{ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ } كما قال تعالى : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } { إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } أي : هؤلاء الذين ينقادون لك ، الذين يؤمنون [ ص 610 ] بآيات الله وينقادون لها بأعمالهم واستسلامهم كما قال تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } .
ويخرجهم مرة في صورة العمي يمضون في عماهم ؛ لا يرون الهادي لأنهم لا يبصرون ! وتتراءى هذه الصور المجسمة المتحركة ، فتمثل المعنى وتعمقه في الشعور !
وفي مقابل الموتى والعمي والصم يقف المؤمنون . فهم الأحياء ، وهم السامعون ، وهم المبصرون .
( إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) . .
إنما تسمع الذين تهيأت قلوبهم لتلقي آيات الله ، بالحياة والسمع والبصر . وآية الحياة الشعور . وآية السمع والبصر الانتفاع بالمسموع والمنظور . والمؤمنون ينتفعون بحياتهم وسمعهم وأبصارهم . وعمل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] هو أن يسمعهم ، فيدلهم على آيات الله ، فيستسلمون لتوهم ولحظتهم ( فهم مسلمون ) .
إن الإسلام بسيط وواضح وقريب إلى الفطرة السليمة ؛ فما يكاد القلب السليم يعرفه ، حتى يستسلم له ، فلا يشاق فيه . وهكذا يصور القرآن تلك القلوب ، القابلة للهدى ، المستعدة للاستماع ، التي لا تجادل ولا تماري بمجرد أن يدعوها الرسول فيصلها بآيات الله ، فتؤمن لها وتستجيب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مّسْلِمُونَ * وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبّةً مّنَ الأرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } .
اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : وما أنْتَ بِهادِي بالياء والألف وإضافته إلى العمي بمعنى : لست يا محمد بهادي من عمي عن الحقّ عَنْ ضَلالَتِهِ . وقراءة عامة قرّاء الكوفة «وَما أنْتَ تَهْدِي العُمْىَ » بالتاء ونصب العمي ، بمعنى : ولست تهديهم عَنْ ضَلالَتهِمْ ولكن الله يهديهم إن شاء .
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مشهورتان في قرّاء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وتأويل الكلام ما وصفت وَما أنتَ يا محمد بِهادِي من أعماه الله عن الهدى والرشاد فجعل على بصره غشاوة أن يتبين سبيل الرشاد عن ضلالته التي هو فيها إلى طريق الرشاد وسبيل الرشاد . وقوله : إنْ تُسْمِعُ إلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بآياتِنا يقول : ما تقدر أن تُفهم الحقّ وتوعيه أحدا إلا سمع من يصدّق بآياتنا ، يعني بأدلته وحججه وآي تنزيله فَهُمْ مُسْلمُونَ فإن أولئك يسمعون منك ما تقول ويتدبرونه ، ويفكرون فيه ، ويعملون به ، فهم الذين يسمعون .
ذكر من قال مثل الذي قلنا في قوله تعالى : وَقَع :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَإذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ قال : حقّ عليهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَإذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهُمْ يقول : إذا وجب القول عليهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ قال : حقّ العذاب .
قال ابن جُرَيج : القول : العذاب . ذكر من قال قولنا في معنى القول :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَإذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ والقول : الغضب .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن حفصة ، قالت : سألت أبا العالية ، عن قوله : وَإذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ فقال : أوحى الله إلى نوح إنّهُ لَنْ يُؤْمِنُ مِنَ قَوْمِكَ إلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ قالت : فكأنما كان على وجهي غطاء فكشف .
وقال جماعة من أهل العلم : خروج هذه الدابة التي ذكرها حين لا يأمر الناس بمعروف ولا ينهون عن منكر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر في قوله : وَإذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنا لَهُمْ دَابّةً مِنَ الأرْضِ قال : هو حين لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن الحسن أبو الحسن ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن عطية ، عن ابن عمر ، في قوله : وَإذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنا لَهُمْ دَابّةً مِنَ الأرْضِ قال : ذاك إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، عن ابن عمر ، في قوله : أخْرَجْنا لَهُمْ دَابّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلّمُهُمْ قال : حين لا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر .
حدثني محمد بن عمرو المقدسي ، قال : حدثنا أشعث بن عبد الله السجستاني ، قال : حدثنا شعبة ، عن عطية ، في قوله : وَإذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنا لَهُمْ دَابّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلّمُهُمْ قال : إذا لم يعرفوا معروفا ، ولم ينكروا منكرا .
وذُكر أن الأرض التي تخرج منها الدابة مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُريب ، قال : ثني الأشجعي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر ، قال : تخرج الدابة من صَدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن الفرات القزاز ، عن عامر بن واثلة أبي الطفيل ، عن حُذيفة بن أسيد الغفاري ، قال : إن الدابة حين تخرج يراها بعض الناس فيقولون : والله لقد رأينا الدابة ، حتى يبلغ ذلك الإمام ، فيطلب فلا يقدر على شيء . قال : ثم تخرج فيراها الناس ، فيقولون : والله لقد رأيناها ، فيبلغ ذلك الإمام فيطلب فلا يرى شيئا ، فيقول : أما إني إذا حدث الذي يذكرها قال : حتى يعدّ فيها القتل ، قال : فتخرج ، فإذا رآها الناس دخلوا المسجد يصلون ، فتجيء إليهم فتقول : الآن تصلون ، فتخطم الكافر ، وتمسح على جبين المسلم غرّة ، قال : فيعيش الناس زمانا يقول هذا : يا مؤمن ، وهذا : يا كافر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عثمان بن مطر ، عن واصل مولى أبي عيينة ، عن أبي الطفيل عن حُذيفة ، وأبي سفيان ، حدثنا عن معمر ، عن قيس بن سعد ، عن أبي الطفيل ، عن حُذيفة بن أسيد ، في قوله : أخْرَجْنا لَهُمْ دَابّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلّمُهُمْ قال : للدابة ثلاث خرجات : خرجة في بعض البوادي ثم تكمن ، وخرجة في بعض القُرى حين يريق فيها الأمراء الدماء ، ثم تكمن ، فبينا الناس عند أشرف المساجد وأعظمها وأفضلها ، إذ ارتفعت بهم الأرض ، فانطلق الناس هرابا ، وتبقى طائفة من المؤمنين ، ويقولون : إنه لا ينجينا من الله شيء ، فتخرج عليهم الدابة تجلو وجوههم مثل الكوكب الدرّيّ ثم تنطلق فلا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، وتأتي الرجل يصليّ ، فيقول : والله ما كنت من أهل الصلاة ، فيلتفت إليها فتخطمه ، قال : تجلو وجه المؤمن ، وتخطم الكافر ، قلنا : فما الناس يومئذٍ ؟ قال : جيران في الرباع ، وشركاء في الأموال ، وأصحاب في الأسفار .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جميع ، عن عبد الملك بن المُغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلماني ، عن ابن عمر : يبيت الناس يسيرون إلى جمع ، وتبيت دابة الأرض تسايرهم ، فيصبحون وقد خطمتهم من رأسها وذنبها ، فما من مؤمن إلا مسحته ، ولا من كافر ولا منافق إلا تخبطه .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا الخيبري ، عن حيان بن عمير ، عن حسان بن حمصة ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : لو شئت لانتعلت بنعليّ هاتين ، فلم أمسّ الأرض قاعدا حتى أقف على الأحجار التي تخرج الدابة من بينها ، ولكأني بها قد خرجت في عقب ركَب من الحاجّ ، قال : فما حججت قطّ إلا خفت تخرج بعقبنا .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء ، قال : رأيت عبد الله بن عمرو ، وكان منزله قريبا من الصفا ، رفع قدمه وهو قائم ، وقال : لو شئت لم أضعها حتى أضعها على المكان الذي تخرج منه الدابة .
حدثنا عصام بن روّاد بن الجراح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد الثوريّ ، قال : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حُذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وذكر الدابة ، فقال حُذيفة : قلت يا رسول الله ، من أين تخرج ؟ قال : «مِنْ أعْظَمِ المَساجِدِ حُرْمَةً عَلى اللّهِ ، بَيْنَما عِيَسى يَطُوفُ بالبَيْتِ وَمَعَهُ المُسْلِمُونَ ، إذْ تَضْطَربُ الأرْضُ تَحْتَهُمْ ، تَحَرّكَ القِنْدِيلِ ، وَيَنْشَق الصّفا مِمّا يَلي المَسْعَى ، وَتخْرُجُ الدّابّةُ مِنَ الصّفا أوّلُ ما يَبْدُو رأسُها مُلَمّعَةٌ ذَاتُ وّبَرٍ وَرِيشٍ ، لَمْ يُدْرِكْها طالِبٌ ، وَلَنْ يَفُوَتها هارِبٌ ، تَسِمُ النّاسَ مُؤْمِنٌ وكافِرٌ ، أمّا المُؤْمِنُ فَتَتْرُكَ وَجْهَهُ كأنّهُ كَوْكَبٌ دُرّيّ ، وتَكْتُبُ بينَ عَيْنَيْهِ مُؤْمِنٌ ، وأمّا الكافِرُ فَتَنْكُتُ بينَ عَيْنَيْهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ كافِرٌ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو الحسين ، عن حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد بن جدعان ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تَخْرُجُ الدّابّةُ مَعَها خاتَمُ سَلَيْمانَ وَعَصا مُوسَى ، فَتَجْلُو وَجْهَ المُؤْمِنِ بالْعَصَا ، وَتخْتِمُ أنْفَ الكافِرِ بالخاتِمِ ، حتى إنّ أهْلَ البَيْتِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذَا . يا مُؤْمِنُ ، وَيَقُولُ هَذَا : يا كاِفُر » .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : هي دابة ذات زغب وريش ، ولها أربع قوائم تخرج من بعض أودية تهامة ، قال : قال عبد الله بن عمر : إنها تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء ، فتفشو في وجهه ، فيسودّ وجهه ، وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتفشو في وجهه ، حتى يبيضّ وجهه ، فيجلس أهل البيت على المائدة ، فيعرفون المؤمن من الكافر ، ويتبايعون في الأسواق ، فيعرفون المؤمن من الكافر .
حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب ، قالا : حدثنا ابن الهاد ، عن عمر بن الحكم ، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : تخرج الدابة من شعب ، فيمسّ رأسها السحاب ، ورجلاها في الأرض ما خرجتا ، فتمرّ بالإنسان يصلي ، فتقول : ما الصلاة من حاجتك فتخطمه .
حدثنا صالح بن مسمار ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، قال : حدثنا يزيد بن عياض ، عن محمد بن إسحاق ، أنه بلغه عن عبد الله بن عمرو ، قال : تخرج دابة الأرض ومعها خاتم سليمان وعصا موسى ، فأما الكافر فتختم بين عينيه بخاتم سليمان ، وأما المؤمن فتمسح وجهه بعصا موسى فيبيضّ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : تُكَلّمُهُمْ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : تُكلّمُهُمْ بضمُ التاء وتشديد اللام ، بمعنى تخبرهم وتحدثهم ، وقرأه أبو زرعة بن عمرو : «تَكْلِمُهُمْ » بفتح التاء وتخفيف اللام بمعنى : تسمهم .
والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك ما عليه قرّاء الأمصار . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أخْرَجْنا لَهُمْ دَابّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلّمُهُمْ قال : تحدثهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : أخْرَجْنا لَهُمْ دَابّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلّمُهُمْ وهي في بعض القراءة «تحدثهم » تقول لهم : أَنّ النّاس كَانُوا بِآياتِنَا لاَ يُوقِنُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : تُكَلّمُهُمْ قال : كلامها تنبئهم أنّ النّاس كانُوا بِآياتِنَا لاَ يُوقِنُونَ .
وقوله : أنّ النّاسَ كانُوا بآياتِنا لا يُوقِنُونَ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة والشام : «إنّ النّاسَ » بكسر الألف من «إن » على وجه الابتداء بالخبر عن الناس أنهم كانوا بآيات الله لا يوقنون وهي وإن كسرت في قراءة هؤلاء فإن الكلام لها متناول . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض أهل البصرة : أنّ النّاسَ كانُوا بفتح أن بمعنى : تكلمهم بأن الناس ، فيكون حينئذٍ نصب بوقوع الكلام عليها .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مستفيضتان في قراءة الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
{ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم }
كرر تشبيه المشركين في إعراضهم عن الحق بأن شبهوا في ذلك بالعمي بعد أن شبهوا بالموتى وبالصم على طريقة الاستعارة إطناباً في تشنيع حالهم الموصوفة على ما هو المعروف عند البلغاء في تكرير التشبيه كما تقدم عند قوله تعالى { أو كصيب من السماء } في سورة البقرة ( 19 ) .
وحسن هذا التكرير هنا ما بين التشبيهين من الفروق مع اتحاد الغاية ؛ فإنهم شبهوا بالموتى في انتفاء إدراك المعاني الذي يتمتع به العقلاء ، وبالصم في انتفاء إدراك بلاغة الكلام الذي يضطلع به بلغاء العرب . وشبهوا ثالثاً بالعمي في انتفاء التمييز بين طريق الهدى وطريق الضلال من حيث إنهم لم يتبعوا هدي دين الإسلام . والغاية واحدة وهي انتفاء اتباعهم الإسلام ففي تشبيههم بالعمي استعارة مصرحة ، ونفي إنقاذهم عن ضلالتهم ترشيح للاستعارة لأن الأعمى لا يبلغ إلى معرفة الطريق بوصف الواصف .
والهدى : الدلالة على طريق السائر بأن يصفه له فيقول مثلاً : إذا بلغت الوادي فخذ الطريق الأيمن .
والذي يسلك بالقوافل مسالك الطرق يسمى هادياً .
والتوصل إلى معرفة الطريق يسمى اهتداء . وهذا الترشيح هو أيضاً مستعار لبيان الحق والصواب للناس ، والأعمى غير قابل للهداية بالحالتين حالة الوصف وهي ظاهرة ، وحالة الاقتياد فإن العرب لم يكونوا يأخذون العمي معهم في أسفارهم لأنهم يعرقلون على القافلة سيرها .
وقوله { عن ضلالتهم } يتضمن استعارة مكنية قرينتها حالية . شبه الدين الحق بالطريق الواضحة ، وإسناد الضلالة إلى سالكيه ترشيح لها وتخييل ، والضلالة أيضاً مستعارة لعدم إدراك الحق تبعاً للاستعارة المكنية ، وأطلقت هنا على عدم الاهتداء للطريق ، وضمير { ضلالتهم } عائد إلى العمي ، ولتأتي هذه الاستعارة الرشيقة عدل عن تعليق ما حقه أن يعلق بالهدي فعلق به ما يقتضيه نفي الهدي من معنى الصرف والمباعدة . فقيل { عن ضلالتهم } بتضمين { هادي } معنى صارف . فصار : ما أنت بهاد ، بمعنى : ما أنت بصارفهم عن ضلالتهم كما يقال : سقاه عن العيمة ، أي سقاه صارفاً له عن العيمة ، وهي شهوة اللبن .
وعدل في هذه الجملة عن صيغتي النفيين السابقين في قوله { إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء } [ النمل : 80 ] الواقعين على مسندين فعليين ، إلى تسليط النفي هنا على جملة اسمية للدلالة على ثبات النفي . وأكد ذلك الثبات بالباء المزيدة لتأكيد النفي .
ووجه إيثار هذه الجملة بهاذين التحقيقين هو أنه لما أفضى الكلام إلى نفي اهتدائهم وكان اهتداؤهم غاية مطمح الرسول صلى الله عليه وسلم كان المقام مشعراً ببقية من طمعه في اهتدائهم حرصاً عليهم فأكد له ما يقلع طمعه ، وهذا كقوله تعالى { إنك لا تهدي من أحببت } [ القصص : 56 ] وقوله
{ وما أنت عليهم بجبار } [ ق : 45 ] . وسيجيء في تفسير نظير هذه الآية من سورة الروم توجيه لتعداد التشابيه الثلاثة زائداً على ما هنا فانظره .
وقرأ حمزة وحده { وما أنت تهدي } بمثناه فوقيه في موضع الموحدة وبدون ألف بعد الهاء .
{ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا فَهُم مسلمون } .
استئناف بياني لترقب السامع معرفة من يهتدون بالقرآن .
والإسماع مستعمل في معناه المجازي كما تقدم .
وأوثر التعبير بالمضارع في قوله { من يؤمن } ليشمل من آمنوا من قبل فيفيد المضارع استمرار إيمانهم ومن سيؤمنون .
وقد ظهر من التقسيم الحاصل من قوله { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] إلى هنا ، أن الناس قسمان منهم من طبع الله على قلبه وعلم أنه لا يؤمن حتى يعاجله الهلاك ، ومنهم من كتب الله له السعادة فيؤمن سريعاً أو بطيئاً قبل الوفاة .
وفرع عليه { فهم مسلمون } المفيد للدوام والثبات لأنهم إذا آمنوا فقد صار الإسلام راسخاً فيهم ومتمكناً منهم ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم {وما أنت بهادي العمي} إلى الإيمان {عن ضلالتهم} يعني: عن كفرهم {إن تسمع} يقول: ما تسمع الإيمان {إلا من يؤمن بآياتنا} إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله عز وجل، {فهم مسلمون} يقول: فهم مخلصون بتوحيد الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين:"وما أنْتَ بِهادِي" بالياء والألف وإضافته إلى العمي بمعنى: لست يا محمد بهادي من عمي عن الحقّ "عَنْ ضَلالَتِهِ". وقراءة عامة قرّاء الكوفة «وَما أنْتَ تَهْدِي العُمْىَ» بالتاء ونصب العمي، بمعنى: ولست تهديهم عَنْ ضَلالَتهِمْ ولكن الله يهديهم إن شاء.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى مشهورتان في قرّاء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وتأويل الكلام ما وصفت: "وَما أنتَ "يا محمد بِهادِي من أعماه الله عن الهدى والرشاد فجعل على بصره غشاوة أن يتبين سبيل الرشاد عن ضلالته التي هو فيها إلى طريق الرشاد وسبيل الرشاد. وقوله: "إنْ تُسْمِعُ إلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بآياتِنا" يقول: ما تقدر أن تُفهم الحقّ وتوعيه أحدا إلا سمع من يصدّق بآياتنا، يعني بأدلته وحججه وآي تنزيله "فَهُمْ مُسْلمُونَ" فإن أولئك يسمعون منك ما تقول ويتدبرونه، ويفكرون فيه، ويعملون به، فهم الذين يسمعون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا يدل أن ليس كل الهدى البيان... لأنه لو كان الهدى كله بيانا في جميع المواضع... لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدر أن يبين للكفرة ضلالهم، وقد بين لهم. ثم أخبر رسوله: {وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم} فدل هذا أن عنده هداية ولطفا لو سألوه، وطلبوا منه ذلك، فأعطاهم، لاهتدوا، وآمنوا... وقوله تعالى: {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} أي ما تسمع إلا أهل الإيمان بالآيات وأهل الإسلام منهم. فأما أهل العناد والمكابرة فلا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما شبه الله تعالى الكفار بأنهم عمي، لانهم من حيث لم يهتدوا إلى الحق، ولم يصيروا اليه فكأنهم عمي، وانما نفى أن يهديهم إلى الحق بأن يحملهم عليه او يجبرهم عليه، ولم ينتف أن يكون هاديا لهم بالدعاء إليه، ويبين لهم الحق فيه. وقوله "إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا "معناه لا تسمع إلا من يطلب الحق بالنظر في آياتنا ولا يلبث أن يسلم، لأن الدلائل تظهر له، وعقله يخاصمه حتى يقول بالحق ويعتقده. وإنما قال إنه يسمع المؤمنين، من حيث إنهم الذين ينتفعون به ويسلمون له.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أنت تهديهم من حيث الدعاء والدلالة، ولكنك لا تهدي أحداً من حيث إزالة الباطل من القلب وإمالته إلى العرفان، إذ ليست بقُدْرَتِكَ الإزالة أو الإمالة. أنت لا تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يؤمِن بآياتنا، فلا يَسْمَعُ منك إِلاّ مَنْ أسعدناه من حيث التوفيق والإرشاد إِلى الطريق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما أنت بهادي} أي بموجد الهداية على الدوام في قلوب {العمي} أي في أبصارهم وبصائرهم مزيلاً لهم وناقلاً ومبعداً {عن ضلالتهم} عن الطريق بحيث تحفظهم عن أن يزالوا عنها أصلاً، فإن هذا لا يقدر عليه إلا الحي القيوم... ولما كان ربما أوقف عن دعائهم، رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله: {إن} أي ما {تسمع} أي سماع انتفاع على وجه الكمال، في كل حال {إلا من يؤمن} أي من علمناه أنه يصدق {بآياتنا} بأن جعلنا فيه قابلية السمع. ثم سبب عنه قوله دليلاً على إيمانه: {فهم مسلمون} أي في غاية الطواعية لك في المنشط والمكره، لا خيرة لهم ولا إرادة في شيء من الأشياء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي مقابل الموتى والعمي والصم يقف المؤمنون. فهم الأحياء، وهم السامعون، وهم المبصرون. (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون).. إنما تسمع الذين تهيأت قلوبهم لتلقي آيات الله، بالحياة والسمع والبصر. وآية الحياة الشعور. وآية السمع والبصر الانتفاع بالمسموع والمنظور. والمؤمنون ينتفعون بحياتهم وسمعهم وأبصارهم. وعمل الرسول [صلى الله عليه وسلم] هو أن يسمعهم، فيدلهم على آيات الله، فيستسلمون لتوهم ولحظتهم (فهم مسلمون). إن الإسلام بسيط وواضح وقريب إلى الفطرة السليمة؛ فما يكاد القلب السليم يعرفه، حتى يستسلم له، فلا يشاق فيه. وهكذا يصور القرآن تلك القلوب، القابلة للهدى، المستعدة للاستماع، التي لا تجادل ولا تماري بمجرد أن يدعوها الرسول فيصلها بآيات الله، فتؤمن لها وتستجيب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كرر تشبيه المشركين في إعراضهم عن الحق بأن شبهوا في ذلك بالعمي بعد أن شبهوا بالموتى وبالصم على طريقة الاستعارة إطناباً في تشنيع حالهم الموصوفة على ما هو المعروف عند البلغاء في تكرير التشبيه كما تقدم عند قوله تعالى {أو كصيب من السماء} في سورة البقرة (19). وحسن هذا التكرير هنا ما بين التشبيهين من الفروق مع اتحاد الغاية؛ فإنهم شبهوا بالموتى في انتفاء إدراك المعاني الذي يتمتع به العقلاء، وبالصم في انتفاء إدراك بلاغة الكلام الذي يضطلع به بلغاء العرب. وشبهوا ثالثاً بالعمي في انتفاء التمييز بين طريق الهدى وطريق الضلال من حيث إنهم لم يتبعوا هدي دين الإسلام. والغاية واحدة وهي انتفاء اتباعهم الإسلام ففي تشبيههم بالعمي استعارة مصرحة، ونفي إنقاذهم عن ضلالتهم ترشيح للاستعارة لأن الأعمى لا يبلغ إلى معرفة الطريق بوصف الواصف...
وقوله {عن ضلالتهم}... بتضمين {هادي} معنى صارف. فصار: ما أنت بهاد، بمعنى: ما أنت بصارفهم عن ضلالتهم... وعدل في هذه الجملة عن صيغتي النفيين السابقين في قوله {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء} [النمل: 80] الواقعين على مسندين فعليين، إلى تسليط النفي هنا على جملة اسمية للدلالة على ثبات النفي. وأكد ذلك الثبات بالباء المزيدة لتأكيد النفي. ووجه إيثار هذه الجملة بهاذين التحقيقين هو أنه لما أفضى الكلام إلى نفي اهتدائهم وكان اهتداؤهم غاية مطمح الرسول صلى الله عليه وسلم كان المقام مشعراً ببقية من طمعه في اهتدائهم حرصاً عليهم فأكد له ما يقلع طمعه، وهذا كقوله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56] وقوله {وما أنت عليهم بجبار} [ق: 45].
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
على العكس من ذلك من كان حريصا على كشف حقيقة ذاته، والتعرف على جوهر إنسانيته، وإدراك دوره في الحياة ورسالته، فإنه لا محالة يفتح قلبه وعقله للتأمل والنظر، ويفتح أذنه وعينه لاستيعاب كل ما يسمعه ويراه من المثلات والعبر، فينقاد للحق الذي طالما بحث عنه وسعى إليه، وبمجرد ما يكتشفه ويعثر عليه، وعلى مثل هذا الصنف من الناس يصدق قوله تعالى في ختام هذه الحصة: {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}.
فرق بين سماع قالة الحق أو قضية الصدق، وأنت خالي الذهن، وبين أن تسمعها وأنت مشغول بنقيضها، فلكي يثمر السماع ينبغي أن تستقبل الدعوة بذهن خال ثم تبحث بعقلك الدعوة وما يناقضها، فما انجذبت إليه واطمأنت إليه نفسك فأدخله. وهذه يسمونها – حتى في الماديات- نظرية الحيز. أي: أن الحيز الواحد لا يتسع لشيئين في الوقت نفسه. وسبق أن مثلنا لذلك بالقارورة حين تملأها بالماء لا بد أن يخرج منها الهواء أولا على شكل فقاعات؛ لأن الماء أكثف من الهواء. ومعنى: {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} ولقائل أن يقول: ما دام تسمع من يؤمن بآياتنا، فما فائدة السماع وهو مؤمن؟ نقول: الآيات ثلاثة، مترتبة بعضها على بعض، فأولها: الآيات الكونية العقدية التي تشاهدها في الكون وتستدل بها على وجود إله خالق قادر فتسأل: من هذا الإله الخالق؟ فيأتي دور الرسول الذي يبين لك ويحل لك هذا اللغز، ولا بد له من آيات تدل على صدقه في البلاغ عن الله هي المعجزة، فإن غفلنا عن الآيات الكونية ذكرنا بها الرسول، فقال: ومن آياته كذا وكذا. فإذا آمنت بالآيات الكونية وبآيات المعجزات، فعليك أن تؤمن بآيات الأحكام التي جاءت بها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي الحقيقة إن الآيتين آنفتي الذكر تتحدثان عن مجموعة واضحة من عوامل المعرفة وارتباط الإنسان بالعالم الخارجي وهي: «حس التشخيص»، والعقل اليقظ، في مقابل القلب الميت. «الأذن الصاغية» لاكتساب الكلام الحق، عن طريق السمع. «والعين الباصرة» لرؤية وجه الحق ووجه الباطل، عن طريق البصر. إلاّ أن العناد واللجاجة والتقليد الأعمى والذنب... كلها تعمي العين التي بها يرى الإنسان الحقيقة، [وتوقر] سمعه، وتميت قلبه. ومثل هؤلاء المعاندين المذنبين، لو جاء جميع الأنبياء والأولياء والملائكة لهدايتهم، لما أثّروا فيهم شيئاً، لأنّ ارتباطهم بالعالم الخارجي مقطوع، وهم غارقون في «مستنقع ذواتهم» فحسب!. ونظير هذا التعبير ورد في سورة البقرة وسورة الروم وسور أخرى من القرآن... و مرّة أُخرى نذكّر بهذه اللطيفة وهي أنّ المراد من الإيمان والتسليم ليس معناه أنّهم قبلوا حقائق الدين من قبل، فيكون من باب تحصيل الحاصل، بل الهدف من ذلك أن الإنسان إذا لم يكن فيه شوق للحق وخضوع لأمر الله، فإنه لا يصغي إلى كلام النّبي أبداً.