{ خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } .
واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ .
وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ ، فقوله تعالى : { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه .
وقوله عز وجل : { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره ، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة ؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول : إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة ؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم .
الثالث : أنَّ الغذاء يحصل له : في المعدةِ هضم أولٌ ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ ، وفي العروق هضم ثالثٌ ، وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ .
ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ ، وظهر فيه أثرٌ من [ الطبيعة ]{[19694]} العظيمة ، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ ، و غيرها .
ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء ؛ وذلك هو النطفة ، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع .
وإذا عُرف هذا ، فالنطفةُ : إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ ، والماهيةِ ، أو مختلف الأجزاءِ ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره .
وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم : البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة ؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك ؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة ؛ بل فاعل مختار ، وهو يخلق بالتَّدبير ، والحكمة ، والاختيار ، وإن قلنا : إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ ، فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم ، وبيانه من وجهين :
الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة ، وإذا كان كذلك ؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل ، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً ؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار .
الوجه الثاني : أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً .
وإذا كان كذلك ، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض .
وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك ، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة ؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ .
قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ } متعلق ب " خَلَقَ " و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ .
والنُّطفَةُ : القطرة من الماءِ ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً ، أي : قطر ، وقيل : هي الماء الصافي ، ويعبر بها عن ماءِ الرجل ، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ ، ومنه : صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة ، ويقال : ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر ، والنَّاطفُ : ما سال من المائعات يقال : نَطَفَ يَنطفُ ، أي : سال فهو نَاطِف ، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ .
قوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } عطف هذه الجملة على ما قبلها ، فإن قيل : الفاءُ تدل على التعقيب ، ولا سيَّما وقد وجد معها " إذا " التي تقتضي المفاجأة ، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ .
أحدهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه ، كقوله تعالى : { أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] .
والثاني : أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم .
والذي يظهر أن قوله " خَلقَ " عبارة عن إيجاده ، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين .
و " خَصِيمٌ " : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم ، كالخَليطِ والجَليسِ ، ومعنى " خَصِيمٌ " جدولٌ بالبَاطلِ .
اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك .
قال الواحديُّ رحمه الله : الخصيمُ بمعنى المخاصم . وقال أهل اللغة : خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك ، وفعيل بمعنى مفاعل معروف ، كالنَّسيبِ والعَشيرِ .
ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم : أنَّ [ النفوس ]{[19695]} الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات ؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ الصديق والعدوَّ ، ويهرب من الهرَّةِ ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق .
وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع ، فظهر أن الإنسان في أولِ الحدوث أنقص حالاً ، وأقلُّ فطرة من سائر الحيوانات .
ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ، ويقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته ، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب ، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لابدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها ، ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } .
وفي معنى كونه خصيماً مبيناً وجهان :
الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً ، لا حسَّ فيه ولا حركة ، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم .
والثاني : فإذا هو خصيمٌ لربِّه ، منكر على خالقه ، قائل : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة .
كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي ؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذا بعدما قد رُمّ ؟ .
والصحيح أنَّ الآية عامة ؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.