ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } أي : لا تملها عن الحق جهلا وعنادا منا ، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين ، فثبتنا على هدايتك وعافنا مما{[154]} ابتليت به الزائغين { وهب لنا من لدنك رحمة } أي : عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات { إنك أنت الوهاب } أي : واسع العطايا والهبات ، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات .
عندئذ تنطلق ألسنتهم وقلوبهم في دعاء خاشع وفي ابتهال منيب : أن يثبتهم على الحق ، وألا يزيغ قلوبهم بعد الهدى ، وأن يسبغ عليهم رحمته وفضله . . ويتذكرون يوم الجمع الذي لا ريب فيه ، والميعاد الذي لا خلف له :
( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا . وهب لنا من لدنك رحمة . إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه . إن الله لا يخلف الميعاد ) . .
هذا هو حال الراسخين في العلم مع ربهم ؛ وهو الحال اللائق بالإيمان ؛ المنبثق من الطمأنينة لقول الله ووعده ؛ والثقة بكلمته وعهده ؛ والمعرفة برحمته وفضله ؛ والإشفاق مع هذا من قضائه المحكم وقدره المغيب ؛ والتقوى والحساسية واليقظة التي يفرضها الإيمان على قلوب أهله ، فلا تغفل ولا تغتر ولا تنسى في ليل أو نهار . .
والقلب المؤمن يدرك قيمة الاهتداء بعد الضلال . قيمة الرؤية الواضحة بعد الغبش . قيمة الاستقامة على الدرب بعد الحيرة . قيمة الطمأنينة للحق بعد الأرجحة . قيمة التحرر من العبودية للعبيد بالعبودية لله وحده .
قيمة الاهتمامات الرفيعة الكبيرة بعد اللهو بالاهتمامات الصغيرة الحقيرة . . ويدرك أن الله منحه بالإيمان كل هذا الزاد . . ومن ثم يشفق من العودة إلى الضلال ، كما يشفق السائر في الدرب المستقيم المنير أن يعود إلى التخبط في المنعرجات المظلمة . وكما يشفق من ذاق نداوة الظلال أن يعود إلى الهجير القائظ والشواظ ! وفي بشاشة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق جفاف الإلحاد وشقاوته المريرة . وفي طمأنينة الإيمان حلاوة لا يدركها إلا من ذاق شقوة الشرود والضلال !
ومن ثم يتجه المؤمنون إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع :
( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) . .
وينادون رحمة الله التي أدركتهم مرة بالهدى بعد الضلال ، ووهبتهم هذا العطاء الذي لا يعدله عطاء :
( وهب لنا من لدنك رحمة . إنك أنت الوهاب ) . .
وهم بوحي إيمانهم يعرفون أنهم لا يقدرون على شيء إلا بفضل الله ورحمته . وأنهم لا يملكون قلوبهم فهي في يد الله . . فيتجهون إليه بالدعاء أن يمدهم بالعون والنجاة .
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان رسول الله [ ص ] كثيرا ما يدعو : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قلت : يا رسول الله ، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء . فقال : " ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن . إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه " . .
ومتى استشعر القلب المؤمن وقع المشيئة على هذا النحو لم يكن أمامه إلا أن يلتصق بركن الله في حرارة . وأن يتشبث بحماه في إصرار ، وأن يتجه إليه يناشده رحمته وفضله ، لاستبقاء الكنز الذي وهبه ، والعطاء الذي أولاه !
{ رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أن الراسخين في العلم يقولون : آمنا بما تشابه من آي كتاب الله ، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه ، ويقولون أيضا : { رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا } يعني أنهم يقولون رغبة منهم إلى ربهم ، في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الذي لا يعلمه غير الله ، يا ربنا لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحقّ فصدّوا عن سبيلك ، { لا تُزِغْ قُلُوبَنَا } لا تملها فتصرفها عن هداك { بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا } له ، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه ، { وَهَبْ لَنا } يا ربنا { مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } يعني من عندك رحمة ، يعني بذلك : هب لنا من عندك توفيقا وثباتا للذي نحن عليه ، من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه¹ { إنّكَ أنْتَ الوَهّابُ } يعني : إنك أنت المعطي عبادك التوفيق والسداد ، للثبات على دينك ، وتصديق كتابك ورسلك . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا } أي لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا ، { وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } .
وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم ، وأن يعطيهم رحمة منه معونة لهم للثبات على ما هم عليه من حسن البصيرة بالحقّ الذي هم عليه مقيمون ، ما أبان عن خطأ قول الجهلة من القدرية ، أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته ، وإمالته له عنها جور ، لأن ذلك لو كان كما قالوا لكان الذين قالوا : { رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا } بالذم أولى منهم بالمدح ، لأن القول لو كان كما قالوا ، لكان القوم إنما سألوا ربهم مسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم ، أن لا يظلمهم ولا يجور عليهم ، وذلك من السائل جهل¹ لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عباده ولا يجور عليهم ، وقد أعلم عباده ذلك ، ونفاه عن نفسه بقوله : { وَمَا رَبّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ } ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها ، وفي فساد ما قالوا من ذلك الدليل الواضح ، على أن عدلاً من الله عزّ وجلّ إزاغة من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته ، فلذلك استحقّ المدح من رغب إليه في أن لا يزيغه لتوجيهه الرغبة إلى أهلها ووضعه مسألته موضعها ، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلى ربه في ذلك مع محله منه ، وكرامته عليه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِي على دِينِكَ » ثم قرأ : { رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا } . . . » إلى آخر الاَية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري ، قال : حدثنا شهر بن حوشب ، قال : سمعتُ أم سلمة تحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : «اللّهُمّ مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِي على دِينِكَ ! » قال : قلت يا رسول الله ، وإن القلب ليقلّب ؟ قال : «نَعَمْ ، مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ بَشَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إلاّ وَقَلْبُهُ بَيْنَ أصْبُعَيْنِ مِنْ أصابعه ، فإنْ شاءَ أقامَهُ ، وَإنْ شاءَ أزَاغَهُ ، فَنَسألُ اللّهُ رَبّنَا أنْ لا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانا ، ونسألُهُ أنْ يَهَبَ لَنا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنّهُ هُوَ الوَهّابُ » . قالت : قلت يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : «بلى ، قولي : اللّهُمّ رَبّ النّبِيّ مُحَمّدٍ ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، وأذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي ، وأجِرْنِي مِنْ مُضِلاّتِ الفِتَنِ » .
حدثني محمد بن منصور الطوسي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش عن أبي سفيان ، عن جابر ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : «يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ » ! فقال له بعض أهله : يخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به ؟ قال : «إِنّ القَلْبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّحْمَنِ تَبارَكَ وَتَعَالَى » يَقُولُ بِهِ هَكَذَا¹ وحرّك أبو أحمد أصبعيه . قال أبو جعفر : وإن الطوسي وسَقَ بين أصبعيه .
حدثني سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا الأعمش عن أبي سفيان ، عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما قول : «يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ » ! قلنا : يا رسول الله قد آمنا بك ، وصدقنا بما جئت به ، فيخافُ علينا ؟ قال : «نَعَمْ ، إِنّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللّهِ يُقَلّبُها تَبَارَكَ وَتَعَالَى » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، وحدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا أيوب بن بشر جميعا ، عن ابن جابر ، قال : سمعت بشر بن عبيد الله ، قال : سمعت أبا إدريس الخولاني يقول : سمعت النواس بن سمعان الكلابي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلاّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أقَامَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أزَاغَهُ » وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «يا مُقَلّبَ القُلُوبِ ثَبّتْ قُلُوبَنَا على دِينِكَ ، وَالمِيزانُ بِيَدِ الرّحْمَنِ يَرْفَعُ أقْوَاما وَيَخْفِضُ آخَرِينَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ » .
حدثني عمر بن عبد الملك الطائي ، قال : حدثنا محمد بن عبيدة ، قال : حدثنا الجرّاح بن مليح البهراني ، عن الزبيدي ، عن جويبر ، عن سمرة بن فاتك الأسدي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «المَوَازِينُ بِيَدِ اللّهِ يَرْفَعُ أقْوَاما وَيَضَعُ أقْوَاما ، وَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّ حمَنِ ، إِنْ شَاءَ أزَاغَهُ وَإِنْ شَاءَ أقَامَهُ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، قال : أخبرني أبو هانىء الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إِنّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلّها بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الرّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرّفُ كَيْفَ يَشَاءُ » . ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ مُصَرّفَ القُلُوبِ صَرّفْ قُلُوبُنَا إلى طَاعَتِكَ » .
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، قال : حدثنا شهر بن حوشب ، قال : سمعت أم سلمة تحدّث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : «اللّهُمّ ثَبّتْ قَلْبِي على دِينِكَ » . قالت : قلت يا رسول الله ، وإن القلوب لتقلب ؟ قال : «نَعَمْ ، ما مِنْ خَلْقِ اللّهِ مِنْ بَنِي آدَمَ بَشَرٌ إِلاّ أنّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ اللّهِ إِنْ شَاءَ أقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أزَاغَهُ ، فَنَسألُ اللّهَ رَبّنَا أنْ لا يَزِيغَ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ، وَنسألُهُ أنْ يَهَبَ لَنا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إِنّهُ هُوَ الوَهّابُ » .
دعاء عُلِّمَه النبي صلى الله عليه وسلم تعليماً للأمة : لأنّ الموقع المحكي موقع عبرة ومثار لهواجس الخوف من سوء المصير إلى حال الذين في قلوبهم زيغ فما هم إلاّ من عقلاء البشر ، لا تفاوت بينهم وبين الرّاسخين في الإنسانية ، ولا في سلامة العقول والمشاعر ، فما كان ضلالهم إلاّ عن حرمانهم التوفيق ، واللطف ، ووسائلَ الاهتداء .
وقد عُلم من تعقيب قوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } [ آل عمران : 7 ] الآيات بقوله : { ربنا لا تزغ قلوبنا } أنّ من جملة ما قُصد بوصف الكتاب بأنّ منه محكماً ومنه متشابهاً ، إيقاظَ الأمة إلى ذلك لتكون على بصيرة في تدبّر كتابها : تحذيراً لها من الوقوع في الضلال ، الذي أوقع الأممَ في كثير منه وجودُ المتشابهات في كتبها ، وتحذيراً للمسلمين من اتّباع البوارق الباطلة مثل ما وقع فيه بعض العرب من الردّة والعصيان ، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لتوهّم أنّ التديّن بالدين إنّما كان لأجل وجود الرسول بينهم ، ولذلك كان أبو بكر يدعو بهذه الآية في صلاته مدة ارتداد من ارتد من العرب ، ففي « الموطأ » ، عن الصُّنَابِحي : أنّه قال : « قدمتُ المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب فقام في الثالثة فدنوت منه حتى إنّ ثيابي لتكاد تمسّ ثيابه فسمعته يقرأ بأمّ القرآن وهذه الآية : { ربنا لا تزغ قلوبنا } الآية .
فَزَيْغ القلب يتسبّب عن عوارض تعرض للعقل : من خلل في ذاته ، أو دواعٍ من الخُلطة أو الشهوة ، أو ضعف الإرادة ، تحول بالنفس عن الفضائل المتحلّية بها إلى رذائل كانت تهجس بالنفس فتذودها النفس عنها بما استقرّ في النفس من تعاليم الخير المسمّاة بالهُدى ، ولا يدري المؤمن ، ولا العاقلُ ، ولا الحكيم ، ولا المهذّبُ : أيَّةَ ساعة تحلّ فيها به أسباب الشقاء ، وكذلك لا يدري الشقي ، ولا المنهمك ، الأفن : أيَّةَ ساعة تحفّ فيها به أسباب الإقلاع عمّا هو متلبّس به من تغيّر خَلْق ، أو خُلُق ، أو تبدل خَليط ، قال تعالى : { ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم } [ الأنعام : 110 ] ولذا كان دأب القرآن قرنَ الثناء بالتحذير ، والبشارة بالإنذار .
وقوله : { بعد إذ هديتنا } تحقيق للدعوة على سبيل التلطّف ؛ إذ أسندوا الهَدْي إلى الله تعالى ، فكان ذلك كرماً منه ، ولا يرجع الكريم في عطيته ، وقد استعاذَ النبي صلى الله عليه وسلم من السلب بعد العطاء .
وإذْ اسم للزمن الماضي متصرّف ، وهي هنا متصرّفة تصرّفاً قليلاً ؛ لأنّها لمّا أضيف إليها الظرف ، كانت في معنى الظروف ، ولما كانت غير منصوبة كانت فيها شائبةُ تصرّفٍ ، كما هي في يومئذٍ وحينئذٍ ، أي بعد زمن هدايتِك إيانا .
وقوله : { وهب لنا من لدنك رحمة } طلبوا أثَرَ الدوام على الهُدى وهو الرحمة ، في الدنيا والآخرة ، ومنع دواعي الزيغ والشر .
وجعلت الرحمة من عند الله لأنّ تيسير أسبابها ، وتكوين مهيّئاتها ، بتقدير الله ؛ إذ لو شاء لكان الإنسان معَرّضاً لنزول المصائب والشرور في كلّ لمحة ؛ فإنّه محفوف بموجودات كثيرة ، حيّة وغير حيّة ، هو تلقاءَها في غاية الضعف ، لولا لطف الله به بإيقاظ عقله لاتّقاء الحوادث ، وبإرشاده لاجتناب أفعال الشرور المهلكة ، وبإلهامه إلى ما فيه نفعه ، وبجعل تلك القوى الغالبةِ له قوى عمياءَ لا تهتدي سبيلاً إلى قصده ، ولا تصادفه إلاّ على سبيل الندور ولهذا قال تعالى : { اللَّه لطيف بعباده } [ الشورى : 19 ] ومن أجلَى مظاهر اللطف أحوال الاضطرار والالتجاء وقد كنت قلت كلمة « اللّطْفُ عند الاضطرار » .
والقصر في قوله : { إنك أنت الوهاب } للمبالغة ، لأجل كمال الصفة فيه تعالى ؛ لأنّ هبات الناس بالنسبة لما أفاض الله من الخيرات شيء لا يعبأ به . وفي هذه الجملة تأكيد بإنّ ، وبالجملة الاسمية ، وبطريق القصر .