ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر فقال :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }
واعلم أن النفاق هو : إظهار الخير وإبطان الشر ، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي ، والنفاق العملي ، كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " آية المنافق ثلات : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " وفي رواية : " وإذا خاصم فجر "
وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام ، فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها ، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم [ من مكة ] إلى المدينة ، وبعد أن هاجر ، فلما كانت وقعة " بدر " {[37]} وأظهر الله المؤمنين وأعزهم{[38]} ، ذل من في المدينة ممن لم يسلم ، فأظهر بعضهم الإسلام خوفا ومخادعة ، ولتحقن دماؤهم ، وتسلم أموالهم ، فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم ، وفي الحقيقة ليسوا منهم .
فمن لطف الله بالمؤمنين ، أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها ، لئلا يغتر بهم المؤمنون ، ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم [ قال تعالى ] : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } فوصفهم الله بأصل النفاق فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فأكذبهم الله بقوله : { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان الحقيقي ، ما تواطأ عليه القلب واللسان ، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين .
ثم ننتقل - مع السياق - إلى الصورة الثالثة . أو إلى النموذج الثالث
إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها . وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها . ولكنها تتلوى في الحس . وتروغ من البصر ، وتخفى وتبين . . إنها صورة المنافقين :
( ومن الناس من يقول : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وما هم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض ، قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس ، قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا . وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم ، إنما نحن مستهزئون . الله يستهزئ بهم ، ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) . .
لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة ؛ ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا . نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح ، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح . وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس ، وعلى تصورهم للأمور ! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية ، موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل . وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل .
إنهم يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر . وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين . إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين .
لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ، ثم عرّف حال الكافرين بهاتين الآيتين ، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة ، كل منها نفاق ، كما أنزل{[1254]} سورة براءة فيهم ، وسورة المنافقين فيهم ، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور ، تعريفا لأحوالهم لتجتنب ، ويجتنب من تلبس{[1255]} بها أيضًا ، فقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ }
النفاق : هو إظهار الخير وإسرار الشر ، وهو أنواع : اعتقادي ، وهو الذي يخلد صاحبه في النار ، وعملي وهو من أكبر الذنوب ، كما سيأتي تفصيله{[1256]} في موضعه ، إن شاء الله تعالى ، وهذا كما قال ابن جريج : المنافق يخالف قَوْلُه فِعْلَهُ ، وسِرّه علانيته ، ومدخله مخرجه ، ومشهده مَغِيبه .
وإنما نزلت صفات المنافقين في السّور المدنية ؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق ، بل كان خلافه ، من الناس من كان يظهر الكفر مُسْتَكْرَها ، وهو في الباطن مؤمن ، فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج ، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام ، على طريقة مشركي العرب ، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم ، وكانوا ثلاث قبائل : بنو قَيْنُقَاع حلفاء الخزرج ، وبنو النَّضِير ، وبنو قُرَيْظَة حلفاء الأوس ، فلمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج ، وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سَلام ، رضي الله عنه ، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا ؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف ، بل قد كان ، عليه الصلاة والسلام ، وَادَعَ اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة ، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته ، وأعلى الإسلام وأهله ، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول ، وكان رأسا في المدينة ، وهو من الخزرج ، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية ، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم ، فجاءهم الخير وأسلموا ، واشتغلوا عنه ، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله ، فلما كانت وقعة بدر قال : هذا أمر قد تَوَجَّه فأظهر الدخول في الإسلام ، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته ، وآخرون من أهل الكتاب ، فمن ثَمّ وُجِد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب ، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد ، لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرَهًا ، بل يهاجر ويترك ماله ، وولده ، وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة .
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكْرِمة ، أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يعني : المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم .
وكذا فسَّرها بالمنافقين أبو العالية ، والحسن ، وقتادة ، والسدي .
ولهذا نبَّه الله ، سبحانه ، على صفات المنافقين لئلا يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون ، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ، ومن اعتقاد إيمانهم ، وهم كفار في نفس الأمر ، وهذا من المحذورات الكبار ، أن يظن بأهل الفجور خَيْر ، فقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } أي : يقولون ذلك قولا ليس وراءه شيء آخر ، كما قال تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } [ المنافقون : 1 ] أي : إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط ، لا في نفس الأمر ؛ ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها ؛ كما أكَّدوا قولهم : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ } وليس الأمر كذلك ، كما أكْذبهم الله في شهادتهم ، وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم ، بقوله : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، وبقوله { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ }
{ وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }
قال أبو جعفر : أما قوله : وَمِنَ النّاسِ فإن في الناس وجهين : أحدهما أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه ، وإنما واحده إنسان وواحدته إنسانة . والوجه الاَخر : أن يكون أصله «أُناس » أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها ، ثم دخلتها الألف واللام المعرّفتان ، فأدغمت اللام التي دخلت مع الألف فيها للتعريف في النون ، كما قيل في : لكنّ هُوَ اللّهُ رَبي على ما قد بينا في اسم الله الذي هو الله .
وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس ، وأنه سمع العرب تصغره نُوَيْس من الناس ، وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير : أُنَيْس ، فردّ إلى أصله .
وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق ، وأن هذه الصفة صفتهم . ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنينَ يعني المنافقين من الأوس والخزرج ، ومن كان على أمرهم . وقد سُمّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب ، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُم بِمُؤْمِنِينَ حتى بلغ : فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ قال : هذه في المنافقين .
حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هذه الآية إلى ثلاث عشرة في نعت المنافقين .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، وعن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَمِنَ الناسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمؤْمِنِينَ هم المنافقون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ إلى : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرضا وَلَهُمُ عَذَابٌ ألِيمٌ قال : هؤلاء أهل النفاق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ قال : هذا المنافق يخالف قولُه فعلَه وسرّه علانيَته ومدخلُه مخرجَه ومشهدُه مغيَبه .
وتأويل ذلك أن الله جل ثناؤه لمّا جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته واستقر بها قرارُه وأظهر الله بها كلمته ، وفشا في دور أهلها الإسلام ، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان ، وذلّ بها من فيها من أهل الكتاب أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن وأبدوا له العداوة والشنآن حسدا وبغيا إلا نفرا منهم ، هداهم الله للإسلام فأسلموا ، كما قال الله جل ثناؤه : وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَردّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمانِكُمْ كُفّارا حَسَدا منْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ الحَقّ وطابقهم سرّا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل قومٌ من أراهط الأنصار الذي آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وكانوا قد عتوا في شركهم وجاهليتهم قد سُمّوا لنا بأسمائهم ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم . وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار حذار القتل على أنفسهم والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وركونا إلى اليهود ، لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام . فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه ، قالوا لهم حذارا على أنفسهم : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث ، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ليدرءوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم ، وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به فخلوا بهم ، قالوا : إنّا مَعَكُمْ إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ فإياهم عنى جل ذكره بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يعني بقوله تعالى خبرا عنهم «آمّنا بالله » : صدقنا بالله . وقد دللنا على أن معنى التصديق فيما مضى قبل من كتابنا هذا . وقوله : وَباليَوْمِ الاَخرِ يعني بالبعث يوم القيامة . وإنما سُمِي يوم القيامة اليوم الاَخر : لأنه آخر يوم ، لا يوم بعده سواه .
فإن قال قائل : وكيف لا يكون بعده يوم ، ولا انقطاع للاَخرة ، ولا فناء ، ولا زوال ؟ .
قيل : إن اليوم عند العرب إنما سمي يوما بليلته التي قبله ، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسمّ يوما ، فيوم القيامة يوم لا ليل له بعده سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة ، فذلك اليوم هو آخر الأيام ، ولذلك سماه الله جل ثناؤه : اليَوْم الاَخر ، ونعته بالعقيم ، ووصفه بأنه يوم عقيم لأنه لا ليل بعده .
وأما تأويل قوله : : وَما هُمْ بِمُؤْمنينَ ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان ، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم آمنّا بالله وباليوم الاَخر فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث ، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم ، وضد ما في عزائم نفوسهم . وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية من أن الإيمان هو التصديق بالقول دون سائر المعاني غيره . وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق أنهم بألسنتهم : آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخرِ ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك . وقوله : وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يعني بمصدقين فيما يزعمون أنهم به مصدقون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم رجع إلى المنافقين، فقال عز وجل: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر}، يعني صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له، وصدقنا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن. فكذبهم الله عز وجل، فقال: {وما هم بمؤمنين}، يعني بمصدقين بالتوحيد ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...أجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه الصفة صفتهم...
وتأويل ذلك أن الله جل ثناؤه لمّا جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته واستقر بها قرارُه وأظهر الله بها كلمته، وفشا في دور أهلها الإسلام، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان، وذلّ بها من فيها من أهل الكتاب، أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن وأبدوا له العداوة والشنآن حسدا وبغيا إلا نفرا منهم، هداهم الله للإسلام فأسلموا، كما قال الله جل ثناؤه:"وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَردّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمانِكُمْ كُفّارا حَسَدا منْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ الحَقّ"، وطابقهم سرّا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل قومٌ من أراهط الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه، وكانوا قد عتوا في شركهم وجاهليتهم قد سُمّوا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم. وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار حذار القتل على أنفسهم والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وركونا إلى اليهود، لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه، قالوا لهم حذارا على أنفسهم: إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ليدرؤوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم، وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به فخلوا بهم، قالوا: "إنّا مَعَكُمْ إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ "فإياهم عنى جل ذكره بقوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ "يعني بقوله تعالى خبرا عنهم «آمّنا بالله»: صدقنا بالله..."وَباليَوْمِ الاَخرِ" يعني بالبعث يوم القيامة. وإنما سُمِي يوم القيامة اليوم الاَخر: لأنه آخر يوم، لا يوم بعده سواه...
وأما تأويل قوله:: "وَما هُمْ بِمُؤْمنينَ" ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم "آمنّا بالله وباليوم الاَخر" فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم، وضد ما في عزائم نفوسهم. وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول [دعوى] من [زعم] أن الإيمان هو التصديق بالقول دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق أنهم [يقولون] بألسنتهم: "آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخرِ" ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك. وقوله: "وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ" يعني بمصدقين فيما يزعمون أنهم به مصدقون.
{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} يدل على أن الإيمان ليس هو الإقرار دون الاعتقاد، لأن الله تعالى قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان ونفى عنهم سمته بقوله: {وما هم بمؤمنين}. ويُروى عن مجاهد أنه قال: في أول البقرة أربعُ آيات في نَعْت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين.
والنفاق اسم شرعي جُعل سمةً لمن يُظهر الإيمان ويُسِرُّ الكفرَ، خصوا بهذا الاسم للدلالة على معناه وحكمه وإن كانوا مشركين إذ كانوا مخالفين لسائر المبادين بالشرك في أحكامهم. وأصله في اللغة من نافقاء اليربوع، وهو الجحر الذي يخرج منه إذا طُلب، لأن له أجحرة يدخل بعضها عند الطلب ثم يراوغ الذي يريد صيده فيخرج من جحر آخر قد أعدَّه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله، وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم، ووافق سرهم علنهم وفعلهم قولهم. ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً قلوباً وألسنة.
ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، وهم الذين قال فيهم: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء: 143] وسماهم المنافقين، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده؛ لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً، وبالشرك استهزاء وخداعاً. ولذلك أنزل فيهم {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الاسفل مِنَ النار} [النساء: 145] ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، وسجل بطغيانهم، وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة. فإن قلت: لم اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؟ قلت: اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة؛ لأن القوم كانوا يهوداً، وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان، لقولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30]. وكذلك إيمانهم باليوم الآخر، لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، فكان قولهم: {ءَامَنَّا بالله وباليوم الأخر} خبثاً مضاعفاً وكفراً موجهاً، لأن قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم، فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي، كان خبثاً إلى خبث، وكفراً إلى كفر. وأيضاً فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا الإيمان من جانبيه، واكتنفوه من قطريه، وأحاطوا بأوّله وآخره. وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام.
فإن قلت: كيف طابق قوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} قولهم: {ءَامَنَّا بالله وباليوم الأخر} والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ قلت: القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه، فسلك في ذلك طريق أدّى إلى الغرض المطلوب. وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين، لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين في الإيمان. وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع. ونحوه قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} [المائدة: 37] هو أبلغ من قولك: وما يخرجون منها.
فإن قلت: فلم جاء الإيمان مطلقاً في الثاني وهو مقيد في الأوّل؟ قلت: يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر، ولا من الإيمان بغيرهما.
فإن قلت: ما المراد باليوم الآخر؟ قلت: يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، لتأخره عن الأوقات المنقضية. وأن يراد الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة الذي لا حدّ للوقت بعده.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وسمى الله تعالى يوم القيامة {اليوم الآخر} لأنه لا ليل بعده، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل، ثم نفى تعالى الإيمان عن المنافقين...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَان، وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَوْ عَرَفُوهُ لَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُخْدَعُ...
وَالْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ هَاهُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُل الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ وَقِيَامِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ... وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ تَأَلُّفًا وَمَخَافَةً مِنْ سُوءِ الْمَقَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّنْفِيرِ...
وَهَذَا كَمَا كَانَ يُعْطِي الصَّدَقَةَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ، أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْفَائِدَةِ الَّتِي سَنَّهَا إمْضَاءً لِقَضَايَاهُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قال علماء اللغة: إنما سمي المنافق منافقا لإظهاره غير ما يضمر، تشبيها باليربوع، له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء. وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر. وكذلك المنافق ظاهره إيمان، وباطنه كفر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قَوْلُه فِعْلُهُ، وسِرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مَغِيبه. وإنما نزلت صفات المنافقين في السّور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مُسْتَكْرَها، وهو في الباطن مؤمن، فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام، على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قَيْنُقَاع حلفاء الخزرج، وبنو النَّضِير، وبنو قُرَيْظَة حلفاء الأوس، فلمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سَلام، رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان، عليه الصلاة والسلام، وَادَعَ اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته، وأعلى الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد تَوَجَّه. فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثَمّ وُجِد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد، لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرَهًا، بل يهاجر ويترك ماله، وولده، وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما افتتح سبحانه بالذين واطأت قلوبهم ألسنتهم في الإيمان وثنى بالمجاهرين من الكافرين الذين طابق إعلانهم إسرارهم في الكفران اتبعه ذكر المساترين الذين خالفت ألسنتهم قلوبهم في الإذعان وهم المنافقون، وأمرهم أشد لإشكال أحوالهم والتباس أقوالهم وأفعالهم، فأضر الأعداء من يريك الصداقة فيأخذك من المأمن؛ ...وفي ذكر قصتهم وتقبيح أحوالهم تنبيه على وجوب الإخلاص وحث على الاجتهاد في الطهارة من الأدناس في سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم.
وتصنيف الناس آخر الفاتحة ثلاثة أصناف: مهتدين ومعاندين وضالين، مثل تصنيفهم أول البقرة ثلاثة: متقين وكافرين مصارحين وهم المعاندون وضالين وهم المنافقون، وإجمالهم في الفاتحة وتفصيلهم هنا من بديع الأساليب وهو دأب القرآن العظيم الإجمال ثم التفصيل.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها الآن هي المبينة لحال الفرقة الرابعة وهي فرقة من الناس توجد في كل آن وفي كل عصر، وليست الآيات كما قيل في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل. ولذلك قال تعالى في بيان حالهم {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} ولم يقل عنهم. إنهم يقولون مع ذلك "وآمنا بك يا محمد "وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر الذين لم يلبثوا أن انقرضوا كل هذه العناية، ويطيل في بيان حالهم أكثر مما أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس.
نعم إن الآيات على عمومها تتناول من كان منهم في عصر التنزيل تناولا أوليا وتصف حالهم وصفا مطابقا، وهي مع ذلك عبرة عامة شاملة لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة، وقد كان ويكون من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ومن كل طائفة تدعي أنها على دين، ولم يحك عنهم دعوى الإيمان بالأنبياء والأعمال الصالحة – مع أن منهم الذين يدعون ذلك – لأن الإيمان باليوم الآخر يتضمن ذلك، فهو إنما يعرف من قبل الأنبياء، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي بلغت حد الإعجاز.
قد يقال: كان في أولئك القوم من كانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر كمنافقي اليهود، فلم كذبهم ونفى عنهم الإيمان نفيا مطلقا مؤكدا بدخول الباء في خبر "ما" فقال {وما هم بمؤمنين} أي بداخلين في جماعة المؤمنين الصادقين البتة. وهو أبلغ من نفي فعل الإيمان المطابق للفظهم والمقيد بالإيمان بالله وباليوم الآخر؟ والجواب: أن اعتقادهم التقليدي الضعيف لم يكن له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم، فلو حصّل ما في صدورهم، ومحص ما في قلوبهم، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم، لوجد أن ما كان لهم من عمل صالح كصلاة وصدقة فإنما مبعثه رئاء الناس، وحب السمعة، وهم من وراء ذلك منغمسون في الشرور، كالإفساد والكذب والغش والخيانة والطمع وغير ذلك من الرذائل التي حكاها عنهم الكتاب ونقلها رواة السنة، وهذه الأعمال تدل على أنهم لا يؤمنون بالله كما يحب ويرضى أن يؤمن به، وهو أن يشعر المؤمن بعظيم سلطانه، ويعلم أن الله سبحانه مطلع على سره وإعلانه، لأنه مهيمن على السرائر، وعالم بما في الضمائر، فيرضيه بظاهره وباطنه. بل كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات يظنون أنهم يرضون الله تعالى بذلك. ولذلك قال فيهم: {يخادعون الله والذين آمنوا}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ننتقل -مع السياق- إلى الصورة الثالثة. أو إلى النموذج الثالث
إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها. وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها. ولكنها تتلوى في الحس. وتروغ من البصر، وتخفى وتبين.. إنها صورة المنافقين:
(ومن الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون. وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض، قالوا: إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وإذا قيل لهم: آمنوا كما آمن الناس، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا. وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ بهم، ويمدهم في طغيانهم يعمهون. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)..
لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة؛ ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجا مكرورا في أجيال البشرية جميعا. نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح. وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس، وعلى تصورهم للأمور! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية، موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل. وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل.
إنهم يدعون الإيمان بالله واليوم الآخر. وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين. إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واعلم أن الآيات السابقة لما انتقل فيها من الثناء على القرآن بذكر المهتدين به بنوعيْهم الذين يؤمنون بالغيب والذين يؤمنون بما أنزل إليك إلى آخر ما تقدم، وانتقل من الثناء عليهم إلى ذكر أضدادهم وهم الكافرون الذين أريد بهم الكافرون صراحةً وهم المشركون، كان السامع قد ظن أن الذين أظهروا الإيمان داخلون في قوله {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] فلم يكن السامع سائلاً عن قسم آخر وهم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الشرك أو غيرَه وهم المنافقون الذين هم المراد هنا بدليل قوله: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} [البقرة: 14] الخ، لأنه لغرابته وندرة وصفه بحيث لا يخطر بالبال وجوده، ناسب أن يذكر أمره للسامعين، ولذلك جاء بهذه الجملة معطوفة بالواو إذ ليست الجملة المتقدمة مقتضية لها ولا مثيرة لمدلولها في نفوس السامعين، بخلاف جملة: {إن الذين كفروا سواء عليهم} [البقرة: 6] تُرك عطفها على التي قبلها لأن ذكر مضمونها بعد المؤمنين كان مترقباً للسامع، فكان السامع كالسائل عنه فجاء الفصل للاستئناف البياني. إذا كان حال المخاطبين حالَ من يظن أن المتكلم لا يجد من يصله إن قطعه هو، فذِكر {من الناس} ونحوه في مثل هذا وارد على أصل الإخبار، وتقديم الخبر هنا للتشويق إلى استعلام المبتدأ وليس فيه إفادة تخصيص.
وإذا علمت أن قوله {من الناس} مؤذن بأن المتحدث عنهم ستساق في شأنهم قصة مذمومة وحالة شنيعة، إذ لا يُستر ذكرهم إلا لأن حالهم من الشناعة بحيث يستحي المتكلم أن يصرح بموصوفها، وفي ذلك من تحقير شأن النفاق ومذمته أمر كبير، فوردت في شأنهم ثلاثَ عشرة آيةً نُعِيَ عليهم فيها خُبثهم ومكرهم، وسوء عواقبهم، وسفه أحلامهم، وجهالتهم، وأردف ذلك كله بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور وهم أحرياء بذلك فإن الخطة التي تدربوا فيها تجمع مذام كثيرة إذِ النفاق يجمع الكذب، والجبن، والمكيدة، وأفنَ الرأي، والبلَه، وسوءَ السلوك، والطمَع، وإضاعَة العمر، وزوالَ الثقة، وعداوةَ الأصحاب، واضمحلالَ الفضيلة.
أما الكذب فظاهر، وأما الجبن فلأنه لولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن، وأما المكيدة فإنه يحمل على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما يمكن، وأما أَفَن الرأي فلأن ذلك دليل على ضعف في العقل إذ لا داعي إلى ذلك، وأما البلَه فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به، وأما سوء السلوك فلأنَّ طَبْع النفاق إخفاء الصفات المذمومة، والصفات المذمومة، إذا لم تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها فتبقى كما هي وتزيد تمكناً بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها، وأما الطمع فلأن غالب أحوال النفاق يكون للرغبة في حصول النفع، وأما إضاعة العمر فلأن العقل ينصرف إلى ترويج أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصْبِ الحيل لإخفاء ذلك وفي ذلك ما يصرف الذهن عن الشغل بما يجدي، وأما زوال الثقة فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حَقاً، وأما عداوة الأصحاب فكذلك لأنه إذا عَلِم أن ذلك خلُق لصاحبه خَشِيَ غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته، وأما اضمحلال الفضيلة فنتيجة ذلك كله.
وقد أشار قوله تعالى: {وما هم بمؤمنين} إلى الكذب، وقولُه: {يخادعون} [البقرة: 9] إلى المكيدة والجبن، وقوله: {ما يخادعون إلا أنفسهم} [البقرة: 9] إلى أفن الرأي، وقوله: {وما يشعرون} [البقرة: 9] إلى البلَه، وقوله: {في قلوبهم مرض} [البقرة: 10] إلى سوء السلوك، وقوله: {فزادهم الله مرضاً} [البقرة: 10] إلى دوام ذلك وتزايدِه مع الزمان، وقولُه: {قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة: 11] إلى إضاعة العمر في غير المقصود، وقولُه: {قالوا إنا معكم} [البقرة: 14] مؤكَّداً ب"إنَّ" إلى قلة ثقة أصحابهم فيهم، وقولُه: {فما ربحت تجارتهم} [البقرة: 16] إلى أن أمرهم لم يحظ بالقبول عند أصحابهم، وقوله: {صم بكم عمي فهم لا يعقلون} [البقرة: 18] إلى اضمحلال الفضيلة منهم وسيجيئ تفصيل لهذا، وجمع عند قوله تعالى: {في قلوبهم مرض}.
... فحاصل معنى الإيمان حصول الاعتقاد بما يجب اعتقاده، وحاصل معنى الإسلام إظهار المرء أنه أسلم نفسه لاتّباع الدين ودعوة الرسول، قال تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} [الأحزاب: 35] الآية. وهل يخامركم شك في أن الشريعة ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام لمجرد تعمير العالم الأخروي من جنة ونار لأن الله تعالى قادر على أن يخلق لهذين الموضعين خلْقاً يعمرونهما إن شاء خَلْقَهما، ولكن الله أراد تعمير العالَمين الدنيوي والأخروي، وجعل الدنيا مِصْقَلَة النفوس البشرية تهيئها للتأهل إلى تعمير العالم الأخروي لتلتحق بالملائكة، فجعل الله الشرائع لكف الناس عن سيء الأفعال التي تصدر عنهم بدواعي شهواتهم المفسدة لفطرتهم، وأراد الله حفظ نظام هذا العالم أيضاً ليبقى صالحاً للوفاء بمراد الله إلى أمدٍ أرادَه، فشرع للناس شرْعاً ودعا الناس إلى اتباعه والدخول إلى حظيرته ذلك الدخول المسمى بالإيمان وبالإسلام لاشتراط حصولهما في قِوام حقيقة الانضواء تحت هذا الشرع، ثم يستتبع ذلك إظهارَ تمكين أنفسهم من قبول ما يُرسم لهم من السلوك عن طيب نفس، وثقةٍ بمآلي نزاهة أو رجس. وذلك هو الأعمال ائتماراً وانتهاءً وفعلاً وانكفافاً. وهذه الغاية هي التي تتفاوت فيها المراتب إلاَّ أن تفاوت أهلها فيها لا ينقص الأصل الذي به دخلوا فإن الآتي بالبعض من الخير قد أتى بما كان أحسنَ من حاله قبل الإيمان، والآتي بمعظم الخير قد فاق الذي دونَه، والآتي بالجميع بقدر الطاقة هو الفائز، بحيث إن الشريعة لا تَعدِم منفعة تحصل من أفراد هؤلاء الذين تسموا بالمؤمنين والمسلمين ومن تلك المراتب حماية الحوزة والدفاع عن البيضة...
ومما يؤيد هذا أكمل تأييد ما ورد في « الصحاح» في حديث معاذ بن جبل أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى اليمن فقال له: "إنَّك ستأتي قوماً من أهل الكتاب فإذا جئتهم فادْعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (أي ينطقوا بذلك نطقاً مطابقاً لاعتقادهم) فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" الخ فلولا أن للإيمان وللإسلام الحظ الأول لما قدمه، ولولا أن الأعمال لا دخل لها في مسمى الإسلام لما فرَّق بينهما، لأن الدعوة للحق يجب أن تكون دفعة وإلا لكان الرضا ببقائه على جزء من الكفر ولو لحظة مع توقع إجابته للدين رضىً بالكفر وهو من الكفر فكيف يأمر بسلوكه المَعصوم عن أن يُقِرّ أحداً على باطل،... ومما لا شبهة فيه أن استحقاق الثواب والعقاب على قدر الأعمال القلبية والجوارحية فالأمر الذي لا يحصُل شيءٌ من المطلوب دونَه لا يُنجي من العذاب إلا جميعُه فوجب أن يكون من لم يؤمن ولم يسلم مخلَّداً في النار لأنه لا يحصل منه شيء من المقصود بدون الإيمان والإسلام، وأما الأمور التي يقرُب فاعلها من الغاية بمقدار ما يخطُو في طرقها فثوابها على قدر ارتكابها والعقوبة على قدر تركها، ولا ينبغي أن ينازِع في هذا غيرُ مكابر، إذ كيف يستوي عند الله العليمِ الحكيمِ رَجلان أحدهما لم يؤمن ولم يسلم والآخر آمن وأسلَم وامتثل وانتهى، إلا أنه اتبع الأمَّارة بالسوء في خصلة أو زلة فيحكم بأن كلا الرجلين في عذاب وخلود؟ وهل تبقى فائدة لكل مرتكب معصية في البقاء على الإسلام إذا كان الذي فر من أجله للإسلام حاصلاً على كل تقدير وهو الخلود في النار حتى إذا أراد أن يتوب آمَن يومئذٍ؟ وهل ينكر أحد أن جل الأمة لا يخلون من التلبس بالمعصية والمعصيتين إذ العصمة مفقودة فإذا كان ذلك قبل التوبة كفراً فهل يقول هذا العاقل إن الأمة في تلك الحالة متصفة بالكفر ولا إخال عاقلاً يلتزمها بعد أن يسمعها، أفهل يموه أحد بعد هذا أن يأخذ من نحو قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] يعني الصلاة، إن الله سمَّى الصلاة إيماناً ولولا أن العمل من الإيمان لما سميت كذلك بعد أن بينَّا أن الأعمال هي الغاية من الإيمان والإسلام...
ثم على العالم المتشبع بالاطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطابها فإن منها مقام موعظة وترغيب وترهيب وتبشير وتحذير، ومنها مقام تعليم وتحقيق فيرد كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق ولا تتجاذبه المتعارضات مجاذبة المماذق فلا يحتج أحد بما ورد في أثبت أوصاف الموصوف، وأثبت أحد تلك الأوصاف تارة في سياق الثناء عليه إذ هو متصف بها جميعاً، فإذا وصف تارة بجميعها لم يكن وصفه تارة أخرى بواحد منها دالاً على مساواة ذلك الواحد لبقيتها، فإذا عرضت لنا أخبار شرعية جمعت بين الإيمان والأعمال في سياق التحذير أو التحريض لم تكن دليلاً على كون حقيقة أحدهما مركبة ومقومة من مجموعهما فإنما يحتج محتج بسياق التفرقة والنفي أو بسياق التعليم والتبيين فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقولة سخيفة ناشئة عن قلة تأمل وإحاطة بموارد الشريعة وإغضاء عن غرضها ويؤول إلى تكفير جمهور المسلمين وانتقاض الجامعة الإسلامية بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره شيء، بل يكون حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي...
ثم قال : { فيها } يعني في صحف محمد صلى الله عليه وسلم { كتب قيمة } يعني كتابا مستقيما على الحق ليس فيه عوج ، ولا اختلاف ، وإنما سميت الناس في الحياة الدنيا على ثلاثة أحوال: إما مؤمن، وإما كافر، وإما منافق.
والله سبحانه وتعالى في بداية القرآن الكريم في سورة البقرة.. أراد أن يعطينا وصف البشر جميعا بالنسبة للمنهج وأنهم ثلاث فئات: الفئة الأولى هم المؤمنون، عرفنا الله سبحانه وتعالى صفاتهم في ثلاث آيات في قوله تعالى:
{الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.
والفئة الثانية هم الكفار، وعرفنا الله سبحانه وتعالى صفاتهم في آيتين في قوله تعالى:
{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}.
وجاء للمنافقين فعرف صفاتهم في ثلاث عشرة آية متتابعة، لماذا..؟ لخطورتهم على الدين، فالذي يهدم الدين هو المنافق، أما الكافر فنحن نتقيه ونحذره، لأنه يعلن كفره.
إن المنافق، يتظاهر أمامك بالإيمان، ولكنه يبطن الشر والكفر، وقد تحسبه مؤمنا، فتطلعه على أسرارك، فيتخذها سلاحا لطعن الدين.. وقد خلق الله في الإنسان ملكات متعددة، ولكن يعيش الإنسان في سلام مع نفسه، لابد أن تكون ملكاته منسجمة وغير متناقضة. فالمؤمن ملكاته منسجمة، لأنه اعتقد بقلبه في الإيمان ونطق لسانه بما يعتقد، فلا تناقض بين ملكاته أبداً..
والكافر قد يقال إنه يعيش في سلام مع نفسه، فقد رفض الإيمان وأنكره بقلبه ولسانه وينطق بذلك، ولكن الذي فقد السلام مع ملكاته هو المنافق، أنه فقد السلام مع مجتمعه وفقد السلام مع نفسه، فهو يقول بلسانه، ما لا يعتقد قلبه، يظهر غير ما يبطن، ويقول غير ما يعتقد، ويخشى أن يكشفه الناس، فيعيش في خوف عميق، وهو يعتقد أن ذلك شيء مؤقت سينتهي.
ولكن هذا التناقض يبقى معه إلى آخر يوم له في الدنيا، ثم ينتقل معه إلى الآخرة، فينقض عليه، ليقوده إلى النار، واقرأ قوله تبارك وتعالى:
{حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون "20 "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرةٍ وإليه ترجعون "21 "} (سورة فصلت).
إذن كل ملكاتهم انقضت عليهم في الآخرة، فالسلام الذي كانوا يتمنونه لم يحققوه لا في حياتهم ولا في آخرتهم، فلسان المنافق يشهد عليه، ويداه تشهدان عليه، ورجلاه تشهدان عليه، والجلود تشهد عليه، فماذا بقى له؟
بينه وبين ربه تناقض، وبينه وبين نفسه تناقض، وبينه وبين مجتمعه تناقض، وبينه وبين آخرته تناقض. وبينه وبين الكافرين تناقض. يقول لسانه ما ليس في قلبه، بماذا وصف الحق سبحانه وتعالى المنافقين؟ قال تعالى:
{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" 8 "} (سورة البقرة).
هذه أول صفات المنافقين في القرآن الكريم، يعلنون الإيمان وفي قلوبهم الكفر، ولذلك فإن إيمانهم كله تظاهر، إذا ذهبوا للصلاة لا تكتب لهم، لأنهم يتظاهرون بها، ولا يؤدونها عن إيمان، وإذا أدوا الزكاة، فإنها تكون عليهم حسرة، لأنهم ينفقونها وهم لها كارهون، لأنها في زعمهم نقص من مالهم. لا يأخذون عليها ثوابا في الآخرة، وإذا قتل واحد منهم في غزوة، انتابهم الحزن، والأسى، لأنهم أهدروا حياتهم ولم يقدموها في سبيل الله.
وهكذا يكون كل ما يفعلونه شقاء بالنسبة لهم.
أما المؤمن فحين يصلي أو يؤدي الزكاة أو يستشهد في سبيل الله فهو يرجو الجنة، وأما المنافقون فإنهم يفعلون كل هذا، وهم لا يرجون شيئا.. فكأنهم بنفاقهم قد حكم عليهم الله سبحانه وتعالى بالشقاء في الدنيا والآخرة، فلا هم في الدنيا لهم متعة المؤمن فيما يفعل في سبيل الله، ولا هم في الآخرة لهم ثواب المؤمن فيما يرجو من الله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآيات تبين باختصار وعمق الخصائص الروحية للمنافقين وأعمالهم.
الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، ولا القدرة اللازمة للمعارضة.
هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية توغّلت في أعماق المسلمين، وشكّلت خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين. كان تشخيصهم صعباً لأنهم متظاهرون بالإسلام، غير أن القرآن بيّن بدقة مواصفاتهم وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم.
الآيات المذكورة قبلها بيّنت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنينَ).