اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ وَفَضۡلٗاۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (268)

قوله تعالى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ . . . } الآية : مبتدأٌ وخبرٌ ، وتقدَّم اشتقاق الشيطان ، وما فيه عند الاستعاذة . ووزن يعدكم : يعلكم بحذف الفاء ، وهي الواو ؛ لوقوعها بين ياءٍ ، وكسرةٍ ، وقرأ الجمهور : " الفَقْر " بفتح الفاء ، وسكون القاف ، وروى أبو حيوة ، عن بعضهم : " الفُقْر " بضم الفاء وهي لغةٌ ، وقرئ " الفَقَر " بفتحتين .

والوعد : يستعمل في الخير ، والشَّرِّ ؛ قال تعالى في الخبر : { وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً } [ الفتح :20 ] وقال في الشَّرِّ : { النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الحج :72 ] ويمكن أن يحمل هذا على التهكم به كقوله تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران :21 ] فإذا لم يذكر الخير والشر ، قلت في الخير : وعدته ، وفي الشر أوعدته ؛ قال : [ الطويل ]

وَإِنِّيَ إِنْ أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ *** لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي{[4586]}

والفَقْر والفُقْر لغتان ؛ وهو الضعيف بسبب قلَّة المال ، وأصله في اللغة : كسر الفقار ، يقال : رجلٌ فقيرٌ وفَقِرٌ ، إذا كان مكسور الفقار ؛ قال طرفة : [ الرمل ]

. . . *** إِنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ{[4587]}

وسيأتي له مزيد بيان في قوله : " لِلْفُقَراءِ " .

فصل في المراد من الآية

معنى الآية الكريمة أن الشيطان يخوّفكم الفقر ، ويقول للرجل : أمسك عليك مالك ؛ فإنك إذا تصدقت به افتقرت .

وهذه أوجه اتصال هذه الآية بما قبلها .

قيل المراد ب " الشيطان " : إبليس ، وقيل : شياطين الجن ، والإنس .

وقيل : النَّفس الأمَّارة بالسُّوء .

{ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ } أي : بالبخل ، ومنع الزكاة{[4588]} .

قال الكلبي : كلُّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلاَّ هذا ، والفاحش عند العرب : البخيل ، قال طرفة : [ الطويل ]

أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي *** عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَددِ{[4589]}

" يعتامُ " : منقولٌ من عام فلانٌ إلى اللبن ، إذا اشتهاه ، وقد نبَّه الله تعالى في هذه الآية الكريمة على لطيفةٍ ، وهي أنَّ الشيطان يخوفه أولاً بالفقر ، ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ، ويغريه على البخل ؛ وذلك لأن البخل صفةٌ مذمومةٌ عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلاَّ بتقديم تلك المقدمة ، وهي التخويف من الفقر ، وقيل " الفَحْشَاءُ " : هو أن يقول : لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله تعالى ؛ لئلا تصير فقيراً ؛ فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك ، زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق بالكلية ؛ حتى لا يعطي الجيد ، ولا الرديء ، وحتى يمنع الحقوق الواجبة ، فلا يؤدِّي الزكاة ، ولا يصل الرحم ، ولا يردُّ الوديعة ، فإذا صار هكذا ، سقط وقع الذنوب عن قلبه ، ويصير غير مبالٍ بارتكابها ، وهناك يتَّسع الخرق ، ويصير مقداماً على كلِّ الذنوب ، وذلك هو الفحشاء ، وتحقيقه : أنَّ لكل خلقٍ طرفين ، ووسطاً ، فالطرف الكامل : هو أن يكون بحيث يبذل كلَّ ما يملكه في سبيل الله : الجيِّد ، والرديء ، والطرف الفاحش النَّاقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله : لا الجيد ، ولا الرديء ، والمتوسط بأن يبخل بالجيد ، وينفق الرديء ، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش ، لا يمكنه إلاَّ بأن يجره إلى الوسط ، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام ، انقطع طمع الشيطان عنه ، وإن أطاعه فيه ، طمع في أن يجرَّه من الوسط إلى الطرف الفاحش ، فالوسط : هو قوله تعالى : { يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ } والطرف الفاحش قوله تعالى : { وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ } .

وقال القرطبيُّ{[4590]} : " الفَحْشَاءُ " : المعاصي ، قال : ويجوز في غير القرآن : ويأمركم الفحشاء بحذف الباء ، وأنشد سيبويه : [ البسيط ]

أ- أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ *** فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ{[4591]}

فصل في بيان هل الفقر أفضل من الغنى ؟ !

تمسك بعضهم{[4592]} بهذه الآية في أنَّ الفقر أفضل من الغنى ، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير ، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه .

قال ابن عطية : وليس في الآية حجَّةٌ ؛ لقوله تعالى : { وَمَا أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [ سبأ :39 ] ثم قال : { وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } لذنوبكم ، كقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة :103 ] .

وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة :

أحدهما : التنكير في لفظ " المغْفِرَةِ " ، والمعنى : مغفرةٌ وأيُّ مغفرة .

والثاني : قوله : " مَغْفِرَةً مِنْه " يدل على كمال حال هذه المغفرة ؛ لأن كمال كرمه ونهاية جوده ، معلومٌ لجميع العقلاء ، فلما خص هذه المغفرة بكونها منه ، علم أنَّ المقصود تعظيم حال هذه المغفرة ؛ لأنَّ عظم المعطي يدلُّ على عظم العطيَّة .

قوله : " منه " فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنه نعتٌ لمغفرة .

والثاني : أن يكون مفعولاً متعلقاً بيعد ، أي : يعدكم من تلقاء نفسه .

و " فَضْلاً " صفته محذوفةٌ ، أي : وفضلاً منه ، وهذا على الوجه الأول ، وأمَّا الثاني ، فلا حذف فيه .

فصل

يحتمل أن يكون المراد من كمال هذه المغفرة ما قاله في آيةٍ أخرى : { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان :70 ] ، ويحتمل أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين{[4593]} ، ويحتمل أن يكون المقصود أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا ، فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا ، ما دمنا{[4594]} في الدنيا .

وأمَّا معنى الفضل ، فهو الرزق ، والخلف المعجَّل في الدنيا .

ثم قال تعالى : { وَاللهُ وَاسِعٌ } ، أي : واسع المغفرة والقدرة على إغنائكم{[4595]} ، وإخلاف ما تنفقونه { عَلِيمٌ } لا يخفى عليه ما تنفقون ؛ فهو يخلفه عليكم .


[4586]:- البيت لعامر بن الطفيل: ينظر ديوانه ص (58)، إنباه الرواة 4/139، مراتب النحويين ص (38)، اللسان: وعد. والقرطبي 5/215.
[4587]:- عجز بيت وصدره: وإذا تلسنني ألسنتها ينظر ديوانه ص 53، واللسان (فقر)، الرازي 7/57.
[4588]:- ينظر تفسير البغوي 1/256.
[4589]:- ينظر: ديوانه (34)، اللسان (حش)، الرازي 7/57، البحر المحيط 2/333.
[4590]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/213.
[4591]:- البيت لعمرو بن معدي كرب ينظر ديوانه ص 63 ونسب أيضا لخفاف بن ندبة ينظر ديوانه ص 126 وللعباس بن مرداس ينظر ديوانه ص 131 ونسب أيضا لأعشى طرود ولزرعة بن خفاف ينظر الكتاب 1/37 خزانة الأدب 1/339-342 و9/124، المحتسب 1/51- 372، المقتضب 2/36-86-321 شرح أبيات سيبويه 1/250، شرح شواهد المغني ص 727 مغني اللبيب ص 315، الأشباه والنظائر 4/16، 8/51، اللامات ص 139 شرح المفصل 8/50، شرح شذور الذهب ص 477، الدرر 5/186.
[4592]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/213، والمحرر الوجيز 1/364.
[4593]:- في ب: الزنوب.
[4594]:- في ب: ما دامت.
[4595]:- في ب: عقابكم.