المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

ولقد امتحنا سليمان حتى لا يغتر بأبَّهة الملك ، فألقينا جسداً على كرسيه لا يستطيع تدبير الأمور ، فتنبه إلى هذا الامتحان فرجع إلى الله - تعالى - وأناب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي : ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية ، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } أي : شيطانا قضى اللّه وقدر أن يجلس على كرسي ملكه ، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان ، { ثُمَّ أَنَابَ } سليمان إلى اللّه تعالى وتاب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

17

والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة . وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان . . كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما . فهي إما إسرائيليات منكرة ، وإما تأويلات لا سند لها . ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي ، فأصوره هنا وأحكيه . ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح . صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة . هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً . ونصه : قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . ولم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون . . وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا ، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق . ولكن هذا مجرد احتمال . . أما قصة الخيل فقيل : إن سليمان - عليه السلام - استعرض خيلاً له بالعشي . ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب . فقال ردوها عليّ . فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه . ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها لأنها كانت خيلاً في سبيل الله . . وكلتا الروايتين لا دليل عليها . ويصعب الجزم بشيء عنها .

ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئاً عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن .

وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان - عليه السلام - في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله انبياءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهم عن الزلل . وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع ، وطلب المغفرة ؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىَ كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمّ أَنَابَ } :

يقول تعالى ذكره : ( ولقد ابتَلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ) : شيطانا متمثلاً بإنسان ، ذكروا أن اسمه صخر . وقيل : إن اسمه آصَف . وقيل : إن اسمه آصر . وقيل : إن اسمه حبقيق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ) قال : هو صخر الجنّيّ تمثّل على كرسيه جسدا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ثُمّ أنابَ ) قال : الجسد : الشيطان الذي كان دفع إليه سليمان خاتمه ، فقذفه في البحر ، وكان مُلك سليمان في خاتمه ، وكان اسم الجنيّ صخرا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن : ( وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ) قال : شيطانا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير : ( وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ) قال : شيطانا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وألقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ) قال : شيطانا يقال له آصر .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدَا )قال : شيطانا يقال له آصف ، فقال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر ، فساح سليمان وذهب مُلكه ، وقعد آصف على كرسيه ، ومنعه الله نساء سليمان ، فلم يقربهنّ ، وأنكرنه قال : فكان سليمان يستطعم فيقول : أتعرفوني أطعموني أنا سليمان ، فيكذّبونه ، حتى أعطته امرأة يوما حوتا يطيب بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه ، فرجع إليه مُلكه ، وفرّ آصف فدخل البحر فارّا .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، غير أنه قال في حديثه : فيقول : لو تعرفوني أطعمتموني .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا ثُمّ أنابَ ) قال : حدثنا قتادة أن سلمان أمر ببناء بيت المقدس ، فقيل له : ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد ، قال : فطلب ذلك فلم يقدر عليه ، فقيل له : إن شيطانا في البحر يقال له صخر شبه المارد ، قال : فطلبه ، وكانت عين في البحر يردها في كلّ سبعة أيام مرّة ، فنزح ماؤها وجعل فيها خمر ، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر ، فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلاً ، قال : ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ، ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب ، إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلاً قال : ثم شربها حتى غلبت على عقله ، قال : فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه ، فذلّ ، قال : فكان مُلكه في خاتمه ، فأتى به سليمان ، فقال : إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت . وقيل لنا : لا يسمعنّ فيه صوت حديد ، قال : فأتى ببيض الهدهد ، فجعل عليه زجاجة ، فجاء الهدهد ، فدار حولها ، فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه ، فذهب فجاء بالماس ، فوضعه عليه ، فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه ، فأخذ الماس ، فجعلوا يقطعون به الحجارة ، فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخلها بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام ، وذلك الشيطان صخر معه ، وذلك عند مقارفة ذنب قارف فيه بعض نسائه ، قال : فدخل الحمام ، وأعطى الشيطان خاتمه ، فألقاه في البحر ، فالتقمته سمكة ، ونُزع مُلك سليمان منه ، وألقي على الشيطان شبه سليمان قال : فجاء فقعد على كرسيه وسريره ، وسلّط على مُلك سليمان كله غير نسائه قال : فجعل يقضي بينهم ، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا : لقد فُتِن نبيّ الله وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطّاب في القوّة ، فقال : والله لأجربنه قال : فقال له : يا نبيّ الله ، وهو لا يرى إلا أنه نبيّ الله ، أحدنا تصيبه الجَنابة في الليلة الباردة ، فيدع الغُسْل عمدا حتى تطلع الشمس ، أترى عليه بأسا ؟ قال : لا ، قال : فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبيّ الله خاتمه في بطن سمكة ، فأقبل فجعل لا يستقبله جنيّ ولا طير إلا سجد له ، حتى انتهى إليهم وأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال : هو الشيطان صخر .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ قال : لقد ابتلينا وألْقَيْنا عَلى كُرْسِيّهِ جَسَدا قال : الشيطان حين جلس على كرسيه أربعين يوما قال : كان لسليمان مِئة امرأة ، وكانت امرأة منهنّ يقال لها جرادة ، وهي آثر نسائه عنده ، وآمنهنّ عنده ، وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ، ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها فجاءته يوما من الأيام ، فقالت : إن أخي بينه وبين فلان خصومة ، وأنا أحبّ أن تَقضي له إذا جاءك ، فقال لها : نعم ، ولم يفعل ، فابتُلي وأعطاها خاتمه ، ودخل المخرج ، فخرج الشيطان في صورته ، فقال لها : هاتي الخاتم ، فأعطته ، فجاء حتى جلس على مجلس سليمان ، وخرج سليمان بعد ، فسألها أن تعطيه خاتمه ، فقالت : ألم تأخذه قبل ؟ قال : لا ، وخرج مكانه تائها قال : ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما . قال : فأنكر الناس أحكامه ، فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلماؤهم ، فجاؤوا حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا : إنا قد أنكرنا هذا ، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله ، وأنكرنا أحكامه . قال : فبكى النساء عند ذلك ، قال : فأقبلوا يمشون حتى أتوه ، فأحدقوا به ، ثم نشروا التوراة ، فقرؤوا قال : فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ، ثم طار حتى ذهب إلى البحر ، فوقع الخاتم منه في البحر ، فابتلعه حوت من حيتان البحر . قال : وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع ، وقد اشتدّ جوعه ، فاستطعمهم من صيدهم ، قال : إني أنا سليمان ، فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجّه ، فجعل يغسل دمه وهو على شاطىء البحر ، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه ، فقالوا : بئس ما صنعت حيث ضربته ، قال : إنه زعم أنه سليمان ، قال : فأعطوه سمكتين مما قد مَذِر عندهم ، ولم يشغله ما كان به من الضرر ، حتى قام إلى شطّ البحر ، فشقّ بطونهما ، فجعل يغسل . . . ، فوجد خاتمه في بطن إحداهما ، فأخذه فلبسه ، فردّ الله عليه بهاءه ومُلكه ، وجاءت الطير حتى حامت عليه ، فعرف القوم أنه سليمان ، فقام القوم يعتذرون مما صنعوا ، فقال : ما أحمدكم على عذركم ، ولا ألومكم على ما كان منكم ، كان هذا الأمر لا بدّ منه ، قال : فجاء حتى أتى مُلكه ، فأرسل إلى الشيطان فجيء به ، وسخّر له الريح والشياطين يومئذٍ ، ولم تكن سخرت له قبل ذلك ، وهو قوله : وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنّك أنْتَ الوَهّابُ قال : وبعث إلى الشيطان ، فأُتي به ، فأمر به فجعل في صندوق من حديد ، ثم أطبق عليه فأقفل عليه بقفل ، وختم عليه بخاتمه ، ثم أمر به ، فألقي في البحر ، فهو فيه حتى تقوم الساعة ، وكان اسمه حبقيق .

وقوله : ثُمّ أنابَ سليمان ، فرجع إلى مُلكه من بعد ما زال عنه مُلكه فذهب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن المحاربي ، عن عبد الرحمن ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك ، في قوله : ( ثُمّ أنابَ ) قال : دخل سليمان على امرأة تبيع السمك ، فاشترى منها سمكة ، فشقّ بطنها ، فوجد خاتمه ، فجعل لا يمرّ على شجر ولا حجر ولا شيء إلا سجد له ، حتى أتى مُلكه وأهله ، فذلك قوله ثُمّ أنابَ يقول : ثم رجع .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قا : حدثنا سعيد ، عن قتادة ثُمّ أنابَ وأقبل ، يعني سليمان .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

{ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } وأظهر ما قيل فيه ما روي مرفوعا " أنه قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل ، فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا " . وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك ، فكان يغدوه في السحاب فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه على خطئه بأن لم يتوكل على الله . وقيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته جرادة ، فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها ، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته فكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه ، فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة وخرج إلى الفلاة باكيا متضرعا ، وكانت له أم ولد اسمها أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه وكان ملكه فيه ، فأعطاها يوما فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر وأخذ الخاتم وتختم به وجلس على كرسيه ، فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه وغير سليمان عن هيئته ، فأتاها لطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يدور على البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوما عدد ما عبدت الصورة في بيته ، فطار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به وخر ساجدا وعاد إليه الملك ، فعلى هذا الجسد صخر سمي به وهو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلا بما لم يكن كذلك ، والخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ ، وسجود الصورة بغير علمه لا يضره .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ} (34)

قد قلت آنفاً عند قوله تعالى : { ووهبنا لداود سليمان } [ ص : 30 ] إن ما ذكر من مناقب سليمان لم يخل من مقاصد ائتساء وعبرة وتحذير على عادة القرآن في ابتدار وسائل الإِرشاد بالترغيب والترهيب ، فكذلك كانت الآيات المتعلقة بندمه على الاشتغال بالخيل عن ذكر الله موقع أسوة به في مبادرة التوبة وتحذير من الوقوع في مثل غفلته ، وكذلك جاءت هذه الآيات مشيرة إلى فتنة عرضت لسليمان أعقبتها إنابة ثم أعقبتها إفاضة نعم عظيمة فذكرت عقب ذكر قصة ما ناله من السهو عن عبادته وهو دون الفتنة . والفَتن والفتون والفتنة : اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحلّ به ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { إنما نحن فتنة } في سورة البقرة ( 102 ) .

وقد أشارت الآية إلى حدث عظيم حلّ بسليمان ، واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة فذكروا قصصاً هي بالخرافات أشبه ، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه . ومن أغربها قولهم : إنه ولد له ابن فخاف عليه الناسَ أن يقتلوه فاستودعه الريح لتحضنه وترضعه دَرّ ماء المُزن فلم يلبث أن أصابه الموت وألقته الريح على كرسي سليمان ليعلم أنه لا مردّ لمحتوم الموت . وهذا ما نظمه المعري تبعاً لأوهام الناس فقال حكاية عن سليمان :

خَاف غدْر الأنامِ فاستودع الري *** حَ سَليلاً تغذوه دَرَّ العِهَــاد

وتوخّى النجاةَ وقـــــد أيْ *** قَنَ أن الحِمام بالمرصــاد

فرمتْه بـــه على جَانب الكُر *** سِيِّ أمّ اللّهَيْــم أُخْتُ النّآد{[354]}

والذي يظهر من السياق أن قوله تعالى : { وألقينا على كرسيه جسداً } إشارة إلى شيء من هذه الفتنة ليرتبط قوله : { ثمَّ أنابَ } بذلك .

ويحتمل أنه قصة أخرى غير قصة فتنته . وأظهر أقوالهم أن تكون الآية إشارة إلى ما في « صحيح البخاري » « عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال سليمان لأَطُوفَنّ الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله . فلم يقل : إن شاء الله . فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا إمرأة واحدة جاءت بشقِّ رَجل ، وأيْم الذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون » . وليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك تأويل هذه الآية ولا وضع البخاري ولا الترمذي الحديثَ في التفسير من كتابيهما . قال جماعة : فذلك النصف من الإِنسان هو الجَسد الملقَى على كرسيّه جاءت به القابلة فألقته له وهو على كرسيه ، فالفتنة على هذا خيبة أمله ومخالفة ما أبلغه صاحبُه .

وإطلاق الجسد على ذلك المولود ؛ إمّا لأنه وُلِد ميتاً ، كما هو ظاهر قوله : « شق رجل » ، وإمّا لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد . وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيّاً ولا أنه جلس على كرسي سليمان . وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلّف .

وقال وهب بن منبه وشَهْر بن حَوْشَب : تزوج سليمان ابنة ملك صيدون بعد أن غزا أباها وقتله فكانت حزينة على أبيها ، وكان سليمان قد شغف بحبها فسألته لترضى أن يأمر المصورين ليصنعوا صورة لأبيها فصنعت لها فكانت تغدو وتروح مع ولائدها يسجدن لتلك الصورة فلما علم سليمان بذلك أمر بذلك التمثال فكسر ، وقيل : كانت تعبد صنماً لها من ياقوت خُفية فلما فطن سليمان أو أسلمت المرأة ترك ذلك الصنم . وهذا القول مختزل مما وقع في « سفر الملوك » الأول من كتب اليهود إذ جاء في الإِصحاح الحادي عشر : وأحَب سليمان نساء غريبة كثيرة بنت فرعون ومعها نساء مؤابيات وعمونيات ، وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم التي قال عنهم الرب لبني إسرائيل : لا تدخلون إليهم لأنهم يُميلون قلوبكم وراء آلهتهم . فبنى هيكلاً للصنم ( كموش ) صنَم المؤابيين على الجبل الذي تُجاه أورشليم فقال الله له : من أجل أنك لم تحفظ عهدي فإني أمزق مملكتك بعدك تمزيقاً وأعطيها لعبدك ولا أعطي ابنك إلا سِبطاً واحداً الخ .

ويؤخذ من ذلك كله : أن سليمان اجتهد وسمح لنسائه المشركات أن يعبدْن أصنامهن في بيوتهن التي هي بيوته أو بنى لهن معابد يعبدْنَ فيها فلم يرضَ الله منه ذلك لأنه وإن كان قد أباح له تزوج المشركات فما كان ينبغي لنبيء أن يسمح لنسائه بذلك الذي أبيح لعامة الناس الذين يتزوجون المشركات وإن كان سليمان تأول أن ذلك قاصر على المرأة لا يتجاوز إليه .

وعلى هذا التأويل يكون المراد بالجسد الصنم لأنه صورة بلا روح كما سمى الله العجل الذي عبده بنو إسرائيل جَسداً في قوله : { فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار } ( طه : 88 .

( ويكون معنى إلقائه على كرسيّه نصبه في بيوت زوجاته المشركات بقرب من مواضع جلوسه إذ يكون له في كل بيت منها كرسي يجلس عليه .

وعطف { ثُمَّ أنابَ } بحرف { ثمّ } المفيد للتراخي الرتبي لأن رتبة الإِنابة أعظم ذكر في قوله : { فقال إنِّي أحببتُ حُبَّ الخيرِ } [ ص : 32 ] . والإِنابة : التوبة .


[354]: اللهيم كزبير: الداهية: والنآد كسحاب: الداهية أيضا.