{ وَمِنْهُمْ } أي : من أهل الكتاب { أُمِّيُّونَ } أي : عوام ، ليسوا من أهل العلم ، { لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ } أي : ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط ، وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم ، وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم .
فذكر في هذه الآيات علماءهم ، وعوامهم ، ومنافقيهم ، ومن لم ينافق منهم ، فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال ، والعوام مقلدون لهم ، لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين .
ثم يستطرد يقص على المسلمين من أحوال بني إسرائيل : إنهم فريقان . فريق أمي جاهل ، لا يدري شيئا من كتابهم الذي نزل عليهم ، ولا يعرف منه إلا أوهاما وظنونا ، وإلا أماني في النجاة من العذاب ، بما أنهم شعب الله المختار ، المغفور له كل ما يعمل وما يرتكب من آثام ! وفريق يستغل هذا الجهل وهذه الأمية فيزور على كتاب الله ، ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة ، ويكتم منه ما يشاء ، ويبدي منه ما يشاء ويكتب كلاما من عند نفسه يذيعه في الناس باسم أنه من كتاب الله . . كل هذا ليربح ويكسب ، ويحتفظ بالرياسة والقيادة :
( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ، ثم يقولون : هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا . فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون ) . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني}...: من اليهود من لا يقرأ التوراة إلا أن يحدثهم عنها رءوس اليهود،
{وإن هم إلا يظنون} في غير يقين ما يستيقنون به، فإن كذبوا رءوس اليهود أو صدقوا تابعوهم باعترافهم، فليس لهم بالتوراة علم إلا ما حدثوا عنها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ومِنْهُمْ أُمّيون}: ومن هؤلاء اليهود الذين قصّ الله قصصهم في هذه الآيات، وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم، فقال لهم: {أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} وهم إذا لقوكم قالوا آمنا...
يعني بالأميين: الذين لا يكتبون ولا يقرءون، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنّا أُمّةٌ أُمّيّةٌ؛ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ»...
ورُوي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول... {وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ} قال: الأميون قوم لم يصدّقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتابا أنزله الله، فكتبوا كتابا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله.
وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن الأميّ عند العرب هو الذي لا يكتب.
وأرى أنه قيل للأمي أمي نسبة له بأنه لا يكتب إلى أمه، لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «إنّا أمّةٌ أُمّيّةٌ لا نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ» وكما قال: {هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الامّيَينَ رَسُولاً مِنْهُمْ}. فإذا كان معنى الأمي في كلام العرب ما وصفنا، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي من أن معنى قوله: {وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ}: ومنهم من لا يحسن أن يكتب.
{لاَ يَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أمانِيّ}.
{لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ}: لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم...لا يعرفون الكتاب الذي أنزله الله.
وإنما عنى بالكتاب: التوراة، ولذلك أدخلت فيه الألف واللام لأنه قصد به كتاب معروف بعينه. ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم، وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به من أحكام الله وفرائضه وما فيه من حدوده التي بينها فيه.
"إِلاّ أمانِيّ" فقال بعضهم... عن ابن عباس: {إلا أماني} يقول: إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذبا.
حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {لا يعلمون الكتاب إلا أماني} إلا كذبا.
وقال آخرون: الأماني: يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم...
"إلا أماني": إلا أحاديث... أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا، وكانوا يتكلمون بالظنّ بغير ما في كتاب الله، ويقولون هو من الكتاب؛ أمانيّ يتمنونها... يتمنون على الله ما ليس لهم.
وأولى ما روينا في تأويل قوله: {إلاّ أمانِيّ} بالحقّ وأشبهه بالصواب، الذي قاله ابن عباس، الذي رواه عنه الضحاك، وقول مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا، ولكنهم يتخرّصون الكذب ويتقوّلون الأباطيل كذبا وزورا. والتمني في هذا الموضع، هو تخلق الكذب وتخرّصه وافتعاله، يقال منه: تمنيت كذا: إذا افتعلته وتخرّصته. ومنه الخبر الذي رُوي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: «ما تغنّيت ولا تمنيت». يعني بقوله ما تمنيت: ما تخرّصت الباطل ولا اختلقت الكذب والإفك.
والذي يدلّ على صحة ما قلنا في ذلك وأنه أولى بتأويل قوله: {إلاّ أمانِيّ} من غيره من الأقوال، قول الله جل ثناؤه: {وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ} فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنّا منهم لا يقينا. ولو كان معنى ذلك أنهم يتلونه لم يكونوا ظانين، وكذلك لو كان معناه: يشتهونه لأن الذي يتلوه إذا تدبره علمه، ولا يستحقّ الذي يتلو كتابا قرأه وإن لم يتدبره بتركه التدبير أن يقال: هو ظانّ لما يتلو إلا أن يكون شاكّا في نفس ما يتلوه لا يدري أحقّ هو أم باطل. ولم يكن القوم الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود فيما بلغنا شاكين في التوراة أنها من عند الله. وكذلك المتمني الذي هو في معنى المتشهي غير جائز أن يقال: هو ظانّ في تمنيه، لأن التمني من المتمني إذا تمنى ما قد وجد عينه، فغير جائز أن يقال: هو شاك فيما هو به عالم لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد، والمتمني في حال تمنيه موجود غير جائز أن يقال: هو يظنّ تمنيه. وإنما قيل: {لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ} والأماني من غير نوع الكتاب، كما قال ربنا جل ثناؤه: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّباعَ الظّنّ}، والظنّ من العلم بمعزل، وكما قال: {وَما لأِحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ اَلأعْلَى}...
{وَإنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ}: «وما هم» كما قال جل ثناؤه: {قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَحْنُ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} يعني بذلك: ما نحن إلا بشر مثلكم. ومعنى قوله: "إلاّ يَظُنّونَ" إلا يشكون، ولا يعلمون حقيقته وصحته. والظنّ في هذا الموضع الشك، فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخطّ ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه إلا تخرّصا وتقوّلاً على الله الباطل ظنا منه أنه محقّ في تخرّصه وتقوّله الباطل. وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظنّ أنهم محقون وهم مبطلون، لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله، ولم تكن من كتاب الله، فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعون ما هم فيه شاكون، وفي حقيقته مرتابون مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله، ومخالفة منهم لأمر الله واغترارا منهم بإمهال الله إياهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
{وإن هم إلا يظنون}... المراد بذلك نفي العلم عنهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أخبر أنهم متفاوتون في نقائص كفرهم؛ فقومٌ منهم أخَسُّ درجةً وأكثر جهلاً ركنوا إلى التقليد، ولم يملكهم استيلاء شبهة، بل اغتروا بظنِّ وتخمين، فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها، دون معرفة معانيها. ومنهم مَنْ أكثرُ شأنه ما يتمناه في نفسه، ولا يساعده إمكان، ولا لظنونه قط تحقيق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ أَمَانِي} إلا ما هم عليه من أمانيهم، وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة...
ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم والاستيقان، ثم العوامّ الذين قلدوهم، ونبه على أنهم في الضلال سواء، لأن العالم عليه أن يعمل بعلمه، وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظنّ وهو متمكن من العلم...
اعلم أن المراد بقوله: {ومنهم أميون} اليهود لأنه تعالى لما وصفهم بالعناد وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم،
فالفرقة الأولى هي الفرقة الضالة المضلة، وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.
والفرقة الثالثة: الذين يجادلون المنافقين،
والفرقة الرابعة: هم المذكورون في هذه الآية وهم العامة الأميون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم، فبين الله تعالى أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحدا بل لكل قسم منهم سبب آخر ومن تأمل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمة، فإن فيهم من يعاند الحق ويسعى في إضلال الغير وفيهم من يكون متوسطا، وفيهم من يكون عاميا محضا مقلدا...
أحدها: أن المعارف كسبية لا ضرورية، فلذلك ذم من لا يعلم ويظن.
وثانيها: بطلان التقليد مطلقا، وهو مشكل لأن التقليد في الفروع جائز عندنا.
وثالثها: أن المضل وإن كان مذموما،فالمغتر بإضلال المضل أيضا مذموم لأنه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة.
ورابعها: أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز والله أعلم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قال أبو بكر الأنباري:... وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله عز وجل: {وإن هم إلا يظنون}، أراد إلا يكذبون...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وإن هم إلا يظنون}:... أتى بالخبر فعلاً مضارعاً، ولم يأت باسم الفاعل، لأنه يدل على حدوث الظن وتجدده لهم شيئاً فشيئاً، فليسوا ثابتين على ظن واحد، بل يتجدد لهم ظنون دالة على اضطراب عقائدهم واختلاف أهوائهم...
وفي هذه الآية دليل على... أن القول بغير دليل باطل.
قال ابن عرفة: يؤخذ منه ذم التقليد لكن في الباطل، ولا نزاع فيه...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
نبهنا الله تعالى بذم الأميين، على اكتساب المعارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه. وبذم زعمائهم، على تحرّي الصدق وتجنب الإضلال، إذ هو أعظم من الضلال.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذلك الذي تقدم هو شأن علمائهم: يحرفون كتاب الله ويخرجون من حكمه بالتأويل، وهذا هو شأن عامتهم: لا علم لهم بشيء من الكتاب، ولا معرفة لهم بالأحكام، وما عندهم من الدين فهو أماني يتمنونها وتجول صورها في خيالاتهم، وهذه الصور هي كل ما عندهم من العلم بدينهم، وما على بينة منها، وإنما هي ظنون يلهون بها. وهذا هو محل الذم لا مجرد كونهم أميين، فإن الأمي قد يتلقى العلم عن العلماء الثقات ويعقله عنهم بدليله فيكون علمه صحيحا وهؤلاء لم يكونوا كذلك. فإن قيل: لم سمى ما كانوا عليه من الأماني ظنا مع أنهم أخذوه عن رؤساء دينهم الموثوق بهم عندهم وسلموه تسليما، فلم يكن في نفوسهم ما يخالفه ومثل هذا يسمى اعتقادا وعلما؟ نقول إنما العلم بالدليل ولا يسمي مثل ذلك علما إلا من لا يعرف معنى العلم. على أنه لم يكن راجحا ومسلما إلا لأن مقابله لم يخطر ببالهم ولو أورد عليهم لتزلزل ما عندهم ثم زال، أو ظهر فيه الشك وتطرق إليه الاحتمال، ويصح أن يقال في مثل هؤلاء إن الظن أو التردد كان نائما في نفوسهم وهو عرضة لأن يوقظه نقيضه ويذهب به متى طرأ. ونوم الظن لا يصح أن يسمى اعتقادا.
قال الأستاذ الإمام: هذه الأماني توجد في كل الأمم في حال الضعف والانحطاط يفتخرون بما بين أيديهم من الشريعة وبسلفهم الذين كانوا مهتدين بها وبما لهم من الآثار التي كانت ثمرة تلك الهداية، وتسول لهم الأماني أن ذلك كاف في نجاتهم وسعادتهم وفضلهم على سائر الناس. هكذا كان اليهود في زمن التنزيل وقد اتبعنا سنتهم وتلونا تلوهم فظهر فينا تأويل الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع "وإننا نقرأ أخبارهم فنسخر منهم ولا نسخر من أنفسنا، ونعجب لهم كيف رضوا بالأماني ونحن غارقون فيها. ثم إن الآية تدل على بطلان التقليد وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه، وقد مضى على هذا إجماع الصدر الأول وأهل القرون الثلاثة، وإنما كان الجاهل يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها، والأحكام بروايتها، ولا يتقلد رأيه كيفما كان، من غير بينة ولا برهان، وفسر بعضهم الأماني بالأكاذيب ابتداء، ومنهم من فسرها بالقراءات أي أنهم لا حظ لهم من الكتاب إلا قراءة الفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل. فهو على حد {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) وهذا النوع من التمني قد برّز فيه المسلمون حتى سبقوا من قبلهم فقد أمسوا أكثر الأمم تلاوة لكتابهم، وأقلهم فهما له واهتداء به.
قال الأستاذ الإمام: إنما يحسن تفسير هذه الآيات من كان على علم بتاريخ اليهود في ذلك العصر ووقوف على حالهم، وإن كانت إلا نسخة من حال بعض الشعوب الموجودين الآن... كانوا أكثر الناس مراء وجدالا في الحق وإن كان بينا باهرا، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس بالباطل كالربا الفاحش وغشا وتدليسا وتلبيسا، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص وأفضل الناس كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان. فهذه هي الأماني التي صدتهم عن قبول الإسلام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجي والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضاً في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم...
وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا: {ومنهم أميون} أي ليس جميعهم أهل كتاب. ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75]...
ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقاً لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقاً وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعاً، أو هي التقادير التي وضعها الأحبار موضع الوَحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلاً وهذا أظهر الوجوه...
وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدَّعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماءَ فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلاً فإن غي العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالماً، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحداً من هاته المعاني ليس من علم الكتاب...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الجملة، الأماني التي يعلم الأميون من أهل الكتاب مضمون كتابهم بها هي ما يكون متفقا مع ما يتمنون، فلا يعلمونه تكليفات وأحكاما، فيها حساب، وثواب أو عقاب، إنما يعلمونه رغبات تتحقق، وأهواء تثبت، ومثلهم كمثل عوام المسلمين، الذين يقولون أمة الإسلام على خير، ولو لم يعملوا أي عمل، بل لو لم يعملوا عملا صالحا قط، و لو زنوا أو سرقوا، وسكروا، وعبثوا في كل معبث، ولم يتركوا منكرا إلا ارتكبوه، وسدوا باب الجهاد، وكانوا كلا على أعدائهم يتصرفون في مصائرهم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
مما كشفته هذه الآيات من الحقائق، أن صفة (الأمية) التي كان بنو إسرائيل يعيبون بها العرب، متبجحين بتفوقهم عليهم في القراءة والكتابة، لم تكن قاصرة عليهم وحدهم، بل كانت خصلة شائعة بين بني إسرائيل أنفسهم، رغما عن ادعاءاتهم المزيفة وتظاهرهم بعكسها من العلم والمعرفة. وهكذا تفضحهم الآية الكريمة أمام المسلمين والناس أجمعين، عندما تنطق بالأمر الواقع الذي ليس له من دافع، فتقول: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)}...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
من فوائد الآية: أن الأُمّية يوصف بها من لا يقرأ، ومن يقرأ ولا يفهم؛ لقوله تعالى: {ومنم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني}...
ومنها: ذم من لا يعتني بمعرفة معاني كتاب الله عزّ وجلّ...
ومنها: أن من لا يفهم المعنى فإنه لا يتكلم إلا بالظن؛ لقوله تعالى: {وإن هم إلا يظنون}؛ العامي يقرأ القرآن من أوله إلى آخره، لكن لا يفهم معناه؛ فإذا تكلم في حكم من أحكام الله الشرعية التي دل عليها الكتاب فإنما كلامه عن ظن؛ لأنه في الحقيقة لا يعلم؛ ولا يمكن أن يعلم إلا إذا فهم المعنى...
ومنها: ذم الحكم بالظن، وأنه من صفات اليهود؛ وهذا موجود كثيراً عند بعض الناس الذين يحبون أن يقال عنهم: "إنهم علماء؛ تجده يفتي بدون علم، وربما أفتى بما يخالف القرآن، والسنة وهو لا يعلم...
ومنها: أن المقلد ليس بعالم؛ لأنه لا يفهم المعنى؛ وقد قال ابن عبد البر: "إن العلماء أجمعوا أن المقلد لا يعد في العلماء"؛ وهو صحيح: المقلد ليس بعالم؛ غاية ما هنالك أنه نسخة من كتاب؛ بل الكتاب أضبط منه؛ لأنه قد ينسى؛ وليس معنى ذلك أننا نذم التقليد مطلقاً؛ التقليد في موضعه هو الوا؟؟ب؛ لقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النمل: 43..]...
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
الآية الكريمة تنادي بالضلال والخسران على الذين يسعون وراء الأوهام متنكبين عن الصراط السوي المؤدي الى الحقيقة الواضحة، وهم الذين رضوا بالجهل بديلا عن العلم، وبالتقاليد الموروثة، والزور المتداول بدلا عن الحق الذي أنزله الله وأقام عليهم حجته، ورفع لهم مناره، وما أكثر هؤلاء في كل أمة، وأشد بلاءهم في كل زمان، فإذا ناداهم منادي الحقيقة سدوا منافذ آذانهم خشية أن تنجذب نفوسهم إلى صوته، وإذا لاح لهم نور الحق غمضوا أعينهم وولوا معرضين لئلا يكتشفوا شيئا من عوارهم، فمثلهم كمثل الخفافيش تأنس بالظلمة، وتستوحش من الضياء...