المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

14- ولقد بعث الله نوحاً إلى قومه يدعوهم إلى التوحيد ، فمكث يدعوهم تسعمائة وخمسين سنة وهم لا يستجيبون له ، فأغرقهم الله بالطوفان وهم ظالمون لأنفسهم بالكفر .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

{ 14-15 } { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ }

يخبر تعالى عن حكمه وحكمته في عقوبة{[622]}  الأمم المكذبة ، وأن اللّه أرسل عبده ورسوله نوحا عليه الصلاة السلام إلى قومه ، يدعوهم إلى التوحيد وإفراد اللّه بالعبادة ، والنهي عن الأنداد والأصنام ، { فَلَبِثَ فِيهِمْ } نبيا داعيا { أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا } وهو لا يَنِي بدعوتهم ، ولا يفتر في نصحهم ، يدعوهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا ، فلم يرشدوا ولم يهتدوا ، بل استمروا على كفرهم وطغيانهم ، حتى دعا عليهم نبيهم نوح عليه الصلاة والسلام ، مع شدة صبره وحلمه واحتماله ، فقال : { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } { فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ } أي : الماء الذي نزل من السماء بكثرة ، ونبع من الأرض بشدة { وَهُمْ ظَالِمُونَ } مستحقون للعذاب .


[622]:- في ب: عقوبات.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

14

( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون . فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ) . .

والراجح أن فترة رسالته التي دعا فيها قومه كانت ألف سنة إلا خمسين عاما . وقد سبقتها فترة قبل الرسالة غير محددة ، وأعقبتها فترة كذلك بعد النجاة من الطوفان غير محددة . وهو عمر طويل مديد ، يبدو لنا الآن غير طبيعي ولا مألوف في أعمار الأفراد . ولكننا نتلقاه من أصدق مصدر في هذا الوجود - وهذا وحده برهان صدقه - فإذا أردنا له تفسيرا فإننا نستطيع أن نقول : إن عدد البشرية يومذاك كان قليلا ومحدودا ، فليس ببعيد أن يعوض الله هذه الأجيال عن كثرة العدد طول العمر ، لعمارة الأرض وامتداد الحياة . حتى إذا تكاثر الناس وعمرت الأرض لم يعد هناك داع لطول الأعمار وهذه الظاهرة ملحوظة في أعمار كثير من الأحياء . فكلما قل العدد وقل النسل طالت الأعمار ، كما في النسور وبعض الزواحف كالسلحفاة . حتى ليبلغ عمر بعضها مئات الأعوام . بينما الذباب الذي يتوالد بالملايين لا تعيش الواحدة منه أكثر من أسبوعين . والشاعر يعبر عن هذه الظاهرة بقوله :

بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مقلاة نزور ومن ثم يطول عمر الصقر . وتقل أعمار بغاث الطير . ولله الحكمة البالغة . وكل شيء عنده بمقدار . ولم تثمر ألف سنة - إلا خمسين عاما - غير العدد القليل الذين آمنوا لنوح . وجرف الطوفان الكثرة العظمى وهم ظالمون بكفرهم وجحودهم وإعراضهم عن الدعوة المديدة ، ونجا العدد القليل من المؤمنين ، وهم أصحاب السفينة . ومضت قصة الطوفان والسفينة ( آية للعالمين )تحدثهم عن عاقبة الكفر والظلم على مدار القرون .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه ، يخبره عن نوح{[22510]} عليه السلام : أنه مكث{[22511]} في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا ، وسرا ، وجهارًا ،

ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فرارا عن الحق ، وإعراضا عنه وتكذيبا له ، وما آمن معه منهم إلا قليل ؛ ولهذا قال : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } أي : بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار ، فأنت - يا محمد - لا تأسف على مَنْ كفر بك من قومك ، ولا تحزن عليهم ؛ فإن الله يهدي مَنْ يشاء ويضل مَنْ يشاء ، وبيده الأمر وإليه ترجع{[22512]} الأمور ، { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ . وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ، واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك ، ويذل عدوّك ، ويكبتهم ويجعلهم أسفل السافلين .

قال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن ماهَك{[22513]} ، عن ابن عباس قال : بعث نوح وهو لأربعين سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين عاما ، حتى كثر الناس وفشوا .

وقال قتادة : يقال إن عمره كله [ كان ]{[22514]} ألف سنة إلا خمسين عاما ، لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة ، ودعاهم ثلثمائة ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة .

وهذا قول غريب ، وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما .

وقال عون بن أبي شداد : إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة ، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة .

وهذا أيضا غريب ، رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وقول ابن عباس أقرب ، والله أعلم .

وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مجاهد قال : قال لي ابن عمر : كم لبث نوح في قومه ؟ قال : قلت ألف سنة إلا خمسين عاما . قال : فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا .


[22510]:- في ت : "قوم نوح".
[22511]:- في أ : "لبث".
[22512]:- في ف : "يرجع".
[22513]:- في أ : "وائل".
[22514]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } .

وهذا وعيد من الله تعالى ذكره هؤلاء المشركين من قريش ، القائلين للذين آمنوا : اتبعوا سبيلنا ، ولنحمل خطاياكم ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يحزننك يا محمد ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى ، فإني وإن أمليت لهم فأطلت إملاءهم ، فإن مصير أمرهم إلى البوار ، ومصير أمرك وأمر أصحابك إلى العلوّ والظفر بهم ، والنجاة مما يحلّ بهم من العقاب ، كفعلنا ذلك بنوح ، إذ أرسلناه إلى قومه ، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد ، وفراق الاَلهة والأوثان ، فلم يزدهم ذلك من دعائه إياهم إلى الله من الإقبال إليه ، وقبول ما أتاهم به من النصيحة من عند الله إلاّ فرارا .

وذُكر أنه أُرسل إلى قومه وهو ابن ثلاث مئة وخمسين سنة ، كما :

حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : حدثنا نوح بن قيس ، قال : حدثنا عون بن أبي شداد ، قال : إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مئة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مئة سنة فأخذهم الطوفان ، يقول تعالى ذكره : فأهلكهم الماء الكثير ، وكلّ ماء كثير فاش طامّ ، فهو عند العرب طوفان ، سيلاً كان أو غيره ، وكذلك الموت إذا كان فاشيا كثيرا ، فهو أيضا عندهم طوفان ومنه قول الراجز :

*** أفْناهُمُ طُوفان مَوْتٍ جارِفِ ***

وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فأخَذَهُمُ الطّوفانُ قال : هو الماء الذي أرسل عليهم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : الطوفان : الغرق .

وقوله : وَهُمْ ظالِمُونَ يقول : وهم ظالمون أنفسهم بكفرهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } بعد المبعث ، إذ روي أنه بعث على رأس الأربعين ودعا قوما تسعمائة وخمسين وعاش بعد الطوفان ستين ، ولعل اختيار هذه العبارة للدلالة على كمال العدد فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة إلى السامع ، فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما يكابده من الكفرة واختلاف المميزين لما في التكرير من البشاعة . { فأخذهم الطوفان } طوفان الماء وهو لما طاف بكثرة من سيل أو ظلام أو نحوهما . { وهم ظالمون } بالكفر .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (14)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} يدعوهم إلى الإيمان بالله عز وجل فكذبوه، {فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} يعني الماء طغى على كل شيء، فأغرقوا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وهذا وعيد من الله تعالى ذكره هؤلاء المشركين من قريش، القائلين للذين آمنوا: اتبعوا سبيلنا، ولنحمل خطاياكم، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزننك يا محمد ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإني وإن أمليت لهم فأطلت إملاءهم، فإن مصير أمرهم إلى البوار، ومصير أمرك وأمر أصحابك إلى العلوّ والظفر بهم، والنجاة مما يحلّ بهم من العقاب، كفعلنا ذلك بنوح، إذ أرسلناه إلى قومه، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد، وفراق الآلهة والأوثان، فلم يزدهم ذلك من دعائه إياهم إلى الله من الإقبال إليه، وقبول ما أتاهم به من النصيحة من عند الله إلاّ فرارا...

"فأخذهم الطوفان"، يقول تعالى ذكره: فأهلكهم الماء الكثير، وكلّ ماء كثير فاش طامّ، فهو عند العرب طوفان، سيلاً كان أو غيره... وقوله: "وَهُمْ ظالِمُونَ "يقول: وهم ظالمون أنفسهم بكفرهم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ما زادهم طولُ مقامه فيهم إلا شَكا في أمره، وجهلا بحاله، ومرْية في صدقه، ولم يزدد نوح -عليه السلام- لهم إلاَّ نُصْحاً، وفي الله إلا صبراً. ولقد عرَّفه اللَّهُ أنه لن يؤمِنَ منهم إلا الشَّرْذِمة اليسيرةُ الذين كانوا قد آمنوا، وأَمَرَهُ باتخاذ السفينة، وأغرق الكفار ولم يغادر منهم أحداً، وَصَدَقَ وَعْدَه، ونَصَرَ عَبْدَه.. فلا تبديلَ لِسُنَّتِه في نصرة دينه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة، بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب: أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة.

فإن قلت: هلا قيل: تسعمائة وخمسين سنة؟ قلت: ما أورده الله أحكم. لأنه لو قيل كما قلت، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل: تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة، وفيه نكتة أخرى: وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ما الفائدة في ذكر مدة لبثه؟

نقول كان النبي عليه السلام يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام وإصرارهم على الكفر فقال إن نوحا لبث ألف سنة تقريبا في الدعاء ولم يؤمن من قومه إلا قليل، وصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك، وأيضا كان الكفار يغترون بتأخير العذاب عنهم أكثر ومع ذلك ما نجوا فبهذا المقدار من التأخير لا ينبغي أن يغتروا فإن العذاب يلحقهم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان السياق للبلاء والامتحان، والصبر على الهوان، وإثبات علم الله وقدرته على إنجاء الطائع وتعذيب العاصي، ذكر من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من طال صبره على البلاء، ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد على ما يعاملونه به من الأذى، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيتاً لهم وتهديداً لقريش، فقال عاطفاً على {ولقد فتنا الذين من قبلهم} ما هو كالشرح له، وله نظر عظيم إلى

{ولقد وصلنا لهم القول} [القصص: 51] وأكده دفعاً لوهم من يقول: إن القدرة على التصرف في القلوب مغنية عن الرسالة في دار التسبب: {ولقد أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة المغنية عن الرسالة إجراء للأمور على ما تقتضيه هذه الدار من حكمة التسبيب {نوحاً} أي أول رسل الله الخافقين من العباد، وهو معنى {إلى قومه} فإن الكفر كان قد عم أهل الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء بلاء بهم، ولذلك قال مسبباً عن ذلك ومعقباً: {فلبث فيهم} أي بعد الرسالة يدعوهم إلى الله، وعظم الأمر بقوله: {ألف} فذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه، وعبر بلفظ {سنة} ذماً لأيام الكفر، وقال: {إلا خمسين} فحقق أن ذلك الزمان تسعمائة وخمسون من غير زيادة ولا نقص مع الاختصار والعذوبة...

ولما كان تكرير الدعاء مع عدم الإجابة أدل على الامتثال وعدم الملال، قال مسبباً عن لبثه فيهم ودعائه لهم ومعقباً له: {فأخذهم} أي كلهم بالإغراق أخذ قهر وغلبة {الطوفان} أي من الماء، لأن الطوفان في الأصل لكل فاش طامّ محيط غالب ممتلئ كثرة وشدة وقوة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها، والمراد هنا الماء {وهم ظالمون} أي عريقون في هذا الوصف، وهو وضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في أشد الظلام، بتكذيبهم رسولهم، وإصرارهم على كفرهم، وهو ملازم لدعائهم ليلاً ونهاراً لم يرجع منهم عن الضلال إلا ناس لقلتهم لا يعدون.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

شروعٌ في بيان افتتانِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام بأذية أممهم إثرَ بيانِ افتتانِ المؤمنين بأذيةِ الكفَّارِ تأكيداً للإنكارِ على الذين يحسبُون أنْ يُتركوا بمجرَّدِ الإيمان بلا ابتلاءٍ وحثًّا لهم على الصَّبرِ فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاة والسَّلام حيث ابتُلوا بما أصابَهم من جهةِ أُممهم من فنونِ المكارِه وصبرُوا عليها فَلأن يصبرَ هؤلاءِ أولى وأحرى.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

انتهى الشوط الأول بالحديث عن سنة الله في ابتلاء الذين يختارون كلمة الإيمان، وفتنتهم حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين. وقد أشار إلى الفتنة بالأذى، والفتنة بالقرابة، والفتنة بالإغواء والإغراء. وفي هذا الشوط يعرض نماذج من الفتن التي اعترضت دعوة الإيمان في تاريخ البشرية الطويل من لدن نوح عليه السلام. يعرضها ممثلة فيما لقيه الرسل حملة دعوة الله منذ فجر البشرية. مفصلا بعض الشيء في قصة إبراهيم ولوط، مجملا فيما عداها. وفي هذا القصص تتمثل ألوان من الفتن، ومن الصعاب والعقبات في طريق الدعوة. ففي قصة نوح -عليه السلام- تتبدى ضخامة الجهد وضآلة الحصيلة، فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم لم يؤمن له إلا القليل (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون).. وفي قصة إبراهيم مع قومه يتبدى سوء الجزاء وطغيان الضلال. فقد حاول هداهم ما استطاع، وجادلهم بالحجة والمنطق: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:اقتلوه أو حرقوه). وفي قصة لوط يتبدى تبجح الرذيلة واستعلانها، وسفورها بلا حياء ولا تحرج، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل من الانحراف والشذوذ؛ مع الاستهتار بالنذير: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين).. وفي قصة شعيب مع مدين يتبدى الفساد والتمرد على الحق والعدل، والتكذيب: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين). وتذكر الإشارة إلى عاد وثمود بالاعتزاز بالقوة والبطر بالنعمة. كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان بطغيان المال، واستبداد الحكم، وتمرد النفاق. ويعقب على هذا القصص بمثل يضربه لهوان القوى المرصودة في طريق دعوة الله، وهي مهما علت واستطالت (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون). وينتهي هذا الشوط بدعوة الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يتلو الكتاب، وأن يقيم الصلاة، وأن يدع الأمر بعد ذلك لله (والله يعلم ما تصنعون)..