وإياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالإمساك ، ويخوفكم بالفقر والحاجة إذا أنفقتم ، وليس هذا نصحا لكم ، بل هذا غاية الغش { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } بل أطيعوا ربكم الذي يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ولا يضركم ، ومع هذا فهو { يعدكم مغفرة } لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم { وفضلا } وإحسانا إليكم في الدنيا والآخرة ، من الخلف العاجل ، وانشراح الصدر ونعيم القلب والروح والقبر ، وحصول ثوابها وتوفيتها يوم القيامة ، وليس هذا عظيما عليه لأنه { واسع } الفضل عظيم الإحسان { عليم } بما يصدر منكم من النفقات قليلها وكثيرها ، سرها وعلنها ، فيجازيكم عليها من سعته وفضله وإحسانه ، فلينظر العبد نفسه إلى أي الداعيين يميل ، فقد تضمنت هاتان الآيتان أمورا عظيمة منها : الحث على الإنفاق ، ومنها : بيان الأسباب الموجبة لذلك ، ومنها : وجوب الزكاة من النقدين وعروض التجارة كلها ، لأنها داخلة في قوله : { من طيبات ما كسبتم } ومنها : وجوب الزكاة في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار والمعادن ، ومنها : أن الزكاة على من له الزرع والثمر لا على صاحب الأرض ، لقوله { أخرجنا لكم } فمن أخرجت له وجبت عليه ومنها : أن الأموال المعدة للاقتناء من العقارات والأواني ونحوها ليس فيها زكاة ، وكذلك الديون والغصوب ونحوهما إذا كانت مجهولة ، أو عند من لا يقدر ربها على استخراجها منه ، ليس فيها زكاة ، لأن الله أوجب النفقة من الأموال التي يحصل فيها النماء الخارج من الأرض ، وأموال التجارة مواساة من نمائها ، وأما الأموال التي غير معدة لذلك ولا مقدورا عليها فليس فيها هذا المعنى ، ومنها : أن الرديء ينهى عن إخراجه ولا يجزئ في الزكاة
ولما كان الكف عن الإنفاق ، أو التقدم بالرديء الخبيث ، إنما ينشأ عن دوافع السوء ، وعن تزعزع اليقين فيما عند الله ، وعن الخوف من الإملاق الذي لا يساور نفسا تتصل بالله ، وتعتمد عليه ، وتدرك أن مرد ما عندها إليه . . كشف الله للذين آمنوا عن هذه الدوافع لتبدو لهم عارية ، وليعرفوا من أين تنبت النفوس ؛ وما الذي يثيرها في القلوب . . إنه الشيطان . .
( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ، والله واسع عليم . يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وما يذكر إلا أولوا الألباب ) . .
الشيطان يخوفكم الفقر ، فيثير في نفوسكم الحرص والشح والتكالب . والشيطان يأمركم بالفحشاء - والفحشاء كل معصية تفحش أي تتجاوز الحد ، وإن كانت قد غلبت على نوع معين من المعاصي ولكنها شاملة . وخوف الفقر كان يدعو القوم في جاهليتهم لوأد البنات وهو فاحشة ؛ والحرص على جمع الثروة كان يؤدي ببعضهم إلى أكل الربا وهو فاحشة . . على أن خوف الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله في ذاته فاحشة . .
وحين يعدكم الشيطان الفقر ويأمركم بالفحشاء يعدكم الله المغفرة والعطاء :
( والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ) . .
ويقدم المغفرة ، ويؤخر الفضل . . فالفضل زيادة فوق المغفرة . وهو يشمل كذلك عطاء الرزق في هذه الأرض ، جزاء البذل في سبيل الله والإنفاق .
وقوله : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا هَنَّاد بن السِّرِي ، حدثنا أبو الأحوص ، عن عطاء بن السائب ، عن مرة الهَمْداني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن للشيطان لَلَمّة{[4473]} بابن آدم ، وللمَلك لَمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق . فمن وجد ذلك فليعلَمْ أنه من الله ، فَلْيحمَد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان " . ثم قرأ : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا } الآية .
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي{[4474]} التفسير من سُنَنَيْهما جميعًا ، عن هَنَّاد بن السِّرِي{[4475]} .
وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يعلى الموصلي ، عن هَنَّاد ، به{[4476]} . وقال الترمذي : حسن غريب ، وهو حديث أبي الأحوص - يعني سلام بن سليم - لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديثه . كذا قال . وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره ، عن محمد بن أحمد ، عن محمد بن عبد الله بن رُسْتَه ، عن هارون الفَرْوِي ، عن أبي ضَمْرة{[4477]} عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن مسعود ، مرفوعًا نحوه .
ولكن رواه مِسْعر ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، عن ابن مسعود . فجعله من قوله ، والله أعلم .
ومعنى قوله تعالى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ } أي : يخوفكم الفقر ، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله ، { وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ } أي : مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق ، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخَلاق ، قال [ الله ]{[4478]} تعالى : { وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ } أي : في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء { وَفَضْلا } أي : في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
{ الشّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللّهُ يَعِدُكُم مّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
يعني بذلك تعالى ذكره : الشيطان يعدكم أيها الناس بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم أن تفتقروا ، { ويأْمُرُكُمْ بالفَحْشَاءِ } يعني : ويأمركم بمعاصي الله عزّ وجلّ ، وترك طاعته { وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ } يعني أن الله عزّ وجلّ يعدكم أيها المؤمنون ، أن يستر عليكم فحشاءكم بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها ، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدّقون . { وَفَضْلاً } يعني : ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم ، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم . كما :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : اثنان من الله ، واثنان من الشيطان ، الشيطان يعدكم الفقر يقول : لا تنفق مالك ، وأمسكه عليك ، فإنك تحتاج إليه ، ويأمركم بالفحشاء¹ والله يعدكم مغفرة منه على هذه المعاصي وفضلاً في الرزق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأْمُرُكُمْ بالفَحْشاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً } يقول : مغفرة لفحشائكم ، وفضلاً لفقركم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن عطاء بن السائب ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ للشّيْطانِ لَمّةً مِنْ ابْنِ آدَمَ وللْمَلَكَ لَمّةً : فأمّا لَمّةٌ الشّيْطانِ : فإيعادٌ بالشّرّ ، وَتَكْذِيبٌ بالحَقّ¹ وأمّا لَمّةُ المَلَكِ : فإيعادٌ بالخَيْرِ ، وَتَصْدِيقٌ بالحَقّ . فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أنّهُ مِنَ اللّهِ وَلْيَحْمَدِ اللّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوّذْ باللّهِ مِنَ الشّيْطَانِ » ، ثُمّ قَرأ { الشّيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأْمُرُكُمْ بالفَحْشاءِ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكيم بن بشير بن سليمان ، قال : حدثنا عمرو ، عن عطاء بن السائب ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : إن للإنسان من المَلك لمة ، ومن الشيطان لمة¹ فاللمة من المَلك : إيعاد بالخير ، وتصديق بالحقّ ، واللمة من الشيطان : إيعاد بالشرّ ، وتكذيب بالحقّ . وتلا عبد الله : { الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرْكُمْ بالفَحْشاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً } . قال عمرو : وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال : إذا أحسّ أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله ، وليسأله من فضله ، وإذا أحسّ من لمة الشيطان شيئا ، فليستغفر الله وليتعوّذ من الشيطان .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن أبي الأحوص ، أو عن مرّة ، قال : قال عبد الله : ألا إن للملك لمة ، وللشيطان لمة¹ فلمة الملك : إيعاد بالخير وتصديق بالحق ، ولمة الشيطان : إيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ¹ وذلكم بأن الله يقول : { الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأمُرُكُمْ بالفَحْشَاءِ واللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله عليه ، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوّذوا بالله من الشيطان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : { الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بالفَحْشاءِ } قال : إن للمَلَكِ لَمّةً ، وللشيطان لمة¹ ؛ فَلَمّة المَلَك¹ إيعادٌ بالخير وتصديق بالحقّ ، فمَن وجدها فليحمد الله¹ ولمة الشيطان : إيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ ، فمن وجدها فليستعذ بالله .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن مرة الهمداني أن ابن مسعود قال : إن للملك لمة ، وللشيطان لمة¹ فلمة الملك : إيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ، ولمة الشيطان : إيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ . فمن أحسّ من لمة الملك شيئا فليحمد الله عليه ، ومن أحسّ من لمة الشيطان شيئا فليتعوّذ بالله منه . ثم تلا هذه الآية : { الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيأمُرُكُمْ بالفَحْشَاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَالله وَاسعٌ عَلِيمٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن فطر ، عن المسيب بن رافع ، عن عامر بن عبدة ، عن عبد الله ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن مرّة بن شراحيل ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إن للشيطان لمة ، وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فتكذيب بالحقّ وإيعاد بالشرّ . وأما لمة الملك : فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ . فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله عليه . ومن وجد الأخرى فليستعذ من الشيطان . ثم قرأ : { الشّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بالفَحْشاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
( يعني تعالى ذكره : والله واسع الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه ، عليم بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدّقون بها ، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم .
{ الشيطان يعدكم الفقر } في الإنفاق ، والوعد في الأصل شائع في الخير والشر . وقرئ { الفقر } بالضم والسكون وبضمتين وفتحتين . { ويأمركم بالفحشاء } ويغريكم على البخل ، والعرب تسمي البخيل فاحشا . وقيل المعاصي { والله يعدكم مغفرة منه } أي يعدكم في الإنفاق مغفرة لذنوبكم . { وفضلا } خلفا أفضل مما أنفقتم في الدنيا ، أو في الآخرة . { والله واسع } أي واسع الفضل لمن أنفق . { عليم } بإنفاقه .
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 268 )
هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن أمراً بالصدقة فهي جالبة النفوس إلى الصدقة( {[2645]} ) ، بين عز وجل فيها نزغات الشيطان ووسوسته وعداوته ، وذكر بثوابه هو لا رب غيره . وذكر بتفضله بالحكمة وأثنى عليها ، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون الذين يقيمون بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله عز وجل وغير ذلك ، ثم ذكر علمه بكل نفقة ونذر . وفي ذلك وعد ووعيد . ثم بين الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر المعنى . والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعد ما هو فقد يقيد بالخير وبالشر كالبشارة . فهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه وهو { الفقر } و { الفحشاء } كل ما فحش وفحش ذكره( {[2646]} ) ، ومعاصي الله كلها فحشاء ، وروى حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ «الفُقر » بضم الفاء ، وهي لغة ، وقال ابن عباس : في الآية اثنتان من الشيطان ، واثنتان من الله تعالى ، وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن للشيطان لمة من ابن آدم ، وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، فمن وجد ذلك فليتعوذ ، وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير فمن وجد ذلك فليحمد الله » ، ثم قرأ عليه السلام { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم } الآية( {[2647]} ) ، والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة ، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والتنعيم في الآخرة ، وبكل قد وعد الله تعالى ، وذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى . لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه .
قال القاضي أبو محمد : وليس في الآية حجة قاطعة أما إن المعارضة بها قوية وروي أن في التوراة «عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي ، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة »( {[2648]} ) وفي القرآن مصداقة : وهو { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، وهو خير الرازقين }( {[2649]} ) [ سبأ : 39 ] و { واسع } لأنه وسع كل شيء رحمة وعلماً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الشيطان يعدكم الفقر}: عند الصدقة، ويأمركم أن تمسكوا صدقتكم فلا تنفقوا فلعلكم تفتقرون، {ويأمركم بالفحشاء}: المعاصي، يعني بالإمساك عن الصدقة.
{والله يعدكم} عند الصدقة {مغفرة منه} لذنوبكم ويعدكم {وفضلا}: الخلف من صدقتكم، فيجعل لكم الخلف بالصدقة في الدنيا، ويغفر لكم الذنوب في الآخرة. {والله واسع} لذلك الفضل {عليم} بما تنفقون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الشيطان يعدكم أيها الناس بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم أن تفتقروا، {ويأْمُرُكُمْ بالفَحْشَاءِ}: ويأمركم بمعاصي الله عزّ وجلّ، وترك طاعته. {وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ}: أن الله عزّ وجلّ يعدكم أيها المؤمنون، أن يستر عليكم فحشاءكم بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدّقون. {وَفَضْلاً}: ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم.
{وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}: والله واسع الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه، عليم بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدّقون بها، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم.
قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} قد قيل إن الفحشاء تقع على وجوه، والمراد بها في هذا الموضع البخل. والعرب تسمِّي البخيلَ فاحشاً والبُخْلَ فُحْشاً وفحشاء.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{الشيطانُ يعدكم الفقر} فيشير عليكم بإحراز المعلوم، ويقال يشير عليكم -بطاعته- بالحرص؛ ولا فقرَ فوقه. يعدكم الفقر بالإحالة على تدبيركم واختياركم. يعدكم الفقر بنسيان ما تَعَوَّدْتُموه من فضله- سبحانه... ويقال يعدكم الفقر بتعليق قلبك بما لا تحتاج إليه. ويقال بالتلبيس عليك رؤية كفايته...
{وَيَأْمُرُكُم بِالفَحْشَاءِ}: أي الرغبة في الدنيا، ويقال بالأسباب التي تقوي الحرص، ويقال بكثرة الأمل ونسيان القناعة، ويقال بمتابعة الشهوات، ويقال بإيثار الحظوظ، ويقال بالنظر إلى غيره، ويقال بإخطار شيء سواه ببالك. ويقال بالانحطاط إلى أوطان الرُّخص والتأويلات بعد وضوح الحق. ويقال بالرجوع إلى ما تركته لله.
{وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً}: الفضل الموعود -في العاجل- القناعة، وفي الآجل الثواب والجنان والرؤية والرضوان ... والغفران. ويقال في العاجل الظفر بالنفس، ويقال فتح باب العرفان...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن أمراً بالصدقة فهي جالبة النفوس إلى الصدقة، بين عز وجل فيها نزغات الشيطان ووسوسته وعداوته، وذكر بثوابه هو لا رب غيره. وذكر بتفضله بالحكمة وأثنى عليها، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون الذين يقيمون بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله عز وجل وغير ذلك، ثم ذكر علمه بكل نفقة ونذر. وفي ذلك وعد ووعيد. ثم بين الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر المعنى.
والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعد ما هو فقد يقيد بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه وهو {الفقر}.
و {الفحشاء} كل ما فحش وفحش ذكره، ومعاصي الله كلها فحشاء... والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والتنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى، وذكر النقاش أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى. لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه...
نبه الله تعالى في هذه الآية على لطيفة: وهي أن الشيطان يخوفه أولا بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ويغريه بالبخل، وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد، فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلا بتقديم تلك المقدمة، وهي التخويف من الفقر...
[و] الانقياد لوعد الرحمن بالفضل والمغفرة أولى من الانقياد لوعد الشيطان...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق، والحث عليه، بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني. فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل، والداعي إلى البذل، والإنفاق، وبيان ما يدعو إليه داعي البخل، وما يدعو إليه داعي الإنفاق، وبيان ما يدعو به داعي الأمرين...
وهذا إجماع من المفسرين: أن الفحشاء هنا: البخل، فهذا وعده وهذا أمره. وهو الكاذب في وعده، الغار الفاجر في أمره. فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون. فإنه يدلي من يدعوه بغروره. ثم يورده شر الموارد...
هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه، ولا نصيحة له، كما ينصح الرجل أخاه، ولا محبة في بقائه غنيا، بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته. وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه، ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه، فيستوجب منه الحرمان. وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة. فهذا وعد الله، وذاك وعد الشيطان، فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق؟ وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه؟ والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء. وهو الواسع العليم.
وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين {والله واسع عليم} فإنه واسع العطاء، عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله، فيعطي هذا بفضله، ويمنع هذا بعدله. وهو بكل شيء عليم...
فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].
وتأمل ختم هذه السورة، التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام الأغنياء وأحوالهم. وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام: [القسم الأول] (محسن): وهم المتصدقون فذكر جزاءهم ومضاعفته، وما لهم في قرض أموالهم للمليء الوفي سبحانه، ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى، وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداء من الرياء. ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها، ولا تيمموا أردأها وخبيثها. ثم حذرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش، وأخبر أن استجابتهم لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وقال الحرالي: وكل ما اجتمعت عليه استقباحات العقل والشرع والطبع فهو فحشاء، وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء، لمناسبة ذكر الفقر، وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله انتهى وفيه تصرف...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{والله يعدكم} بما أنزله من الوحي وبما أودعه في النفوس الزكية من الإلهام الصحيح، والعقل الرجيح، وفي الفطر السليمة من حب الخير، والرغبة في البر {مغفرة منه وفضلا} فإنه جعل الإنفاق كفارة لكثير من الخطايا وسببا يفضل به المرء قومه ويسودهم أو يسود فيهم بما يجذب إليه من قلوب من يكون سببا في رزقهم وهذا الفضل من الجاه بالحق هكذا قال الأستاذ الإمام...
ومن مباحث اللفظ في الآية: استعمال الوعد في الخير والشر وهو شائع لغة، ثم جرى عرف الناس أن يخصوا الوعد بالخير والإيعاد بالشر. فإذا ذكروا الوعد مع الشر أرادوا به التهكم. على أن ما يعد به الشيطان من الفقر هو على تقدير الإنفاق. ويلزمه الوعد بالغنى مع البخل الذي يأمر به...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وإياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالإمساك، ويخوفكم بالفقر والحاجة إذا أنفقتم، وليس هذا نصحا لكم، بل هذا غاية الغش {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} بل أطيعوا ربكم الذي يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ولا يضركم، ومع هذا فهو {يعدكم مغفرة} لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم {وفضلا} وإحسانا إليكم في الدنيا والآخرة، من الخلف العاجل، وانشراح الصدر ونعيم القلب والروح والقبر، وحصول ثوابها وتوفيتها يوم القيامة، وليس هذا عظيما عليه لأنه {واسع} الفضل عظيم الإحسان {عليم} بما يصدر منكم من النفقات قليلها وكثيرها، سرها وعلنها، فيجازيكم عليها من سعته وفضله وإحسانه، فلينظر العبد نفسه إلى أي الداعيين يميل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قدّم اسم الشيطان مسنداً إليه لأنّ تقديمه مؤذن بذمّ الحكم الذي سيق له الكلام وشؤمِه لتحذير المسلمين من هذا الحكم، كما يقال في مثال علم المعاني « السَّفَّاح في دَار صديقك»، ولأنّ في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي تَقَوِّيَ الحُكم وتحقيقه. ومعنى {يعدكم} يسوّل لكم وقوعه في المستقبل إذا أنفقتم خيار أموالكم، وذلك بما يلقيه في قلوب الذين تخلّقوا بالأخلاق الشيطانية. وسمّي الإخبار بحصول أمر في المستقبل وعداً مجازاً لأنّ الوعد إخبار بحصول شيء في المستقبل من جهة المخبِر، ولذلك يقال: أنجز فلان وعده أو أخلف وعده، ولا يقولون أنجز خَبَره، ويقولون صدق خَبَرِه وصدَق وعده، فالوعد أخصّ من الخبر، وبذلك يؤذن كلام أئِمة اللغة. فشُبِّه إلقاء الشيطان في نفوسهم توقّع الفقر بوعد منه بحصوله لا محالة، ووجه الشبه ما في الوعد من معنى التحقق، وحسَّن هذا المجاز هنا مشاكلته لقوله: {والله يعدكم مغفرة} فإنّه وعد حقيقي. ثم إن كان الوعد يطلق على التعهد بالخير والشر كما هو كلام « القاموس» تبعاً لفصيح ثعلب ففي قوله يعدكم الفقر مجاز واحد، وإن كان خاصاً بالخير كما هو قول الزمخشري في الأساس، ففي قوله: {يعدكم الفقر} مجازان.
والفقر شدّة الحاجة إلى لوازم الحياة لقلة أو فقد ما يعاوض به، وهو مشتق من فقار الظهر، فأصله مصدر فَقَره إذا كسر ظهره، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأنّ الظَّهر هو مجمع الحركات، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة، وقاصمة الظهر.
والفحشاء اسم لفعل أو قول شديد السوء واستحقاق الذم عرفاً أو شرعاً. مشتق من الفحش بضم الفاء وسكون الحاء تجاوز الحد. وخصّه الاستعمال بالتجاوز في القبيح، أي يأمركم بفعل قبيح. وهذا ارتقاء في التحذير من الخواطر الشيطانية التي تدعو إلى الأفعال الذميمة، وليس المراد بالفحشاء البخل لأنّ لفظ الفحشاء لا يطلق على البخل وإن كان البخيل يسمّى فاحشاً. وإطلاق الأمر على وسوسة الشيطان وتأثير قوته في النفوس مجاز لأنّ الأمر في الحقيقة من أقسام الكلام. والتعريف في الفحشاء تعريف الجنس.
{والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله واسع عَلِيمٌ}. عطف على جملة {الشيطان يعدكم الفقر} لإظهار الفرق بين ما تدعو إليه وساوس الشيطان وما تدعو إليه أوامر الله تعالى، والوعد فيه حقيقة لا محالة. والقول في تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله: {والله يعدكم} على طريقة القول في تقديم اسم الشيطان في قوله: {الشيطان يعدكم الفقر}.
ومعنى « واسع» أنّه واسع الفضل، والوصف بالواسع مشتق من وَسِع المتعدي إذا عمّ بالعطاء ونحوه قال الله تعالى: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} [غافر: 7]، وتقول العرب: « لا يسعني أن أفعل كذا»، أي لا أجدُ فيه سعة، وفي حديث علي في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد وسع الناسَ بِشْرُه وخُلقُه". فالمعنى هنا أنّه وَسِعَ الناس والعالمين بعطائِه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} في هذه الجملة يبين سبحانه وتعالى بواعث الشر كامنة في نفس الإنسان، فالشيطان يجري في عروقه مجرى الدم، وهو يوسوس للإنسان بالشر، فإذا تقدم لينفق في سبيل الله، وإعلاء شأن الحق، أو سد حاجة المعوزين من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وسوس إليه بأن ذلك سبيل نفاذ المال، وأنه إذا ذهب ماله، ضاع وهانت حاله، ويوسوس له بذلك، فيحجم بعد إقدام، وإن أقدم فليعط قليلا من المال، أو ليتخير الحشف من ماله. هذه وسوسة الشيطان، وهذا مغزى قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر}...
فالمولى تعالت حكمته يعد المنفقين بأمرين: أولهما المغفرة، وثانيهما الفضل، وهو الزيادة في الدنيا والآخرة. فأما المغفرة، فلأن الصدقة التي يقصد بها وجه الله تعالى لا لأحد سواه، وليس فيها رياء ولا نفاق، ولم يعقبها منّ ولا أذى، تدل على نفس صافية خالصة مخلصة، متجهة إلى الله تعالى منصرفة، فإن كان منها في ماضيها ما يؤاخذ المرء عليه، فإن الله تعالى يغفر له، ويتوب عليه، ولقد قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود 114) وقال صلى الله عليه وسلم:"الصدقة تطفئ الخطيئة" ولأن النفس تكون صافية إذا كانت الصدقة على هذا الوجه، قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (التوبة 103) فالصدقة التي تؤدى ابتغاء وجه الله تعالى تطهر النفس كما تطهر المال، وتوجه النفس نحو الخير، كما تنمي المال. هذه هي المغفرة التي يعد الله سبحانه وتعالى بها، وأما الفضل وهو النماء والزيادة فإن ذلك يتحقق بالصدقات؛ لأنها تحدث البركة في الرزق فيكون القليل في يد المتصدق كثيرا بتوفيق الله تعالى، وبتوجيه من الله تعالى إلى السبل الناجحة، وإبعاده عما يذهب المال فيه ضياعا، وأن الفضل يتحقق بسيادة المرء على نفسه، ومن ساد على نفسه فقد ساد على غيره، والمنفق يغالب الأهواء فينتصر، فيشرف في نفسه، ويشرف أمام الناس، ثم إن الله سبحانه مخلف الرزق في الدنيا بالتيسير والتسهيل والرزق الوفير، وفي الآخرة بالنعيم المقيم، ولقد قال تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} (سبأ 39)...
فالغني حين يقبض يده عن المحتاج فإنه يدخل في قلب المحتاج الحقد. وأي مجتمع يدخل في قلبه الحقد نجد كل المنكرات تنتشر فيه. ويعالج الحق هذه المسائل بقوله: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم 36 إن يسألكموها فيُحفكم تبخلوا ويُخرج أضغانكم 37} (سورة محمد)...
إن الحق سبحانه وتعالى لا يسألك أن ترد عطاءه لك من المال، إنما يطلب الحق تطهير المال بالإنفاق منه في سبيل الله ليزيد ولينمو، وليخرج الضغن من المجتمع؛ لأن الضغن حين يدخل مجتمعا فعلى هذا المجتمع السلام. ولا يفيق المجتمع من هذا الضغن إلا بأن تأتيه ضربة قوية تزلزله، فينتبه إلى ضرورة إخراج الضغن منه. لذلك يحذّرنا الله أن نسمع للشيطان...
فالذي يسمع لقول الشيطان ووعده، ولا يستمع إلى وعد الله يصبح كمن رجّح عدو الله على الله أعاذنا الله وإياكم من مثل هذا الموقف إن الشيطان قد وسوس لكم بالفقر إذا أنفقتم، وخبرة الإنسان مع الشيطان تؤكد للإنسان أن الشيطان كاذب مضلل، وخبرة الإنسان مع الإيمان بالله تؤكد للإنسان أن الله واسع المغفرة، كثير العطاء لعباده. والحكمة تقتضي أن نعرف إلى أي الطرق نهتدي ونسير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير الآية هنا... تعقيباً على آيات الإنفاق إلى أحد الموانع المهمّة للإنفاق، وهو الوساوس الشيطانيّة التي تخوّف الإنسان من ا لفقر والعوز وخاصّة إذا أراد التصدّق بالأموال الطيّبة والمرغوبة، وما اكثر ما منعت الوساوس الشيطانيّة من الإنفاق المستحبّ في سبيل الله وحتّى من الإنفاق الواجب كالزكاة والخُمس أيضاً...
وأساساً فكلّ فكرة سلبيّة وضيّقة ومانعة للخير فإنّ مصدرها هو التسليم مقابل وساوس الشيطان، وفي المقابل فإنّ كلّ فكرة إيجابيّة وبنّاءة وذات بعد عقلي، فإنّ مصدرها هو الإلهامات الإلهيّة والفطرة السليمة. ولتوضيح هذا المعنى ينبغي أن نقول: إنّ النظرة الأولى إلى الإنفاق وبذل المال توحي أنه يؤدي إلى نقص المال، وهذه هي النظرة الشيطانية الضيّقة، ولكنّنا بتدقيق النظر ندرك أن الإنفاق هو ضمان بقاء المجتمع، وتحكيم العدل الاجتماعي، وتقليل الفواصل الطبقية، والتقدّم العام. وبدهيّ أنّ تقدّم المجتمع يعني أنّ الأفراد الذين يعيشون فيه يكونون في رخاء ورفاه، وهذه هي النظرة الواقعية الإلهيّة.
يريد القرآن بهذا أن يعلم الناس أنّ الإنفاق وإن بدا في الظاهر أنّه أخذ، ولكنّه في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم مادّياً ومعنوياً. في عالمنا اليوم حيث نشاهد نتائج الاختلافات الطبقية والمآسي الناتجة عن الظلم واحتكار الثروة، نستطيع أن نفهم معنى هذه الآية بوضوح...
{والله واسعٌ عليم}. في هذا إشارة إلى أنّ لله قدرة واسعة وعلماً غير محدود، فهو قادر على أن يفي بما يعد، ولا شكّ أنّ المرء يطمئّن إلى هذا الوعد، لا كالوعد الذي يعده الشيطان المخادع الضعيف الذي يجرّ المرء إلى العصيان، فالشيطان ضعيف وجاهل بالمستقبل، ولذلك ليس وعده سوى الضلال والتحريض على الإثم...