } ، أي فإذا هو متكلم مُفصح عما في ضميره ومُراده بالحقّ أو بالباطل والمنطق بأنواع الحجّة حتى السفسطة .
والمراد : الخصام في إثبات الشركاء ، وإبطال الوحدانية ، وتكذيب من يَدْعون إلى التوحيد ، كما دل عليه قوله تعالى في سورة يس ( 77 ، 78 ) : { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } [ سورة الحجر : 77 78 ] .
والإتيان بحرف ( إذا ) المفاجأة استعارةٌ تبعية . استعير الحرف الدال على معنى المفاجأة لمعنى ترتّب الشيء على غير ما يظن أن يترتبَ عليه . وهذا معنى لم يُوضع له حرف . ولا مفاجأةَ بالحقيقة هنا لأن الله لم يفجأه ذلك ولا فَجَأ أحداً ، ولكن المعنى أنّه بحيث لو تدبر النّاظر في خلق الإنسان لترقب منه الاعتراف بوحدانية خالقه وبقدرته على إعادة خلقه ، فإذا سمع منه الإشراك والمجادلة في إبطال الوحدانية وفي إنكار البعث كان كمن فجأة ذلك . ولما كان حرف المفاجأة يدل على حصول الفَجْأة للمتكلم به تعيّن أن تكون المفاجأة استعارة تبعية .
فإقحام حرف المفاجأة جعل الكلام مفهماً أمرين هما : التعجيب من تطوّر الإنسان من أمهن حالة إلى أبدع حالة وهي حالة الخصومة والإبانة الناشئتين عن التفكير والتعقل ، والدلالة على كفرانه النعمة وصرفه ما أنعم به عليه في عصيان المنعِم عليه . فالجملة في حدّ ذاتها تنويه ، وبضميمة حرف المفاجأة أدمجت مع التنويه التعجيب . ولو قيل : فهو خصيم أو فكان خصيماً لم يحصل هذا المعنى البليغ .