اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ} (4)

{ خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } .

واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ .

وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ ، فقوله تعالى : { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه .

وقوله عز وجل : { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره ، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة ؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول : إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة ؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم .

الثالث : أنَّ الغذاء يحصل له : في المعدةِ هضم أولٌ ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ ، وفي العروق هضم ثالثٌ ، وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ .

ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ ، وظهر فيه أثرٌ من [ الطبيعة ]{[19694]} العظيمة ، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ ، و غيرها .

ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء ؛ وذلك هو النطفة ، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع .

وإذا عُرف هذا ، فالنطفةُ : إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ ، والماهيةِ ، أو مختلف الأجزاءِ ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره .

وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم : البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة ؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك ؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة ؛ بل فاعل مختار ، وهو يخلق بالتَّدبير ، والحكمة ، والاختيار ، وإن قلنا : إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ ، فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة ، وإذا كان كذلك ؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل ، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً ؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار .

الوجه الثاني : أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً .

وإذا كان كذلك ، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض .

وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك ، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة ؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ .

قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ } متعلق ب " خَلَقَ " و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ .

والنُّطفَةُ : القطرة من الماءِ ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً ، أي : قطر ، وقيل : هي الماء الصافي ، ويعبر بها عن ماءِ الرجل ، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ ، ومنه : صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة ، ويقال : ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر ، والنَّاطفُ : ما سال من المائعات يقال : نَطَفَ يَنطفُ ، أي : سال فهو نَاطِف ، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ .

قوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } عطف هذه الجملة على ما قبلها ، فإن قيل : الفاءُ تدل على التعقيب ، ولا سيَّما وقد وجد معها " إذا " التي تقتضي المفاجأة ، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ .

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه ، كقوله تعالى : { أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] .

والثاني : أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم .

وقيل : ثمَّ وسائط محذوفة .

والذي يظهر أن قوله " خَلقَ " عبارة عن إيجاده ، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين .

و " خَصِيمٌ " : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم ، كالخَليطِ والجَليسِ ، ومعنى " خَصِيمٌ " جدولٌ بالبَاطلِ .

فصل

اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله :

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك .

قال الواحديُّ رحمه الله : الخصيمُ بمعنى المخاصم . وقال أهل اللغة : خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك ، وفعيل بمعنى مفاعل معروف ، كالنَّسيبِ والعَشيرِ .

ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم : أنَّ [ النفوس ]{[19695]} الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات ؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ الصديق والعدوَّ ، ويهرب من الهرَّةِ ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق .

وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع ، فظهر أن الإنسان في أولِ الحدوث أنقص حالاً ، وأقلُّ فطرة من سائر الحيوانات .

ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ، ويقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته ، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب ، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لابدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها ، ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } .

وفي معنى كونه خصيماً مبيناً وجهان :

الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً ، لا حسَّ فيه ولا حركة ، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم .

والثاني : فإذا هو خصيمٌ لربِّه ، منكر على خالقه ، قائل : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة .

كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي ؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذا بعدما قد رُمّ ؟ .

والصحيح أنَّ الآية عامة ؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران .


[19694]:في ب: الصبغة.
[19695]:في أ: النفس.