ثم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }
يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله ، الجاحدين بدينه وكتابه ، قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم شيئا ، وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم ، ويقولون { نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين } فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون { وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن } وليس للأولاد والأموال قدر عند الله ، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة ، كما قال تعالى { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } وأخبر هنا أن الكفار هم وقود النار ، أي : حطبها ، الملازمون لها دائما أبدا ، وهذه الحال التي ذكر الله تعالى أنها لا تغني الأموال والأولاد عن الكفار شيئا ، سنته الجارية في الأمم السابقة .
بعد هذا البيان يتجه إلى تقرير مصير الذين كفروا ، وسنة الله التي لا تتخلف في أخذهم بذنوبهم ، وإلى تهديد الذين يكفرون من أهل الكتاب ، ويقفون لهذا الدين ، ويلقن الرسول [ ص ] أن ينذرهم ، ويذكرهم ما رأوه بأعينهم في غزوة بدر من نصر القلة المؤمنة على حشود الكافرين :
( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، وأولئك هم وقود النار . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا ، فأخذهم الله بذنوبهم ، والله شديد العقاب . قل للذين كفروا . ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين ، والله يؤيد بنصره من يشاء ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل ، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم . وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك . . فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون . . وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل . ولكن هذا لا يمنحهم حقا خاصا إذا هم ضلوا وكفروا ، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا ، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين انجاهم الله منهم !
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر - وهم كفار - ليقول لهم : إن سنة الله لا تتخلف . وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش . فالعلة هي الكفر . وليس لأحد على الله دالة ، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح !
( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، وأولئك هم وقود النار ) . .
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية ؛ ولكنهما لا يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه ، لأنه لا إخلاف لميعاد الله . وهم فيه : ( وقود النار ) . . بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص " الإنسان " ومميزاته ، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر ( وقود النار ) . .
لا بل إن الأموال والأولاد ، ومعهما الجاه والسلطان ، لا تغني شيا في الدنيا .
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولََئِكَ هُمْ وَقُودُ النّارِ }
يعني جل ثناؤه بقوله : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا } إن الذين جحدوا الحقّ الذي قد عرفوه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ، ومنافقي العرب وكفارهم الذين في قلوبهم زيغ ، فهم يتبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلاَ أوْلاَدُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا } يعني بذلك : أن أموالهم وأولادهم لن تنجيهم من عقوبة الله إن أحلها بهم عاجلاً في الدنيا على تكذيبهم بالحقّ بعد تبيّنهم ، واتباعهم المتشابه طلب اللبس فتدفعها عنهم ، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئا . { وَهُمْ فِي الاَخِرَةِ وَقُودُ النّارِ } يعني بذلك حطبها .
استئناف كلام ناشيء عن حكاية ما دعا به المؤمنون : من دوام الهداية ، وسؤال الرحمة ، وانتظار الفوز يوم القيامة ، بذكر حال الكافرين في ذلك اليوم ، على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة . وتعقيب دعاء المؤمنين ، بذكر حال المشركين ، إيماء إلى أنّ دعوتهم استجيبت . والمراد بالذين كفروا : المشركون ، وهذا وصف غالب عليهم في اصطلاح القرآن وقيل : الذين كفروا بنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم أريد هنا قُريظة والنضير وأهلُ نجران ؛ ويُرجَّح هذا بأنّهم ذُكِّروا بحال فرعون دون حال عاد وثمود فإنّ اليهود والنصارى أعلق بأخبار فرعون . كما أنّ العرب أعلق بأخبار عاد وثمود ، وأنّ الردّ على النصارى من أهمّ أغراض هذه السورة . ويجوز أن يكون المراد جميع الكافرين : من المشركين ، وأهل الكتابَيْن ، ويكون التذكير بفرعون لأنّ وعيد اليهود في هذه الآية أهم .
ومعنى « تُغني » تُجزِي وتكفي وتدفع ، وهو فِعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بعن نحو : « ما أغني عني مَالِيَهْ » .
ولدلالة هذا الفعل على الإجزاء والدفع ، كان مؤذناً بأنّ هنالك شيئاً يدفع ضُرّه ، وتُكفى كلفتُه ، فلذلك قَد يذكرون مع هذا الفعل متعلِّقاً ثانياً ويُعَدُّونَ الفعل إليه بحرف ( مِن ) كما في هذه الآية . فتكون ( مِن ) للبدل والعوض على ما ذهب إليه في « الكشاف » ، وجعل ابن عطية ( من ) للابتداء .
وقوله : { من الله } أي من أمر يضاف إلى الله ؛ لأنّ تعليق هذا الفعل ، تعليقاً ثانياً ، باسم ذات لايقصد منه إلاّ أخصّ حال اشتهرت به ، أو في الغرض المسوق له الكلام فيقدّر معنى اسم مضاف إلى اسم الجلالة . والتقدير هنا من رحمة الله ، أو من طاعته ، إذا كانت ( مِنْ ) للبدل وكَذا قدّره في « الكشاف » ، ونظّره بقوله تعالى : { وإنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً } [ النجم : 28 ] . وعلى جعل ( من ) للابتداء كما قال ابن عطية تقدّر من غضب الله ، أو من عذابه ، أي غناء مبتدِئاً من ذلك : على حدّ قولهم : نَجَّاه من كذا أي فصله منه ، ولا يلزم أن تكون ( مِن ) مَعَ هذا الفعل ، إذا عدّي بعَن ، مماثلة لمِنْ الواقعة بعد هذا الفعل الذي يُعَدّ بعن ، لإمكان اختلاف معنى التعلّق باختلاف مساق الكلام . والغالب أن يأتوا بعد فعل أغنى بلفظ ( شيء ) مع ذكر المتعلِّقين كما في الآية ، وبدون ذكر متعلِّقين ، كما في قول أبي سفيان ، يومَ أسْلَمَ : « لقد علمتُ أنْ لَوْ كان معه إله غيرُه لقد أغنى عنّي شيئاً » .
وانتصب قوله : { شيئاً } على النيابة عن المفعول المطلق أي شيئاً من الغَناء . وتنكيره للتحقير أي غناء ضعيفاً ، بله الغناء المهم ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لعدم استقامة معنى الفعل في التعدي .
وقد ظهر بهذا كيفية تصرفّ هذا الفعل التصرّفَ العجيب في كلامهم ، وانفتح لك ما انغلق من عبارة الكشّاف ، وما دونها ، في معنى هذا التركيب .
وقد مرّ الكلام على وقوع لفظ شيء عند قوله : { ولنبلونَّكم بشيء من الخوف } [ البقرة : 155 ] . وإنّما خصّ الأموال والأولاد من بين أعلاق الذين كفروا ؛ لأنّ الغناءَ يكون بالفداء بالمال ، كدفع الديات والغرامات ، ويكون بالنصر والقتال ، وأوْلى مَن يدافع عن الرجل ، من عشيرته ، أبناؤه ، وعن القبيلة أبناؤُها . قال قيس بن الخطيم :
ثَأرْتُ عَدِيَّا والخَطِيمَ ولَمْ أضعْ *** وَلاَيَة أشْيَاخٍ جُعِلْتُ إزَاءَها
والأموال المكاسب التي تقتات وتدخّرُ ويتعاوض بها ، وهي جمع مال ، وغلب اسم المال في كلام جلِّ العرب على الإبل قال زهير :
* صَحيحاتِ مالٍ طَالعات بمخرم *
وغلب في كلام أهل الزرع والحرث على الجنّات والحوائط وفي الحديث « كان أبو طلحة أكثرَ أنصاري بالمدينة مالاً وكان أحَبُّ أمواله إليه بئر حاء » ، ويطلق المال غالباً على الدراهم والدنانير كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس « أيْن المال الذي عند أم الفضل . » والظاهر أنّ هذا وعيد بعذاب الدنيا ؛ لأنّه شُبِّه بأنّه { كدأب ءال فرعون } إلى قوله { فأخذهم الله بذنوبهم } وشأنُ المشبّه به أن يكون معلوماً ؛ ولأنّه عطف عليه عذاب الآخرة في قوله : { وأولئك هم وقود النار } .
وجيء بالإشارة في قوله : { وأولئك } لاستحضارهم كأنّهم بحيث يشار إليهم ، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيأتي من الخَبر وهو قوله : { هم وقود النار } . وعطفت هذه الجملة ، ولم تفصل ، لأنّ المراد من التي قبلها وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة بقرينة قوله ، في الآية التي بعد هذه : { ستُغْلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] . والوَقود بفتح الواو ما يوقد به كالوَضوء ، وقد تقدّم نظيره في قوله : { التي وقودها الناس والحجارة } في سورة البقرة .