فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة ، قال له فتاه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ْ } أي : ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان ْ } لأنه السبب في ذلك { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ْ } أي : لما انسرب في البحر ودخل فيه ، كان ذلك من العجائب .
قال المفسرون : كان ذلك المسلك للحوت سربا ، ولموسى وفتاه عجبا ، فلما قال له الفتى هذا القول ، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت ، وجد الخضر ، فقال موسى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ْ }
( فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا . فلما جاوزا قال لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . ) . .
والأرجح كذلك أن هذا الحوت كان مشويا ، وأن إحياءه واتخاذه سبيله في البحر سربا كان آية من آيات الله لموسى ، يعرف بهما موعده ، بدليل عجب فتاه من اتخاذه سبيله في البحر ، ولو كان يعني أنه سقط منه فغاص في البحر ما كان في هذا عجب . ويرجح هذا الوجه أن الرحلة كلها مفاجآت غيبية . فهذه إحداها .
قال : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } قال قتادة : وقرأ ابن مسعود : [ " وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان ]{[18318]} ، ولهذا قال : { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } أي : طريقه { فِي الْبَحْرِ عَجَبًا }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً } .
يقول تعالى ذكره : قال فتى موسى لموسى حين قال له : آتنا غداءنا لنطعم : أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت هنالك وَما أنْسانيهُ إلاّ الشّيْطانُ يقول : وما أنساني الحوت إلا الشيطان أنْ أذْكُرَهُ فأن في موضع نصب ردّا على الحوت ، لأن معنى الكلام : وما أنساني أن أذكر الحوت إلا الشيطان سبق الحوت إلى الفعل ، وردّ عليه قوله أنْ أذْكُرَهُ وقد ذكر أن ذلك في مصحف عبد الله : «وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان » .
حدثني بذلك بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حدثني العباس بن الوليد قال : سمعت محمد بن معقل ، يحدّث عن أبيه ، أن الصخرة التي أوى إليها موسى هي الصخرة التي دون نهر الذئب على الطريق .
واتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا يُعْجَبُ منه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فِي البَحْرِ عَجَبا قال : موسى يعجب من أثر الحوت في البحر ودوراته التي غاب فيها ، فوجد عندها خضرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : واتّخَذَ سَبيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا فكان موسى لما اتخذ سبيله في البحر عجبا ، يعجب من سرب الحوت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : واتّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبا قال : عجب والله حوت كان يؤكل منه أدهرا ، أيّ شيء أعجب من حوت كان دهرا من الدهور يؤكل منه ، ثم صار حيا حتى حشر في البحر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : جعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة ، فجعل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعجب من ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الحسن بن عطية ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس واتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا قال : يعني كان سرب الحوت في البحر لموسى عجبا .
{ قال أرأيت إذ أوينا } أرأيت ما دهاني إذ أوينا . { إلى الصخرة } يعني الصخرة التي رقد عندها موسى . وقيل هي الصخرة التي دون نهر الزيت . { فإني نسيت الحوت } فقدته أو نسيت ذكره بما رأيت منه . { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان فإن { أن أذكره } بدل من الضمير ، وقرئ " أن أذكركه " . وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه ، والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى مثلها لكنه لما ضرى بمشاهدة أمثالها عند موسى وألفها قل اهتمامه بها ، ولعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وإنجاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة ، وإنما نسبه إلى الشيطان هضما لنفسه أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بإحداهما عن الآخر يعد من نقصان . { واتخذ سبيله في البحر عجبا } سبيلا عجبا وهو كونه كالسرب أو اتخاذا عجبا ، والمفعول الثاني هو الظرف وقيل هو مصدر فعله المضمر أي قال في آخر كلامه ، أو موسى في جوابه عجبا تعجبا من تلك الحال . وقيل الفعل لموسى أي اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا .
وقوله { أرأيت } الآية حكى الطبري عن فرقة أنهة قالت الصخرة هي الشام عند نهر الذيب ، وقد تقدم ذكر الخلاف في موضع هذه القصة ، وقوله { نسيت الحوت } يريد نسيت ذكر ما جرى فيه لك ، وأما الكسائي وحده «أنسانيه » ، وقرأت فرقة «أنسانيه » وقرأ ابن كثير في الوصل «أنسانيهي » بياء بعد الهاء ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وما أنسانيه أن أذكركه إلا الشيطان » .
وقوله { أن أذكره } بدل من { الحوت } بدل اشتمال ، وقوله { واتخذ سبيله في البحر عجباً } يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى أي اتخذ الحوت سبيله عجباً للناس ، ويحتمل أن يكون قوله { واتخذ سبيله في البحر } تام الخبر ، فاستأنف التعجب فقال من قبل نفسه : { عجباً } لهذا الأمر ، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات وأكل شقه الأيسر ثم حيي بعد ذلك ، قال أبو شجاع في كتاب الطبري رأيته ، أتيت به فإذا هو شقة حوت ، وعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيء .
قال القاضي أبو محمد : وأنا رأيته والشق الذي فيه شيء عليه قشرة رقيقة يشق تحتها شوكة وشقه الآخر ، ويحتمل أن يكون قوله { واتخذ سبيله } الآية إخبار من الله تعالى ، وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجباً أي تعجب منه ، وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجباً للناس ، وقرأ أبو حيوة «واتخاذ سبيله » فهذا مصدر معطوف على الضمير في { أذكره } .
قوله : { نسيت الحوت } أي نسيت حفظه وافتقاده ، أي فانفلت في البحر .
وقوله : { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } . هذا نسيان آخر غير النسيان الأول ، فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه .
وقرأ حفص عن عاصم { وما أنسانيه } بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة . والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف .
و { أن أذكره } بدل اشتمال من ضمير { أنسانيه } لا من الحوت ، والمعنى : ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان . فالذكر هنا ذكر اللسان .
ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي وشدة عنايته بإخبار نبيئه به . ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان ألهاه بأشياء عن أن يتذكر ذلك الحادث العجيب وعلم يوشع أن الشيطان يَسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين ، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة فهو يصرف عنها ولو بتأخير وقوعها طمعاً في حدوث العوائق .
وجملة { واتخذ سبيله في البحر } عطف على جملة { فإني نسيت الحوت } وهي بقية كلام فتى موسى ، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر ، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتاً زمناً طويلاً .
وقوله : { عجباً } جملة مستأنفة ، وهي من حكاية قول الفتى ، أي أعجبُ له عجباً ، فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله .