فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر ، وأعجبهن غاية ، وظهر منهن من العذر لامرأة العزيز ، شيء كثير - أرادت أن تريهن جماله الباطن بالعفة التامة فقالت معلنة لذلك ومبينة لحبه الشديد غير مبالية ، ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي : امتنع وهي مقيمة على مراودته ، لم تزدها مرور الأوقات إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا .
ولهذا قالت له بحضرتهن : { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } لتلجئه بهذا الوعيد إلى حصول مقصودها منه ، فعند ذلك اعتصم يوسف بربه ، واستعان به على كيدهن
ورأت المرأة أنها انتصرت على نساء طبقتها ، وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهش والإعجاب والذهول . فقالت قولة المرأة المنتصرة ، التي لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها ؛ والتي تفخر عليهن بأن هذا في متناول يدها ؛ وإن كان قد استعصى قياده مرة فهي تملك هذا القياد مرة أخرى :
فانظرن ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب !
( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) . .
ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فطلب الاعتصام - تريد أن تقول : إنه عانى في الاعتصام والتحرز من دعوتها وفتنتها ! - ثم تظهر سيطرتها عليه أمامهن في تبجح المرأة من ذلك الوسط ، لا ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية جاهرة مكشوفة في معرض النساء :
ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين !
فهو الإصرار والتبجح والتهديد والإغراء الجديد في ظل التهديد .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مّن الصّاغِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطعن أيديهن ، فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه وفي نظرة منكن نظرتن إليه ما أصابكن من ذهاب العقل وغروب الفهم ولها إليه حتى قطعتنّ أيديكنّ ، هو الذي لمتنني في حبي إياه وشغف فؤادي به ، فقلتنّ : قد شغف امرأة العزيز فتاها حبّا { إنا لنراها في ضلال مبين } . ثم أقرّت لهنّ بأنها قد راودته عن نفسه ، وأن الذي تحدثن به عنها في أمره حقّ ، فقالت : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ } ، مما راودته عليه من ذلك . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قالت : { فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ } ، تقول : بعد ما حلّ السراويل استعصى ، لا أدري ما بدا له .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فاسْتَعْصَمَ } ، أي : فاستعصى .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { فاسْتَعْصَمَ } ، يقول : فامتنع .
وقوله : { لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَننّ وَلَيَكُونا مِنَ الصّاغِرِينَ } ، تقول : ولئن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه من حاجتي إليه { ليسجننّ } ، تقول : ليحبسنّ في السجن ، وليكونا من أهل الصغار والذلة بالحبس والسجن ، ولأهيننه . والوقف على قوله : { ليسجننّ } ، بالنون لأنها مشددة ، كما قيل : { لَيُبَطّئَنّ } .
وأما قوله : { وَلَيَكُونا } ، فإن الوقف عليه بالألف ، لأنها النون الخفيفة ، وهي شبيهة نون الإعراب في الأسماء ، في قول القائل : رأيت رجلاً عندك ، فإذا وقف على الرجل قيل : رأيت رجلاً ، فصارت النون ألفا ، فكذلك ذلك في : { وليكونا } ، ومثله قوله : { لَنَسْفَعا بالنّاصِيَةِ ناصِيَةٍ } ، الوقف عليه بالألف لما ذكرت ، ومنه قول الأعشى :
وَصَلّ على حِينِ العَشِيّاتِ وَالضّحَى *** وَلا تعْبُدِ الشّيْطانَ وَاللّهَ فاعْبُدَا
الفاء في { فذلكن } فاء الفصيحة ، أي إن كان هذا كما زعمتُنّ ملكاً فهو الذي بلَغكن خبره فلمتنني فيه .
و { لمتنني فيه } ( في ) للتعليل ، مثل " دخلت امرأةٌ النار في هرة " . وهنالك مضاف محذوف ، والتقدير : في شأنه أو في محبته .
والإشارة ب ( ذلكن ) لتمييز يوسف عليه السّلام ، إذ كُنّ لم يرينَه قبلُ . والتعبير عنه بالموصولية لعدم علم النسوة بشيء من معرّفاته غير تلك الصلة ، وقد باحت لهن بأنها راودته لأنها رأت منهن الافتتان به فعلمت أنهن قد عذرنها . والظاهر أنهن كن خلائل لها فلم تكتم عنهن أمرها .
واستعصم : مبالغة في عصم نفسه ، فالسين والتاء للمبالغة ، مثل : استمسك واستجمع الرأي واستجاب . فالمعنى : أنه امتنع امتناع معصوم ، أي جَاعلاً المراودة خطيئة عصم نفسه منها .
ولم تزل مصممة على مراودته تصريحاً بفرط حبها إياه ، واستشماخاً بعظمتها ، وأن لا يعصي أمرها ، فأكدت حصول سجنه بنوني التوكيد ، وقد قالت ذلك بمسمع منه إرهاباً له .
وحذف عائد صلة { ما آمره } وهو ضمير مجرور بالباء على نزع الخافض مثل : أمرتك الخير . . .
والسجن بفتح السين : قياس مصدر سجَنه ، بمعنى الحبس في مكان محيط لا يخرج منه . ولم أره في كلامهم بفتح السين إلا في قراءة يعقوب هذه الآية . والسجن بكسر السين : اسم للبيت الذي يسجن فيه ، كأنهم سموه بصيغة المفعول كالذبح وأرادوا المسجون فيه . وقد تقدم قولها آنفاً : { إلا أن يُسجن أو عذابٌ أليم } [ سورة يوسف : 25 ] .
والصاغر : الذليل . وتركيب { من الصاغرين } أقوى في معنى الوصف بالصّغار من أن يقال : وليكونن صاغراً ، كما تقدم عند قوله تعالى : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة البقرة ( 67 ) ، وقوله : { وكونوا مع الصادقين } في آخر سورة براءة ( 119 ) .
وإعداد المُتّكأ لهن ، وبَوحُها بسرّها لهن يدل على أنهن كن من خلائلها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.