غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ وَفَضۡلٗاۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (268)

267

ثم إن الله تعالى لما رغب في أجود ما يملكه الإنسان أن ينفق ، حذر عن وسوسة الشيطان فقال : { الشيطان يعدكم الفقر } أما الشيطان فيشمل إبليس وجنوده وشياطين الإنس والنفس الأمارة بالسوء . والوعد يستعمل في الخير والشر . قال تعالى :{ النار وعدها الله الذين كفروا }[ الحج : 72 ] ويمكن أن يكون استعماله في الشر محمولاً على التهكم مثل{ فبشرهم بعذاب أليم }[ آل عمران : 21 ] وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار وقرئ الفقر بضمتين ، والفقر بفتحتين . { ويأمركم بالفحشاء } يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور . والفاحش عند العرب البخيل . والتحقيق أن لكل خلق طرفين ووسطاً ، فالطرف الكامل للإنفاق هو أن يبذل كل ماله في سبيل الله ، والطرف الأفحش أن لا ينفق شيئاً لا الجيد ولا الرديء ، والوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء . فالشيطان إذا أراد نقله من الأفضل إلى الأفحش ، فمن خفي حيلته أن يجره إلى الوسط وهو وعده بالفقر ، ثم إلى الطرف وهو أمره بالفحشاء . وذلك أن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يمكنه أن يجره ابتداء إليها إلا بتقديم مقدمة هي التخويف بالفقر إذا أنفق الجيد من ماله ، فإذا أطاعه زاد فيمنعه من الإنفاق بالكلية .

وربما تدرج إلى أن يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة ، فإذا صار هكذا ذهب وقع الذنوب عن قلبه ويتسع الخرق فيقدم على المعاصي كلها . ثم لما ذكر درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال : { والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً } فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الملك ينادي كل ليلة : اللهم أعط منفقاً خلفاً وممسكاً تلفا " فالشيطان يعدكم الفقر في غد الدنيا ، والرحمن يعدكم المغفرة في غد العقبى ، ووعد الرحمن بالقبول أولى لأن الوصول إلى غد الدنيا مشكوك فيه ، وغد العقبى مقطوع به . وعلى تقدير وجدان غد الدنيا فقد لا يبقى المال بآفة أخرى ، وعند وجدان العقبى لا بد من حصول المغفرة فإن الله تعالى لا يخلف الميعاد . ولو فرض بقاء المال فقد لا يتمكن صاحبه من الانتفاع به لخوف أو مرض أومهم بخلاف الانتفاع بما في الآخرة فإنه لا مانع منه . وبتقدير التمكن من الانتفاع بالمال فإن ذلك ينقطع ويزول بخلاف الموعود في الآخرة فإنه باق لا يزول . وأيضاً لذات الدنيا مشوبة بالآلام والمضار ألبتة ، فلا لذة إلا وفيها ألم من وجوه كثيرة بخلاف لذات الآخرة فإنه لا نغص فيها ولا نقص . والمراد بالمغفرة تكفير الذنوب ، والتنكير فيه للدلالة على الكمال والتعظيم لا سيما وقد قرن به لفظة " منه " فإن غاية كرمه ونهاية جوده مما يعجز عن إدراكها عقول الخلائق . ويحتمل أن يكون نوعاً من المغفرة وهو المشار إليه في آية أخرى { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }[ الفرقان : 70 ] أو أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب إخوانه المؤمنين . وأما الفضل فيحتمل أن يراد به الفضيلة الحاصلة للنفس وهي ملكة الجود والسخاء ، وذلك أن المال فضيلة خارجية وعدمه نقصان خارجي ، وملكة الجود فضيلة نفسانية وملكة البخل رذيلة نفسانية ، فمتى لم يحصل الإنفاق حصل الكمال الخارجي والنقصان الداخلي ، وإذا حصل الإنفاق وجد الكمال الداخلي والنقصان الخارجي ، فيكون الإنفاق أولى وأفضل . وأيضاً متى حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بنعيم الدنيا والتهالك في طلبها فاستنارت بالأنوار القدسية وهذا هو الفضل . وأيضاً مهما عرف من الإنسان أنه منفق كانت الهمم معقودة على أن يفتح الله عليه أبواب الرزق ولمثل ذلك من التأثير ما لا يخفى { والله واسع } كامل العطاء كافل للخلف قادر على إنجاز ما وعد { عليم } بحال من نفق ثقة بوعده وبحال من لم ينفق طاعة للشيطان .

/خ274