ثم إن الله تعالى لما رغب في أجود ما يملكه الإنسان أن ينفق ، حذر عن وسوسة الشيطان فقال : { الشيطان يعدكم الفقر } أما الشيطان فيشمل إبليس وجنوده وشياطين الإنس والنفس الأمارة بالسوء . والوعد يستعمل في الخير والشر . قال تعالى :{ النار وعدها الله الذين كفروا }[ الحج : 72 ] ويمكن أن يكون استعماله في الشر محمولاً على التهكم مثل{ فبشرهم بعذاب أليم }[ آل عمران : 21 ] وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار وقرئ الفقر بضمتين ، والفقر بفتحتين . { ويأمركم بالفحشاء } يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور . والفاحش عند العرب البخيل . والتحقيق أن لكل خلق طرفين ووسطاً ، فالطرف الكامل للإنفاق هو أن يبذل كل ماله في سبيل الله ، والطرف الأفحش أن لا ينفق شيئاً لا الجيد ولا الرديء ، والوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء . فالشيطان إذا أراد نقله من الأفضل إلى الأفحش ، فمن خفي حيلته أن يجره إلى الوسط وهو وعده بالفقر ، ثم إلى الطرف وهو أمره بالفحشاء . وذلك أن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يمكنه أن يجره ابتداء إليها إلا بتقديم مقدمة هي التخويف بالفقر إذا أنفق الجيد من ماله ، فإذا أطاعه زاد فيمنعه من الإنفاق بالكلية .
وربما تدرج إلى أن يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة ، فإذا صار هكذا ذهب وقع الذنوب عن قلبه ويتسع الخرق فيقدم على المعاصي كلها . ثم لما ذكر درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال : { والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً } فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الملك ينادي كل ليلة : اللهم أعط منفقاً خلفاً وممسكاً تلفا " فالشيطان يعدكم الفقر في غد الدنيا ، والرحمن يعدكم المغفرة في غد العقبى ، ووعد الرحمن بالقبول أولى لأن الوصول إلى غد الدنيا مشكوك فيه ، وغد العقبى مقطوع به . وعلى تقدير وجدان غد الدنيا فقد لا يبقى المال بآفة أخرى ، وعند وجدان العقبى لا بد من حصول المغفرة فإن الله تعالى لا يخلف الميعاد . ولو فرض بقاء المال فقد لا يتمكن صاحبه من الانتفاع به لخوف أو مرض أومهم بخلاف الانتفاع بما في الآخرة فإنه لا مانع منه . وبتقدير التمكن من الانتفاع بالمال فإن ذلك ينقطع ويزول بخلاف الموعود في الآخرة فإنه باق لا يزول . وأيضاً لذات الدنيا مشوبة بالآلام والمضار ألبتة ، فلا لذة إلا وفيها ألم من وجوه كثيرة بخلاف لذات الآخرة فإنه لا نغص فيها ولا نقص . والمراد بالمغفرة تكفير الذنوب ، والتنكير فيه للدلالة على الكمال والتعظيم لا سيما وقد قرن به لفظة " منه " فإن غاية كرمه ونهاية جوده مما يعجز عن إدراكها عقول الخلائق . ويحتمل أن يكون نوعاً من المغفرة وهو المشار إليه في آية أخرى { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }[ الفرقان : 70 ] أو أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب إخوانه المؤمنين . وأما الفضل فيحتمل أن يراد به الفضيلة الحاصلة للنفس وهي ملكة الجود والسخاء ، وذلك أن المال فضيلة خارجية وعدمه نقصان خارجي ، وملكة الجود فضيلة نفسانية وملكة البخل رذيلة نفسانية ، فمتى لم يحصل الإنفاق حصل الكمال الخارجي والنقصان الداخلي ، وإذا حصل الإنفاق وجد الكمال الداخلي والنقصان الخارجي ، فيكون الإنفاق أولى وأفضل . وأيضاً متى حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بنعيم الدنيا والتهالك في طلبها فاستنارت بالأنوار القدسية وهذا هو الفضل . وأيضاً مهما عرف من الإنسان أنه منفق كانت الهمم معقودة على أن يفتح الله عليه أبواب الرزق ولمثل ذلك من التأثير ما لا يخفى { والله واسع } كامل العطاء كافل للخلف قادر على إنجاز ما وعد { عليم } بحال من نفق ثقة بوعده وبحال من لم ينفق طاعة للشيطان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.