{ 26 - 29 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ }
يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن ، وتواصيهم بذلك ، فقال : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ } أي : أعرضوا عنه بأسماعكم ، وإياكم أن تلتفتوا ، أو تصغوا إليه ولا إلى من جاء به ، فإن اتفق أنكم سمعتموه ، أو سمعتم الدعوة إلى أحكامه ، ف { الْغَوْا فِيهِ } أي : تكلموا بالكلام الذي لا فائدة فيه ، بل فيه المضرة ، ولا تمكنوا -مع قدرتكم- أحدًا يملك عليكم الكلام به ، وتلاوة ألفاظه ومعانيه ، هذا لسان حالهم ، ولسان مقالهم ، في الإعراض عن هذا القرآن ، { لَعَلَّكُمْ } إن فعلتم ذلك { تَغْلِبُونَ }[ وهذه ]{[773]} شهادة من الأعداء ، وأوضح الحق ، ما شهدت به الأعداء ، فإنهم لم يحكموا بغلبتهم لمن جاء بالحق إلا في حال الإعراض عنه والتواصي بذلك ، ومفهوم كلامهم ، أنهم إن لم يلغوا فيه ، بل استمعوا إليه ، وألقوا أذهانهم ، أنهم لا يغلبون ، فإن الحق ، غالب غير مغلوب ، يعرف هذا ، أصحاب الحق وأعداؤه .
وكان من تزيين القرناء لهم دفعهم إلى محاربة هذا القرآن ، حين أحسوا بما فيه من سلطان :
( وقال الذين كفروا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) . .
كلمة كان يوصي بها الكبراء من قريش أنفسهم ويغرون بها الجماهير ؛ وقد عجزوا عن مغالبة أثر القرآن في أنفسهم وفي نفوس الجماهير .
( لا تسمعوا لهذا القرآن ) . فهو كما كانوا يدعون يسحرهم ، ويغلب عقولهم ، ويفسد حياتهم . ويفرق بين الوالد وولده ، والزوج وزوجه . ولقد كان القرآن يفرق نعم ولكن بفرقان الله بين الإيمان والكفر ، والهدى والضلال . كان يستخلص القلوب له ، فلا تحفل بوشيجة غير وشيجته . فكان هو الفرقان .
وهي مهاترة لا تليق . ولكنه العجز عن المواجهة بالحجة والمقارعة بالبرهان ، ينتهي إلى المهاترة ، عند من يستكبر على الإيمان .
ولقد كانوا يلغون بقصص اسفنديار ورستم كما فعل مالك بن النضر ليصرف الناس عن القرآن . ويلغون بالصياح والهرج . ويلغون بالسجع والرجز . ولكن هذا كله ذهب أدراج الرياح وغلب القرآن ، لأنه يحمل سر الغلب ، إنه الحق . والحق غالب مهما جهد المبطلون !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهََذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَسْوَأَ الّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَقَالَ الّذِينَ كَفروا بالله ورسوله من مشركي قريش : لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنِ وَالْغُوا فِيهِ يقول : قالوا للذين يطيعونهم من أوليائهم من المشركين : لا تسمعوا لقارىء هذا القرآن إذا قرأه ، ولا تصغوا له ، ولا تتبعوا ما فيه فتعملوا به ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَقَالَ الّذِينَ كَفروا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنِ وَالْغُوا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ قال : هذا قول المشركين ، قالوا : لا تتبعوا هذا القرآن والهوا عنه .
وقوله : وَالْغَوْا فيه يقول : الغطوا بالباطل من القول إذا سمعتم قارئه يقرؤه كَيْما لا تسمعوه ، ولا تفهموا ما فيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قول الله : لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنِ وَالْغَوا فِيهِ قال : المكاء والتصفير ، وتخليط من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ، قريش تفعله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَالْغَوْا فِيهِ قال : بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن ، قريش تفعله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقَالَ الّذِينَ كَفروا لا تَسْمَعُوا لِهَذا القُرآنِ وَالْغَوا فِيهِ : أي اجحدوا به وأنكروه وعادوه ، قال : هذا قول مشركي العرب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال بعضهم في قوله : وَالْغَوْا فِيهِ قال : تحدثوا وصيحوا كيما لا تسمعوه .
وقوله : لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ يقول : لعلكم بفعلكم ذلك تصدون من أراد استماعه عن استماعه ، فلا يسمعه ، وإذا لم يسمعه ولم يفهمه لم يتبعه ، فتغلبون بذلك من فعلكم محمدا .
عطف على جملة { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } [ فصلت : 5 ] عطفَ القصة على القصة ، ومناسبة التخلص إليه أن هذا القول مما ينشأ عن تزيين قرنائهم من الإِنس ، أو هو عطف على جملة { فَزَيَّنُوا لَهُم } [ فصلت : 25 ] . وهذا حكاية لحال أخرى من أحوال إعراضهم عن الدعوة المحمدية بعد أن وصف إعراضهم في أنفسهم انتقل إلى وصف تلقينهم الناس أَساليب الإِعراض ، فالذين كفروا هنا هم أيمة الكفر يقولون لعامتهم : لا تسمعوا لهذا القرآن ، فإنهم علموا أن القرآن كلام هو أكمل الكلام شريفَ معاننٍ وبلاغةَ تراكيبَ وفصاحةَ أَلفاظٍ ، وأيقنوا أن كل من يسمعه وتُداخل نفسَه جزالةُ ألفاظه وسُمُوُّ أغراضه قضى له فهمُه أنه حق إتباعُه ، وقد أدركوا ذلك بأنفسهم ولكنهم غالبتهم محبة الدوام على سيادة قومهم فتمالؤوا ودبروا تدبيراً لمنع الناس من استماعه ، وذلك خشية من أن تَرقَّ قلوبهم عند سماع القرآن فصرفوهم عن سماعه .
وهذا من شأن دعاة الضلال والباطل أن يكُمُّوا أفواه الناطقين بالحق والحجة ، بما يستطيعون من تخويف وتسويل ، وترهيب وترغيب ولا يَدعوا الناس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلة لأنهم يوقنون أن حجة خصومهم أنهَضُ ، فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان والتضليل ، فإذا أعيتهم الحِيَل ورأوا بوارق الحق تخفق خَشُوا أن يعُمَّ نورُها الناسَ الذين فيهم بقية من خير ورشد عدلوا إلى لغو الكلام ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق ويغمرون الكلام القول الصالح باللغو ، وكذلك شأن هؤلاء .
فقولهم : { لاَ تَسْمَعُوا لهذا القُرْءَانِ } تحذيراً واستهزاء بالقرآن ، فاسم الإِشارة مستعمل في التحقير كما فيما حُكي عنهم { أهذا الذي يذكر آلهتكم } [ الأنبياء : 36 ] . وتسميتهم إياه بالقرآن حكاية لما يجري على ألسنة المسلمين من تسميته بذلك . وتعدية فعل { تَسْمَعُوا } باللام لتضمينه معنى : تَطمئنوا أو تركنوا .
واللغو : القول الذي لا فائدة فيه ، ويسمى الكلام الذي لا جدوى له لغواً ، وهو واوي اللام ، فأصل { وَالغَواْ } : والغَوُوا استثقلت الضمة على الواو فحذفت والتقى ساكنان فحذف أولهما وسكنت الواو الثانية سكوناً حيًّا ، والواو علامة الجمع . وهذا الجاري على ظاهر كلام « الصحاح » و« القاموس » في « الكشاف » أنه يقال : لَغِي يلغَى ، كما يقال : لغَا يلغُو فهو إذن واويٌ ويائيٌ . فمعنى { وَالغَوْاْ فِيهِ } قُولوا أقوالاً لا معنى لها أو تكلموا كلاماً غير مراد منه إفادة أو المقصود إحداث أصوات تغمر صوت النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن . ولما كان المقصود بتخلُّل أصواتهم صوتَ القارىء حتى لا يفقهه السامعون عُدّي اللغو بحرف ( في ) الظرفية لإِفادة إيقاع لغوهم في خلال صوت القارىء وُقوع المظروف في الظرف على وجه المجاز . وأدخل حرف الظرفية على اسم القرآن دون اسم شيء من أحواله مثل صوتتِ أو كلاممِ ليشمل كل ما يُخفي ألفاظ القرآن أو يشكك في معانيها أو نحو ذلك .
وهذا نظَم له مكانة من البلاغة .
قال ابن عباس : " كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه ويقولون لهم : لا تسمعوا له والغَواْ فيه ، فكانوا يأتُون بالمُكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز وما يحضرهم من الأقوال التي يصخبون بها " . وقد ورد في « الصحيح » « أنهم قالوا لمّا استمعوا إلى قراءة أبي بكر وكان رقيق القراءة : إنا نخاف أن يفتن أبناءنا ونساءنا » .
ومعنى { لَعَلَّكُم تَغْلِبُونَ } رجاءَ أن تغلبوا محمداً بصرف من يُتوقع أن يتبعه إذا سمع قراءته . وهذا مشعر بأنهم كانوا يجدون القرآن غالبَهم إذ كان الذين يسمعونه يُداخل قلوبهم فيؤمنون ، أي فإن لم تفعلوا فهو غالبكم .