البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ وَفَضۡلٗاۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (268)

{ الشيطان يعدكم الفقر } أي : يخوفكم بالفقر ، يقول للرجل أمسك فإن تصدّقت افتقرت وروى أبو حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ : الفقر ، بضم الفاء ، وهي لغة .

وقرئ : الفقر ، بفتحتين .

{ ويأمركم بالفحشاء } أي : يغريكم بها إغراء الآمر ، والفحشاء : البخل وترك الصدقة ، أو المعاصي مطلقاً ، أو الزنا ، أقوال .

ويحتمل أن تكون الفحشاء : الكلمة السيئة ، كما قال الشاعر :

ولا ينطق الفحشاء من كان منهم***

إذا جلسوا منا ولا من سوائنا

وكأن الشيطان يعد الفقر لمن أراد أن يتصدق ، ويأمره ، إذ منع ، بالرد القبيح على السائل ، وبخه وأقهره بالكلام السيء .

وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « إن للشيطان لمة من ابن آدم ، وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، فمن وجد ذلك فليتعوذ .

وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير ، فمن وجد ذلك فليحمد الله »

ثم قرأ عليه السلام : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء } الآية .

وتقدّم وعد الشيطان على أمره ، لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه ، فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر ، إذ الأمر استعلاء على المأمور .

وقال الزمخشري : والفاحش عند العرب البخيل ، وقال أيضاً : ويأمركم بالفحشاء ويغريكم على البخل ومنع الصدقات ، انتهى .

فتكون الجملة الثانية كالتوكيد للأولى ، ونظرنا إلى ما شرحه الشراح في الفاحش في نحو قول الشاعر :

حتى تأوى إلى لا فاحش برم***

ولا شحيح إذا أصحابه غنموا

وقال الآخر :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي***

عقيلة مال الفاحش المتشدّد

فقالوا : الفاحش السيء الخلق ، ولو كان الفاحش هو البخيل لكان قوله : ولا شحيح ، من باب التوكيد .

وقال في قول امرىء القيس :

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش***

إن معناه ليس بقبيح ، ووافق الزمخشري أبا مسلم في تفسير الفاحش بالبخيل ، والفحشاء بالبخل ، قال بعضهم .

وأنشد أبو مسلم قول طرفة :

عقيلة مال الفاحش المتشدّد***

قال : والأغلب في كلام العرب ، وفي تفسير البيت الذي أنشده أن الفاحش السيء الردّ لضيفانه ، وسؤَّاله .

قال : وقد وجدنا بعد ذلك شعراً يشهد لتأويل أبي مسلم أن الفحشاء البخل .

وقال راجز من طيء :

قد أخذ المجد كما أرادا***

ليس بفحاش يصر الزادا

انتهى .

ولا حجة في هذا البيت على أنه أراد بالفحاش البخيل ، بل يحمل على السيء الخلق ، أو السيء الردّ ، ويفهم البخيل من قوله : يصر الزادا .

{ والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً } أي ستراً لذنوبكم مكافأة للبذل ، وفضلاً زيادة على مقتضى ثواب البذل .

وقيل : وفضلاً ، أن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو وثواباً عليه في الآخرة ، ولما تقدّم قوله : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } وكان الحامل لهم على ذلك إنما هو الشح والبخل بالجيد الذي مثيره الشيطان ، بدئ بهذه الجملة من قوله { الشيطان يعدكم الفقر } وإن ما تصدّقتم من الخبيث إنما ذلك من نزغات الشيطان ليقبح لهم ما ارتكبوه من ذلك بنسبته إلى الشيطان ، فيكون أبعد شيء عنه .

ثم ذكر تعالى في مقابلة وعد الشيطان وعد الله بشيئين : أحدهما : الستر لما اجترحوه من الذنوب ، والثاني : الفضل وهو زيادة الرزق والتوسعة في الدنيا والآخرة .

روي أن في التوراة : عبدي ، أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي ، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة ، وفي كتاب الله مصداقه : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه }

{ والله واسع عليم } أي : واسع بالجود والفضل على من أنفق ، عليم بنيات من أنفق ، وقيل : عليم أين يضع فضله ، ووردت الأحاديث بتفضيل الإنفاق والسماحة وذمّ البخل ، منها حديث البراء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار فكل وأطعم ولا تصرر ، فيعسر عليك الطلب » وقوله صلى الله عليه وسلم : « وأي داء أردأ من البخل »