53- وبمثل هذا الابتلاء الذي جرت به سُنَّتنا ، امتحنا المتكبرين بسبق الضعفاء إلى الإسلام ، ليقول المتكبرون مستنكرين ساخرين ، هل هؤلاء الفقراء هم الذين أنعم الله عليهم من بيننا بالخير الذي يعدهم به محمد ؟ إن هؤلاء الفقراء يعرفون نعمة الله عليهم بالتوفيق إلى الإيمان فيشكرونه . والله أعلم بمن يشكرون فضله ونعمه .
{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } أي : هذا من ابتلاء الله لعباده ، حيث جعل بعضهم غنيا ؛ وبعضهم فقيرا ، وبعضهم شريفا ، وبعضهم وضيعا ، فإذا مَنَّ الله بالإيمان على الفقير أو الوضيع ؛ . كان ذلك محل محنة للغني والشريف فإن كان قصده الحق واتباعه ، آمن وأسلم ، ولم يمنعه من ذلك مشاركه الذي يراه دونه بالغنى أو الشرف ، وإن لم يكن صادقا في طلب الحق ، كانت هذه عقبة ترده عن اتباع الحق .
وقالوا محتقرين لمن يرونهم دونهم : { أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } فمنعهم هذا من اتباع الحق ، لعدم زكائهم ، قال الله مجيبا لكلامهم المتضمن الاعتراض على الله في هداية هؤلاء ، وعدم هدايتهم هم . { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } الذين يعرفون النعمة ، ويقرون بها ، ويقومون بما تقتضيه من العمل الصالح ، فيضع فضله ومنته عليهم ، دون من ليس بشاكر ، فإن الله تعالى حكيم ، لا يضع فضله عند من ليس له بأهل ، وهؤلاء المعترضون بهذا الوصف ، بخلاف من مَنَّ الله عليهم بالإيمان ، من الفقراء وغيرهم فإنهم هم الشاكرون . ولما نهى الله رسولَه ، عن طرد المؤمنين القانتين ، أمَره بمقابلتهم بالإكرام والإعظام ، والتبجيل والاحترام ، فقال :
وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب ؛ والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين ؛ وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية ، مشرقة الآفاق ، مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة ؛ التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها ؛ وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها !
( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ ) . .
ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء :
( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ؟
هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات :
إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة ، التي لا كفاء لها من شكر العبد ، ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء .
وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية . إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها . لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء . فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات !
وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء . وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد . وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله . .
وقوله : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي : ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض { لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول البعثه ، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل ، كما قال قومُ نوح لنوح : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } الآية [ هود : 27 ] ، وكما قال{[10707]} هرقل ملك الروم لأبي سفيان حين سأله [ عن تلك ]{[10708]} المسائل ، فقال له : فهل{[10709]} اتبعه ضعفاء الناس أو أشرافهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . فقال : هم أتباع الرسل{[10710]}
والغرض : أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : { أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } ؟ أي : ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير - لو كان ما صاروا إليه خيرا - ويدعنا ، كما قالوا : { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] ، وكما قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } [ مريم : 73 ] .
قال الله تعالى في جواب ذلك : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } [ مريم : 74 ] ، وقال في جوابهم حين قالوا : { أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } أي : أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إليه صراطًا مستقيما ، كما قال تعالى { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] . وفي الحديث الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " {[10711]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهََؤُلآءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ وكذلك اختبرنا وابتلينا . كالذي :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، وحدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يقول : ابتلينا بعضهم ببعض .
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى الفتنة ، وأنها الاختبار والابتلاء ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وإنما فتنة الله تعالى بعض خلقه ببعض ، مخالفته بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق ، فجعل بعضا غنيا وبعضا فقيرا وبعضا قويا وبعضا ضعيفا ، فأحوج بعضهم إلى بعض ، اختبارا منه لهم بذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء ، فقال الأغنياء للفقراء : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا يعني : هداهم الله . وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية .
وأما قوله : لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا يقول تعالى : أختبرنا الناس بالغنى والفقر والعزّ والذلّ والقوّة والضعف والهدى والضلال ، كي يقول من أضله الله وأعماه عن سبيل الحقّ للذين هداهم الله ووفقهم : أهؤلاء منّ الله عليهم بالهدى والرشد وهم فقراء ضعفاء أذلاء من بيننا ونحن أغنياء أقوياء استهزاء بهم ، ومعاداة للإسلام وأهله . يقول تعالى : ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكرِينَ وهذا منه تعالى إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحقّ ، وخذلهم عنه وهم أغنياء ، وتقرير لهم أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرا نعمتي ممن هو لها كافر ، فمنّي على من مننت عليه منهم بالهداية جزاء شكره إياي على نعمتي ، وتخذلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد عقوبة كفرانه إياي نعمتي لا لغنى الغنيّ منهم ولا لفقر الفقير لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحد إلاّ جزاء على عمله الذي اكتسبه لا على غناه وفقره ، لأن الغنى والفقر والعجز والقوّة ليس من أفعال خلقي .
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } ومثل ذلك الفتن ، وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا . { فتنا } أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان . { ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } أي أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا ، ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء . وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم : { لو كان خيرا ما سبقونا إليه } . واللام للعاقبة أو للتعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا { أليس الله بأعلم بالشاكرين } بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوقفه وبمن لا يقع منه فيخذله .
وقوله تعالى : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } الآية { فتنا } معناه في هذه الآية : ابتلينا ، فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى ، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيه قدراً ومنزلة ، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضعفة و { ليقولوا } معناه ليصير بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا ، فهي لام الصيرورة كما قال تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً }{[4931]} أي ليصير مثاله أن يكون لهم عدواً وقول المشركين على هذا التأويل { أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } هو على جهة الاستخفاف والهزء ويحتمل الكلام معنى آخر وهو أن تكون اللام في { ليقولوا } على بابها في لام ( كي ) وتكون المقالة منهم استفهاماً لأنفسهم ومباحثة لها وتكون سبب إيمان من سبق إيمانه منهم ، فمعنى الآية على هذا التأويل وكذلك ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبب نظر لمن هدي .
قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول أسبق والثاني يتخرج ، و[ منّ ] على كلا التأويلين إنما هي على معتقد المؤمنين ، أي هؤلاء منّ الله عليهم بزعمهم أن دينهم منة ، وقوله { أليس الله بأعلم بالشاكرين } أي يا أيها المستخفون أو المتعجبون على التأويل الآخر ليس الأمر أمر استخفاف ولا تعجب ، فالله أعلم بمن يشكر نعمته والمواضع التي ينبغي أن يوضع فيها فجاء إعلامهم بذلك في لفظ التقدير إذ ذلك بين لا تمكنهم فيه معاندة{[4932]} .
الواو استئنافية كما هي في نظائره . والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّ السامع لمَّا شعر بقصّة أومأ إليها قوله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم } [ الأنعام : 52 ] الآية يأخذه العجب من كبرياء عظماء أهل الشرك وكيف يرضَوْن البقاء في ضلالة تكبّراً عن غشيَان مجلس فيه ضعفاء الناس من الصالحين ، فأجيب بأنّ هذا الخلق العجيب فتنة لهم خلقها الله في نفوسهم بسوء خلُقهم .
وقعت هذه الجملة اعتراضاً بين الجملتين المتعاطفتين تعجيلاً للبيان ، وقرنت بالواو للتنبيه على الاعتراض ، وهي الواو الاعتراضية ، وتسمَّى الاستئنافية ؛ فبيَّن الله أنّ داعيهم إلى طلب طردهم هو احتقار في حسد ؛ والحسد يكون أعظم ما يكون إذا كان الحاسد يرى نفسه أولى بالنعمة المحسود عليها ، فكان ذلك الداعي فتنة عظيمة في نفوس المشركين إذ جمعتْ كبراً وعُجباً وغروراً بما ليس فيهم إلى احتقار للأفاضل وحسد لهم ، وظلم لأصحاب الحق ، وإذ حالت بينهم وبين الإيمان والانتفاع بالقرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم .
والتشبيه مقصود منه التعجيب من المشبّه بأنَّه بلغ الغاية في العجب .
واسم الإشارة عائد إلى الفتون المأخوذ من « فتنّا » كما يعود الضمير على المصدر في نحو { اعدلوا هو أقرب للتقوى } ، أي فتنّا بعضهم ببعض فتوناً يرغب السامع في تشبيهه وتمثيله لتقريب كنهه فإذا رام المتكلّم أن يقرّبه له بطريقة التشبيه لم يجد له شبيهاً في غرائبه وفظاعته إلاّ أن يشبّهه بنفسه إذ لا أعجب منه ، على حدّ قولهم : والسفاعة كاسمها .
وليس ثمّة إشارة إلى شيء متقدّم مغاير للمشبّه . وجيء باسم إشارة البعيد للدلالة على عظم المشار إليه . وقد تقدّم تفصيل مثل هذا التشبيه عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة [ البقرة : 143 ] .
والمراد بالبعض المنصوب المشركون فهم المفتونون ، وبالبعض المجرور بالباء المؤمنون ، أي فتنَّا عظماءَ المشركين في استمرار شركهم وشِرْك مقلِّديهم بحال الفقراء من المؤمنين الخالصين كما دلّ عليه قوله : { لِيَقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } [ الأنعام : 53 ] فإنّ ذلك لا يقوله غير المشركين ، وكما يؤيِّده قوله تعالى في تذييله { أليس الله بأعلمَ بالشاكرين } .
والقول يحتمل أن يكون قولاً منهم في أنفسهم أو كلاماً قالوه في مَلئهم . وأيّاً ما كان فهم لا يقولونه إلاّ وقد اعتقدوا مضمونه ، فالقائلون { أهؤلاء مَنّ الله عليهم } هم المشركون .
واللام في قوله : { ليقولوا } لام التعليل ، ومدخولها هو أثرُ العلّة دالّ عليها بعد طيِّها على طريقة الإيجاز . والتقدير : فتنَّاهم ليَرَوْا لأنفسهم شفوفاً واستحقاقاً للتقدّم في الفضائل اغتراراً بحال الترفّه فيعجبوا كيف يُدعى أنّ الله يمنّ بالهدى والفضل على ناس يرونهم أحطّ منهم ، وكيف يُعَدّونهم دونَهم عند الله ، وهذا من الغرور والعُجب الكاذب . ونظيره في طيّ العلَّة والاقتصار على ذكر أثرها قول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقدمتُ والخَطِّيُّ يَخطِرُ بَيْنَنَا *** لأعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا من شُجاعها
أي ليظهر الجَبَان والشجاع فأعلَمَهُمَا .
والاستفهام مستعمل في التعجّب والإنكار ، كما هو في قوله { أألقي الذكرُ عليه من بيننا } [ القمر : 25 ] . والإشارة مستعملة في التحقير أو التعجيب كما هي في قوله تعالى حكاية عن قول المشركين { أهذا الذي يذكر آلهتكم } في سورة [ الأنبياء : 36 ] .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوية الخبر .
وقولهم : { مَنّ الله عليهم } قالوه على سبيل التهكّم ومجاراة الخصم ، أي حيث اعتقد المؤمنون أنّ الله منّ عليهم بمعرفة الحق وحَرم صناديد قريش ، فلذلك تعجَّب أولئك من هذا الاعتقاد ، أي كيف يُظنّ أنّ الله يمنّ على فقراء وعبيد ويترك سادة أهل الوادي . وهذا كما حكى الله عنهم { وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] . وهذه شنشنة معروفة من المستكبرين والطغاة . وقد حدث بالمدينة مثل هذا . روى البخاري أنّ الأقرع بن حابس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنّما بايعَك سُرّاقُ الحجيج مِنْ أسْلَمَ وغِفار ومُزَيْنَة وجُهَيْنَة فقال له رسول الله : أرأيْتَ إنْ كانت أسْلَمُ وغِفَارُ ومزينةُ وجهينةُ خيراً من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفانُ أخابوا وخسروا ( أي أخاب بنو تميم ومن عُطف عليهم ) فقال : نعم قال : فَوالذي نفسي بيده إنّهم لَخير منهم .
وفي الآية معنى آخر ، وهو أن يكون القول مضمراً في النفس ، وضميرُ { ليقولوا } عائداً إلى المؤمنين الفقراء ، فيكونوا هم البعض المفتونين ، ويكون البعض المجرور بالباء صادقاً على أهل النعمة من المشركين ، وتكون إشارة { هؤلاء } راجعة إلى عظماء المشركين ويكون المراد بالمَنّ إعطاء المال وحُسْن حال العيش ، ويكون الاستفهام مستعملاً في التحيّر على سبيل الكناية ، والإشارةُ إلى المشركين معتبر فيها ما عرفوا به من الإشراك وسوء الاعتقاد في الله . والمعنى : وكذلك الفتوننِ الواقع لِعظماء المشركين ، وهو فتون الإعجاب والكبرياء حين ترفّعوا عن الدخول فيما دخل فيه الضعفاء والعبيد من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته استكباراً عن مساواتهم ، كذلك كان فتون بعض آخر وهم بعض المؤمنين حين يشاهدون طيب عيش عظماء المشركين في الدنيا مع إشراكهم بربِّهم فيعجبون كيف منّ الله بالرزق الواسع على من يكفرون به ولم يمُنّ بذلك على أوليائه وهم أولى بنعمة ربِّهم . وقد أعرض القرآن عن التصريح بفساد هذا الخاطر النفساني اكتفاء بأنَّه سمَّاه فتنة ، فعلم أنّه خاطر غير حقّ ، وبأنّ قوله : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } مشير إلى إبطال هذه الشبهة . ذلك بأنَّها شبهة خلطت أمر شيئين متفارقين في الأسباب ، فاشتبه عليهم الجزاء على الإيمان وما أعدّ الله لأهله من النعيم الخالد في الآخرة ، المترتِّب عليه ترتّب المسبّب على السبب المجعول عن حكمة الله تعالى ، بالرزق في الدنيا المترتِّب على أسباب دنيوية كالتجارة والغزو والإرث والهبات .
فالرزق الدنيوي لا تسبّب بينه وبين الأحوال القلبية ولكنّه من مسبّبات الأحوال الماديَّة فالله أعلم بشكر الشاكرين ، وقد أعدّ لهم جزاء شكرهم ، وأعلمُ بأسباب رزق المرزوقين المحْظوظين . فالتخليط بين المقامين من ضعف الفكر العارض للخواطر البشرية والناشىء عن سوء النظر وترك التأمّل في الحقائق وفي العلل ومعلولاتها . وكثيراً ما عرضت للمسلمين وغيرهم شُبه وأغلاط في هذا المعنى صرفتهم عن تطلّب الأشياء من مظانّها وقعدت بهم عن رفْو أخْلالهم في الحياة الدنيا أو غرّتْهُم بالتفريط فيما يجب الاستعداد له كل ذلك للتخليط بين الأحوال الدينية الأخروية وبين السنن الكونية الدنيوية ، كما عرض لابن الراوندي من حيرة الجهل في قوله :
كَمْ عالممٍ عَالم أعْيَتْ مذاهبُه *** وجَاهلٍ جاهللٍ تلقّاه مرزوقاً
هَذا الذي ترك الأوْهَامَ حائِرَةً *** وصَيَّرَ العالم النِّحْرير زنديقاً
ولا شكّ أنّ الذين استمعوا القرآن ممّن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم قد اهتدوا واستفاقوا ، فمن أجل ذلك تأهَّلوا لامتلاك العالم ولاَقُوا .
و { مِنْ } في قوله { مِنْ بيننا } ابتدائية . و ( بين ) ظرف يدلّ على التوسّط ، أي مَنّ الله عليهم مختاراً لهم من وسطنا ، أي منّ عليهم وتركنا ، فيؤول إلى معنى من دوننا .
وقوله : { أليس الله بأعلمَ بالشاكرين } تذييل للجملة كلّها ، فهو من كلام الله تعالى وليس من مقول القول ، ولذلك فصل . والاستفهام تقريري . وعديّ { أعلَمَ } بالباء لأنَّه بصيغة التفضيل صار قاصراً . والمعنى أنّ الله أعلم بالشاكرين من عباده فلذلك منّ على الذين أشاروا إليه بقولهم : { أهؤلاء مَنّ الله عليهم } بمنَّة الإيمان والتوفيق .
ومعنى علمه تعالى بالشاكرين أنَّه أعلم بالذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستجيبين لدعوته بقريحة طالبين النجاة من الكفر راغبين في حسن العاقبة ، فهو يلطف بهم ويسهِّل لهم الإيمان ويحبِّبه إليهم ويزيّنه في قلوبهم ويزيدهم يوماً فيوماً تمكّناً منه وتوفيقاً وصلاحاً ، فهو أعلم بقلوبهم وصدقهم من الناس الذين يحسبون أنّ رثاثة حال بعض المؤمنين تطابق حالة قلوبهم في الإيمان فيأخذون الناس ببزّاتهم دون نيَّاتهم . فهذا التذييل ناظر إلى قوله : { إنّما يستجيب الذين يسمعون } [ الأنعام : 36 ] .
وقد عُلم من قوله : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } أنَّه أيضاً أعلم بأضدادهم . ضدّ الشكر هو الكفر ، كما قال تعالى : { لئن شكرتم لأزيدنَّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد } [ إبراهيم : 7 ] فهو أعلم بالذين يأتون الرسول عليه الصلاة والسلام مستهزئين متكبِّرين لا هَمّ لهم إلاّ تحقير الإسلام والمسلمين ، وقد استفرغوا وسعهم ولبّهم في مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم وتضليل الدهماء في حقيقة الدين . ففي الكلام تعريض بالمشركين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض}، يقول: هكذا ابتلينا فقراء المسلمين من العرب والموالي بالعرب من المشركين: أبي جهل، والوليد، وعتبة، وأمية، وسيهل بن عمرو، ونحوهم، {ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم}، يعني أنعم الله عليهم بالإسلام، {من بيننا}، يقول الله: {أليس الله بأعلم بالشاكرين}، يعني بالموحدين منكم من غيره، وفيهم نزلت في الفرقان: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة...} (الفرقان: 20)، إلى آخر الآية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ": وكذلك اختبرنا وابتلينا... وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى الفتنة، وأنها الاختبار والابتلاء، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإنما فتنة الله تعالى بعض خلقه ببعض، مخالفته بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق، فجعل بعضا غنيا وبعضا فقيرا وبعضا قويا وبعضا ضعيفا، فأحوج بعضهم إلى بعض، اختبارا منه لهم بذلك... فقال الأغنياء للفقراء: "أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا "يعني: هداهم الله، وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية.
"لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا "يقول تعالى: اختبرنا الناس بالغنى والفقر والعزّ والذلّ والقوّة والضعف والهدى والضلال، كي يقول من أضله الله وأعماه عن سبيل الحقّ للذين هداهم الله ووفقهم: أهؤلاء منّ الله عليهم بالهدى والرشد وهم فقراء ضعفاء أذلاء من بيننا ونحن أغنياء أقوياء استهزاء بهم، ومعاداة للإسلام وأهله. يقول تعالى: "ألَيْسَ اللّهُ بأعْلَمَ بالشّاكرِينَ" وهذا منه تعالى إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحقّ، وخذلهم عنه وهم أغنياء، وتقرير لهم أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرا نعمتي ممن هو لها كافر، فمَنّي على من مننت عليه منهم بالهداية جزاء شكره إياي على نعمتي، وتخذلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد عقوبة كفرانه إياي نعمتي لا لغنى الغنيّ منهم ولا لفقر الفقير لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحد إلاّ جزاء على عمله الذي اكتسبه لا على غناه وفقره، لأن الغنى والفقر والعجز والقوّة ليس من أفعال خلقي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
..وأشد المحن أن يؤمر المتبوع ومن يرى لنفسه فضلا بالخضوع للتابع ومن هو دونه. عنده يشتد ذلك عليه، ويتعذر كما كانوا يرون هم لأنفسهم الفضل والمنزلة في أمر الدنيا، فظنوا أنهم كذلك يكونون في أمر الدين. وعلى ذلك يخرج، لما امتحن إبليس بالسجود لآدم رأى لنفسه فضلا عليه، قوله: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [الأعراف: 12 و ص: 76]، ولم ير الخضوع لمن دونه عدلا وحكمة، فصار ما صار. فعلى ذلك هؤلاء لم يروا أولئك الضعفة أن يكونوا متبوعين عدلا وحكمة، [وظنوا أنهم] لما كانوا مفضلين في أمر الدنيا، وكان لهؤلاء إليهم حاجة يكونون في أمر الدين كذلك، ويقولون: {لو كان خيرا ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11] ونحوه من الكلام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وكذلك فَتَنَّا} ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أي ابتليناهم بهم. وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين {أهؤلاء} الذين {مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء، إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير، ونحوه {أَألْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} [القمر: 25]، {وَلَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف.
ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك: خذلناهم فافتتنوا، حتى كان افتنانهم سبباً لهذا القول، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلاّ مخذول مفتون. {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان. وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض}... فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيه قدراً ومنزلة، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضعفة.
المسألة الثالثة: في كيفية افتتان البعض بالبعض وجوه: الأول: أن الغنى والفقر كانا سببين لحصول هذا الافتتان كما ذكرنا في قصة نوح عليه السلام، وكما قال في قصة قوم صالح {قال الذين استكبروا إنا بالذي ءامنتم به كافرون} والثاني: ابتلاء الشريف بالوضيع. والثالث: ابتلاء الذكي بالأبله.
وبالجملة فصفات الكمال مختلفة متفاوتة، ولا تجتمع في إنسان واحد البتة، بل هي موزعة على الخلق وصفات الكمال محبوبة لذاتها، فكل أحد يحسد صاحبه على ما آتاه الله من صفات الكمال. فأما من عرف سر الله تعالى في القضاء والقدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض للخلق، وعاش عيشا طيبا في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وهذا الرد على المشركين هنا يدل على أنه لا يدوم لهم من النعم ما اغتروا به، ولا يبقى المؤمنون على الضعف الذي صبروا عليه، بل لا بد من أن تنعكس الحال، فيسلب أولئك الأقوياء ما أعطوا من القوة والمال، وتدول الدولة لهؤلاء الضعفاء من المؤمنين، فيكونوا هم الأئمة الوارثين، لأن الله تعالى وفقهم للإيمان بما في أنفسهم من الاستعداد للشكر وهو يوجب المزيد {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم: 9] وكذلك كان، وصدق وعد الرحمن، وظهر إعجاز القرآن، وما بعد بيان الله تعالى من بيان، وإننا نرى الناس عن هدايته غافلون، وبوجوه إعجازه جاهلون، حتى إن فيمن يسمون المسلمين منهم، من يفتتن بشبهة أولئك المشركين الداحضة، فيجعلها حجة ناهضة، تارة على تفضيل الأغنياء على الفقراء، وتارة على تفضيل الأمم القوية على الأمم الضعيفة، جاهلين أن الفضيلة الصحيحة في شكر النعم باستعمالها فيما يرضي الرب، لا في أعيان النعم التي ترى في اليد، فرب غني شاكر، ورب فقير صابر، وكم من منعم سلب النعمة بكفرها، وكم من محروم أوتي النعم بالاستعداد لشكرها، ثم زيدت بقدر شكره لها، وكم من قوي أضعفه الله ببغيه، وكم من ذليل أعزه الله يإيمانه وعدله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟) ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء: (أليس الله بأعلم بالشاكرين)؟ هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات: إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة، التي لا كفاء لها من شكر العبد، ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء. وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية. إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها. لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء. فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات! وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء. وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد. وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله..
الواو استئنافية كما هي في نظائره. والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّ السامع لمَّا شعر بقصّة أومأ إليها قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم} [الأنعام: 52] الآية يأخذه العجب من كبرياء عظماء أهل الشرك وكيف يرضَوْن البقاء في ضلالة تكبّراً عن غشيَان مجلس فيه ضعفاء الناس من الصالحين، فأجيب بأنّ هذا الخلق العجيب فتنة لهم خلقها الله في نفوسهم بسوء خلُقهم.
وقعت هذه الجملة اعتراضاً بين الجملتين المتعاطفتين تعجيلاً للبيان، وقرنت بالواو للتنبيه على الاعتراض، وهي الواو الاعتراضية، وتسمَّى الاستئنافية؛ فبيَّن الله أنّ داعيهم إلى طلب طردهم هو احتقار في حسد؛ والحسد يكون أعظم ما يكون إذا كان الحاسد يرى نفسه أولى بالنعمة المحسود عليها، فكان ذلك الداعي فتنة عظيمة في نفوس المشركين إذ جمعتْ كبراً وعُجباً وغروراً بما ليس فيهم إلى احتقار للأفاضل وحسد لهم، وظلم لأصحاب الحق، وإذ حالت بينهم وبين الإيمان والانتفاع بالقرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
والتشبيه مقصود منه التعجيب من المشبّه بأنَّه بلغ الغاية في العجب.
واسم الإشارة عائد إلى الفتون المأخوذ من « فتنّا» كما يعود الضمير على المصدر في نحو {اعدلوا هو أقرب للتقوى}، أي فتنّا بعضهم ببعض فتوناً يرغب السامع في تشبيهه وتمثيله لتقريب كنهه فإذا رام المتكلّم أن يقرّبه له بطريقة التشبيه لم يجد له شبيهاً في غرائبه وفظاعته إلاّ أن يشبّهه بنفسه إذ لا أعجب منه، على حدّ قولهم: والسفاعة كاسمها.
وليس ثمّة إشارة إلى شيء متقدّم مغاير للمشبّه. وجيء باسم إشارة البعيد للدلالة على عظم المشار إليه. وقد تقدّم تفصيل مثل هذا التشبيه عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} في سورة [البقرة: 143].
والمراد بالبعض المنصوب المشركون فهم المفتونون، وبالبعض المجرور بالباء المؤمنون، أي فتنَّا عظماءَ المشركين في استمرار شركهم وشِرْك مقلِّديهم بحال الفقراء من المؤمنين الخالصين كما دلّ عليه قوله: {لِيَقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا} [الأنعام: 53] فإنّ ذلك لا يقوله غير المشركين، وكما يؤيِّده قوله تعالى في تذييله {أليس الله بأعلمَ بالشاكرين}.
والقول يحتمل أن يكون قولاً منهم في أنفسهم أو كلاماً قالوه في مَلئهم. وأيّاً ما كان فهم لا يقولونه إلاّ وقد اعتقدوا مضمونه، فالقائلون {أهؤلاء مَنّ الله عليهم} هم المشركون.
واللام في قوله: {ليقولوا} لام التعليل، ومدخولها هو أثرُ العلّة دالّ عليها بعد طيِّها على طريقة الإيجاز. والتقدير: فتنَّاهم ليَرَوْا لأنفسهم شفوفاً واستحقاقاً للتقدّم في الفضائل اغتراراً بحال الترفّه فيعجبوا كيف يُدعى أنّ الله يمنّ بالهدى والفضل على ناس يرونهم أحطّ منهم، وكيف يُعَدّونهم دونَهم عند الله، وهذا من الغرور والعُجب الكاذب...
... والاستفهام مستعمل في التعجّب والإنكار، كما هو في قوله {أألقي الذكرُ عليه من بيننا} [القمر: 25]. والإشارة مستعملة في التحقير أو التعجيب كما هي في قوله تعالى حكاية عن قول المشركين {أهذا الذي يذكر آلهتكم} في سورة [الأنبياء: 36].
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوية الخبر.
وقولهم: {مَنّ الله عليهم} قالوه على سبيل التهكّم ومجاراة الخصم، أي حيث اعتقد المؤمنون أنّ الله منّ عليهم بمعرفة الحق وحَرم صناديد قريش، فلذلك تعجَّب أولئك من هذا الاعتقاد، أي كيف يُظنّ أنّ الله يمنّ على فقراء وعبيد ويترك سادة أهل الوادي. وهذا كما حكى الله عنهم {وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]. وهذه شنشنة معروفة من المستكبرين والطغاة. وقد حدث بالمدينة مثل هذا. روى البخاري أنّ الأقرع بن حابس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّما بايعَك سُرّاقُ الحجيج مِنْ أسْلَمَ وغِفار ومُزَيْنَة وجُهَيْنَة فقال له رسول الله: أرأيْتَ إنْ كانت أسْلَمُ وغِفَارُ ومزينةُ وجهينةُ خيراً من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفانُ أخابوا وخسروا (أي أخاب بنو تميم ومن عُطف عليهم) فقال: نعم قال: فَوالذي نفسي بيده إنّهم لَخير منهم.
وفي الآية معنى آخر، وهو أن يكون القول مضمراً في النفس، وضميرُ {ليقولوا} عائداً إلى المؤمنين الفقراء، فيكونوا هم البعض المفتونين، ويكون البعض المجرور بالباء صادقاً على أهل النعمة من المشركين، وتكون إشارة {هؤلاء} راجعة إلى عظماء المشركين ويكون المراد بالمَنّ إعطاء المال وحُسْن حال العيش، ويكون الاستفهام مستعملاً في التحيّر على سبيل الكناية، والإشارةُ إلى المشركين معتبر فيها ما عرفوا به من الإشراك وسوء الاعتقاد في الله. والمعنى: وكذلك الفتوننِ الواقع لِعظماء المشركين، وهو فتون الإعجاب والكبرياء حين ترفّعوا عن الدخول فيما دخل فيه الضعفاء والعبيد من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته استكباراً عن مساواتهم، كذلك كان فتون بعض آخر وهم بعض المؤمنين حين يشاهدون طيب عيش عظماء المشركين في الدنيا مع إشراكهم بربِّهم فيعجبون كيف منّ الله بالرزق الواسع على من يكفرون به ولم يمُنّ بذلك على أوليائه وهم أولى بنعمة ربِّهم. وقد أعرض القرآن عن التصريح بفساد هذا الخاطر النفساني اكتفاء بأنَّه سمَّاه فتنة، فعلم أنّه خاطر غير حقّ، وبأنّ قوله: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} مشير إلى إبطال هذه الشبهة. ذلك بأنَّها شبهة خلطت أمر شيئين متفارقين في الأسباب، فاشتبه عليهم الجزاء على الإيمان وما أعدّ الله لأهله من النعيم الخالد في الآخرة، المترتِّب عليه ترتّب المسبّب على السبب المجعول عن حكمة الله تعالى، بالرزق في الدنيا المترتِّب على أسباب دنيوية كالتجارة والغزو والإرث والهبات.
فالرزق الدنيوي لا تسبّب بينه وبين الأحوال القلبية ولكنّه من مسبّبات الأحوال الماديَّة فالله أعلم بشكر الشاكرين، وقد أعدّ لهم جزاء شكرهم، وأعلمُ بأسباب رزق المرزوقين المحْظوظين. فالتخليط بين المقامين من ضعف الفكر العارض للخواطر البشرية والناشىء عن سوء النظر وترك التأمّل في الحقائق وفي العلل ومعلولاتها. وكثيراً ما عرضت للمسلمين وغيرهم شُبه وأغلاط في هذا المعنى صرفتهم عن تطلّب الأشياء من مظانّها وقعدت بهم عن رفْو أخْلالهم في الحياة الدنيا أو غرّتْهُم بالتفريط فيما يجب الاستعداد له كل ذلك للتخليط بين الأحوال الدينية الأخروية وبين السنن الكونية الدنيوية...
... ولا شكّ أنّ الذين استمعوا القرآن ممّن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم قد اهتدوا واستفاقوا، فمن أجل ذلك تأهَّلوا لامتلاك العالم ولاَقُوا.
و {مِنْ} في قوله {مِنْ بيننا} ابتدائية. و (بين) ظرف يدلّ على التوسّط، أي مَنّ الله عليهم مختاراً لهم من وسطنا، أي منّ عليهم وتركنا، فيؤول إلى معنى من دوننا.
وقوله: {أليس الله بأعلمَ بالشاكرين} تذييل للجملة كلّها، فهو من كلام الله تعالى وليس من مقول القول، ولذلك فصل. والاستفهام تقريري. وعديّ {أعلَمَ} بالباء لأنَّه بصيغة التفضيل صار قاصراً. والمعنى أنّ الله أعلم بالشاكرين من عباده فلذلك منّ على الذين أشاروا إليه بقولهم: {أهؤلاء مَنّ الله عليهم} بمنَّة الإيمان والتوفيق.
ومعنى علمه تعالى بالشاكرين أنَّه أعلم بالذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستجيبين لدعوته بقريحة طالبين النجاة من الكفر راغبين في حسن العاقبة، فهو يلطف بهم ويسهِّل لهم الإيمان ويحبِّبه إليهم ويزيّنه في قلوبهم ويزيدهم يوماً فيوماً تمكّناً منه وتوفيقاً وصلاحاً، فهو أعلم بقلوبهم وصدقهم من الناس الذين يحسبون أنّ رثاثة حال بعض المؤمنين تطابق حالة قلوبهم في الإيمان فيأخذون الناس ببزّاتهم دون نيَّاتهم. فهذا التذييل ناظر إلى قوله: {إنّما يستجيب الذين يسمعون} [الأنعام: 36].
وقد عُلم من قوله: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} أنَّه أيضاً أعلم بأضدادهم. ضدّ الشكر هو الكفر، كما قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنَّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد} [إبراهيم: 7] فهو أعلم بالذين يأتون الرسول عليه الصلاة والسلام مستهزئين متكبِّرين لا هَمّ لهم إلاّ تحقير الإسلام والمسلمين، وقد استفرغوا وسعهم ولبّهم في مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم وتضليل الدهماء في حقيقة الدين. ففي الكلام تعريض بالمشركين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الذين يسارعون إلى الإيمان بوحدانية الديان هم أصحاب الفضل لأنهم هم الذين يسارعون إلى الشكر ودعوة الله وعبادته والإذعان له. الله هو وحده العالم بمن يستحق الفضل وبمن يشكره وهو المستحق للفضل منه، وأفعل التفضيل على غير بابه، والمراد أنه سبحانه يعلم الشاكرين علما ليس فوقه علم، فهو وحده العليم السميع البصير.
ويمتحن الله البعض بالفتنة، والفتنة هي الاختبار. إن بعضا من الناس يظن أن الفتنة أمر مذموم، لا، إن الفتنة لا تذم لذاتها، وإنما تذم لما تؤول إليه. فالاختبار – إذن – لا يذم لذاته، وإنما يذم لما يؤول إليه. وتأتي الفتنة ليرى صدق اليقين الإيماني، وها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3)} (سورة العنكبوت) إن الحق سبحانه يختبر مدى صدق الإنسان حين يعلن الإيمان، إنه – سبحانه – يختبرهم بالمحن والنعم، وقد اختبر الحق الأمم السابقة بالتكاليف والنعم والمحن ويظهر ويبرز إلى الوجود ما سبق أن علمه سبحانه أزلا، ويميز أهل الصدق في الإيمان عن الكاذبين في الإيمان، فمن صبر على الاختبار والفتنة فقد ثبت صدقه ويقينه، ومن لم يصبر فقد دل بعمله هذا على أنه كان يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ورضي، وإن أصابه شر وفتنه انقلب على وجهه ونكص على عقبيه فخسر الدنيا والآخرة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ واحداً من دلائل عظمة الإِسلام والقرآن، وعظمة مدرسة الأنبياء عموماً، هو أنّها وقفت ثابتة لا تتزحزح في وجه أمثال هذه الطلبات، وراحت تحطم هذه الامتيازات الموهومة في كل المجتمعات التي تعتبر التمايز الطبقي مسألة ثابتة، لتعلن أنّ الفقر ليس نقصاً في أشخاص مثل سلمان وأبي ذر وخباب وبلال، كما أنّ الثروة ليست امتيازا اجتماعيا أو معنوياً لهؤلاء الأثرياء الفارغين المتحجرين المتكبرين.