يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مبينا له عظمة القرآن : { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } أي : كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد ، وجميع المطالب الإلهية ، والمقاصد الشرعية ، محكما مفصلا { فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } أي : ضيق وشك واشتباه ، بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وأنه أصدق الكلام فلينشرح له صدرك ، ولتطمئن به نفسك ، ولتصدع بأوامره ونواهيه ، ولا تخش لائما ومعارضا .
{ لِتُنْذِرَ بِهِ } الخلق ، فتعظهم وتذكرهم ، فتقوم الحجة على المعاندين .
{ و } ليكون { ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } كما قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } يتذكرون به الصراط المستقيم ، وأعماله الظاهرة والباطنة ، وما يحول بين العبد ، وبين سلوكه .
( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين ) . .
كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير . . كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون ؛ ولمجابهة عقائد وتقاليد وارتباطات ؛ ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات . فالحرج في طريقه كثير ، والمشقة في الإنذار به قائمة . . لا يدرك ذلك - كما قلنا في التعريف بالسورة - إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف ؛ وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة ؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها ، وفي مظاهرها وفروعها ، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة [ ص ] ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها . .
وهذا الموقف ليس مقصوراً على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك ، وما كان في الأرض من حولها . . إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً ، وقع مرة ، ثم مضى التاريخ وخلفة وراءه ! . . إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة . . وهو يواجهها كما واجهها أول مرة ، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة ! . . إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها - وهذه هي " الرجعية " البائسة المرذولة - وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه " الرجعية " مرة أخرى كذلك ؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة ؛ ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأول [ ص ] وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية ؛ والغيبوبة في ظلامها الطاغي ! ظلام التصورات . وظلام الشهوات . وظلام الطغيان والذل . وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضاً ! ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج ، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية ، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي [ ص ] :
( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) . .
ويعلم - من طبيعة الواقع - من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى ، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار . ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة ، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهاداً كبيراً . .
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله [ ص ] بهذا الكتاب ، مأموراً من ربه أن ينذر به ويذكر ؛ وألا يكون في صدره حرج منه ، وهو يواجه الجاهلية ، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق . .
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين ، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر ، والسطوح والأعماق !
انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء - حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين ، المسلمين لله المخلصين له الدين - فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق . .
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم ، وليقيم عالماً آخر ، يقر فيه سلطان الله وحده ، ويبطل سلطان الطواغيت . عالماً يعبد فيه الله وحده - بمعني " العبادة " الشامل - ولا يعبد معه أحد من العبيد . عالماً يخرج الله فيه - من شاء - من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . عالماً يولد فيه " الإنسان " الحر الكريم النظيف . . المتحرر من شهوته وهواه ، تحرره من العبودية لغير الله .
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة : " أشهد أن لا إله إلا الله " التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري - كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم - وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلولإلا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر ، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء . فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره ، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته . . وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه ؛ ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده . ولا يتلقى الشرائع والقوانين ، والقيم والموازين ، والعقائد والتصورات إلا من الله ، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله .
هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد . . فأين منها البشرية كلها اليوم ؟
إن البشرية تنقسم شيعاً كلها جاهلية .
شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلا وهم الملحدون . . فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان !
وشيعة وثنية تعترف بوجود إله ، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأرباباً كثيرة . كما في الهند ، وفي أواسط إفريقية ، وفي أجزاء متفرقة من العالم .
وشيعة " أهل كتاب " من اليهود والنصارى . وهؤلاء أشركوا قديماً بنسبة الولد إلى الله . كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله - لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع . وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلاً ! . . ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها " الرأسمالية " و " الاشتراكية " . . وما إليها . ويقيمون لأنفسهم أوضاعاً للحكم يسمونها " الديمقراطية " و " الديكتاتورية " . . . وما إليها . ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله ، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم ، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم . وشيعة تسمي نفسها " مسلمة " ! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه - حذوك النعل بالنعل ! - خارجة من دين الله إلى دين العباد . فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه . ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم !
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية ؛ وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية . . شيعها جميعاً لا تتبع دين الله أصلاً . . وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة ، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور . ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع . . وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله [ ص ] وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية ، المستنيمة للمستنقع الآسن ، الضالة في تيه الجاهلية ، المستسلمة لاستهواء الشيطان في التيه ! . . وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة : أشهد أن لا إله إلا الله . وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده ، ولا يعبد معه سواه . وتحقيق ميلاد للإنسان جديد ، يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد ، ومن عبادة هواه !
إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً ، وقع مرة ، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه . . إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة ؛ في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد . . . التي واجهها أول مرة .
إن الجاهلية حالة ووضع ؛ وليست فترة تاريخية زمنية . . والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض ، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع . . إنها تقوم ابتداء على قاعدة : " حاكمية العباد للعباد " ، ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد . . تقوم على أساس أن يكون " هوى الإنسان " في أيةصورة من صوره هو الإله المتحكم ، ورفض أن تكون " شريعة الله " هي القانون المحكم . . ثم تختلف أشكالها ومظاهرها ، وراياتها وشاراتها ، وأسماؤها وأوصافها ، وشيعها ومذاهبها . . غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها . .
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية . وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية . وأن الإسلام اليوم متوقف عن " الوجود " مجرد الوجود ! وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول الله [ ص ] تماماً ؛ ويواجهون ما كان يواجهه [ ص ] تماماً ، وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول الله - سبحانه - له :
( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) . .
ولتوكيد هذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل :
إن المجتمعات البشرية اليوم - بجملتها - مجتمعات جاهلية . وهي من ثم مجتمعات " متخلفة " أو " رجعية " ! بمعنى أنها " رجعت " إلى الجاهلية ، بعد أن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها . والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية ، وقيادتها في طريق التقدم و " الحضارة " بقيمها وموازينها الربانية .
إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع - متمثلة في سيادة شريعته الربانية - تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد . وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة - كما هي في ميزان الله - لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد . ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد . . لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا ؛ وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب ! والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية . فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد . . كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين ! . . ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف . . أو بالاصطلاح الإسلامي : " مجتمع جاهلي مشرك " !
وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة . ويكون هذا كله صادراً من الله ، لا من هوى فرد ، ولا من إرادة عبد . فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متحضراً متقدماً . أو بالاصطلاح الإسلامي : مجتمعاً ربانياً مسلماً . . لأن التجمع حينئذ يكون ممثلاً لأعلى ما في " الإنسان " من خصائص - خصائص الروح والفكر - فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض . . . وما إلى ذلك من الروابط . . فإنه يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً . . أو بالاصطلاح الإسلامي : مجتمعاً جاهلياً مشركاً . . ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض . . . . وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في " الإنسان " . فالإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض . ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر !
ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة - وهي أسمى ما أكرمه الله به - أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه . ولكنه لا يملك أبداً أن يغير جنسه ، ولا لونه ، ولا قومه . لا يملك أن يحدد سلفاً مولده في جنس ولا لون ؛ كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض . . فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها !
وحين تكون " إنسانية الإنسان " هي القيمة العليا في مجتمع ؛ وتكون " الخصائص الإنسانية " فيه موضعالتكريم والرعاية ، يكون هذا المجتمع متحضرا متقدماً . . أو بالاصطلاح الإسلامي : ربانياً مسلماً . . فأما حين تكون " المادة " - في أية صورة من صورها - هي القيمة العليا . . سواء في صورة " النظرية " كما في الماركسية ، أو في صورة " الإنتاج المادي " كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا ، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية - وفي أولها القيم الأخلاقية - فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً . . أو بالاصطلاح الإسلامي : مجتمعاً جاهلياً مشركاً . .
. . إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة ؛ لا في صورة " النظرية " باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه ؛ ولا في صورة " الإنتاج المادي " والاستمتاع به . فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه ؛ والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه - كما سنرى في سياق هذه السورة - ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص " الإنسان " ومقوماته ! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية . . الملحدة أو المشركة . .
وحين تكون القيم " الإنسانية " والأخلاق " الإنسانية " - كما هي في ميزان الله - هي السائدة في مجتمع ، فإن هذا المجتمع يكون متحضراً متقدماً . . أو بالاصطلاح الإسلامي . . ربانياً مسلماً . . والقيم " الإنسانية " والأخلاق " الإنسانية " ليست مسألة غامضة ولا مائعة ؛ وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة لا تستقر على حال - كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين ، فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم . . إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان " خصائص الإنسان " التي ينفرد بها دون الحيوان . وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنساناً . وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان . . وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت ، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها " التطوريون " ! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية . ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية . ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية ! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة ، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها ، وحتمية في نشأتها وتقريرها . . إنما تكون هناك فقط " قيم وأخلاق إنسانية " يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر . " وقيم وأخلاق حيوانية " - إذا صح هذا التعبير - يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف . . أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية ؛ وقيم وأخلاق رجعية جاهلية !
إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية ، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة ، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي ! إن هذا المقياس لا يخطىء في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته .
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان . ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية - ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة - رذيلة أخلاقية ! إن المفهوم " الأخلاقي " ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية - أحياناً في حدود مصلحة الدولة ! - والكتاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان : إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية !
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة - من وجهة النظر " الإنسانية " . وبمقياس خط التقدم الإنساني . . وهي كذلك غير إسلامية . . لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته ، وتنميةخصائصه الإنسانية ، وتغلبها على نزعاته الحيوانية . .
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة ، وإغراقها في الجاهلية . . من العقيدة إلى الخلق . ومن التصور إلى أوضاع الحياة . . ونحسب أن هذه الإشارات المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة . ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين الله . . إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام : عقيدة وخلقاً ونظاماً . . إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول الله [ ص ] وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة . وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه ؛ وربه - سبحانه - يخاطبه :
( كتاب أنزل إليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ } .
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره هذا القرآن يا محمد في كتاب أنزله الله إليك . ورفع «الكتاب » بتأويل : هذا كتاب .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ منه . يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فلا يضق صدرك يا محمد من الإنذار به من أرسلتك لإنذاره به ، وإبلاغه من أمرتك بابلاغه إياه ، ولا تشكّ في أنه من عندي ، واصبر بالمضي لأمر الله واتباع طاعته فيما كلفك وحَمّلك من عبء أثقال النبوة ، كما صبر أولو العزم من الرسل ، فإن الله معك . والحرج : هو الضيق في كلام العرب ، وقد بينا معنى ذلك بشواهده وأدلته في قوله : ضَيّقا حَرَجا بما أغنى عن إعادته . وقال أهل التأويل في ذلك ، ما :
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال : لا تكن في شك منه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : فَلا يَكُنِ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال : شكّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ : شكّ منه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السّديّ : فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال : أما الحرج : فشكّ .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : سمعت مجاهدا ، في قوله : فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال : شكّ من القرآن .
قال أبو جعفر : وهذا الذي ذكرته من التأويل عن أهل التأويل هو معنى ما قلنا في الحرج لأن الشك فيه لا يكون إلا من ضيق الصدر به وقلة الإتساع لتوجيهه وجْهته التي هي وجهته الصحيحة . وإنما اخترنا العبارة عنه بمعنى الضيق ، لأن ذلك هو الغالب عليه من معناه في كلام العرب ، كما قد بيناه قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى للْمُؤمِنِينَ .
يعني بذلك تعالى ذكره : هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره ، وذِكْرى للمُؤْمِنِينَ وهو من المؤخّر الذي معناه التقديم ، ومعناه : كتاب أنزل ليك لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين ، فلا يكن في صدرك حرج منه . وإذا كان معناه كان موضع قوله : وَذِكْرَى نصبا بمعنى : أنزلنا إليك هذا الكتاب لتنذر به ، وتذكّر به المؤمنين . ولو قيل : معنى ذلك : هذا كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه أن تنذر به وتذكّر به المؤمنين ، كان قولاً غير مدفوعة صحته . وإذا وجه معنى الكلام إلى هذا الوجه كان في قوله : وَذِكْرَى من الإعراب وجهان : أحدهما النصب بالردّ على موضع لتنذر به ، والاَخر الرفع عطفا على الكتاب ، كأنه قيل : المص كتاب أنزل إليك وذكرى للمؤمنين .
{ كتاب } خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب ، أو خبر { المص } والمراد به السورة أو القرآن . { أُنزل إليك } صفته { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي شك ، فإن الشك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة أن تكذب فيه ، أو تقصر في القيام بحقه ، وتوجيه النهي إليه للمبالغة كقولهم لا أرينك ها هنا . والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل : إذا نزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك . { لتنذر به } متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه . { وذكرى للمؤمنين } يحتمل النصب بإضمار فعلها أي : لتنذر وتذكر ذكرى فإنها بمعنى التذكير ، والجر عطفا على محل تنذر والرفع عطفا على كتاب أو خبرا لمحذوف .
وقوله تعالى : { كتاب أنزل إليك } الآية ، قال الفراء وغيره { كتاب } رفع على الخبر للحروف ، كأنه قال هذه الحروف كتاب أنزل إليك ، ورد الزجّاج على هذا القول بما لا طائل فيه ، وقال غيره : { كتاب } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب و { أنزل إليك } في موضع الصفة ل { كتاب } ، ثم نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرم أو يستصحب من هذا الكتاب أو بسبب من أسبابه حرجاً ، ولفظ النهي هو للحرج ومعناه للنبي عليه السلام ، وأصل الحرج الضيق ، ومنه الحرجة الشجر الملتف الذي قد تضايق ، و «الحرج » ها هنا يعم الشك والخوف والهم وكل ما يضيق الصدر ، وبحسب سبب الحرج يفسر الحرج ها هنا ، وتفسيره بالشك قلق ، والضمير في { منه } عائد على الكتاب أي بسبب من أسبابه ، و «من » ها هنا لابتداء الغاية ، وقيل يعود على التبليغ الذي يتضمنه معنى الآية ، وقيل على الابتداء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعم الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك .
وقوله تعالى : { فلا يكن في صدرك حرج منه } اعتراض في أثناء الكلام ، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديماً وتأخيراً ، وقوله { لتنذر } اللام متعلقة ب { أنزل } . وقوله { وذكرى } معناه تذكرة وإرشاد ، و { ذكرى } في موضع رفع عطفاً على قوله { كتاب } . فالتقدير هذه الحروف كتاب وذكرى ، وقيل رفعه على جهة العطف على صفة الكتاب فالتقدير هذه الحروف كتاب منزل إليك وذكرى ، فهي عطف على ( منزل ) داخلة في صفة الكتاب ، وقيل { ذكرى } في موضع نصب بفعل مضمر تقديره لتنذر به وتذكر ذكرى للمؤمنين ، وقيل نصبها على المصدر وقيل { ذكرى } في موضع خفض عطفاً على قوله { لتنذر } أي لإنذارك وذكرى .
ذكرنا في طالعة سورة البقرة أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السّور أعقبت بذكر القرآن أو الوحي أو ما في معنى ذلك ، وذلك يرجح أن المقصود من هذه الحروف التّهجي ، إبلاغاً في التّحدي للعرب بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن وتخفيفاً للعبء عن النّبيء صلى الله عليه وسلم فتلك جملة مستقلّة وهي هنا معدودة آية ولم تعدّ في بعض السّور .
فقوله : { كتب } مبتدأ ووقع الابتداء ، بالنّكرة إمّا لأنّها أريد بها النّوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام وذلك كقولهم : رجلٌ جاءني ، أي لا امرأة ، وتمرة خيرٌ من جرادة ، وفائدة إرادة النّوع الردّ على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله ، واستبعادهم ذلك ، فذكّرهم الله بأنّه كتاب من نوع الكُتب المنزّلة على الأنبياء ، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نَزَل هذا القرآن ، فيكون تنكير النّوعية لدفع الاستبعاد ، ونظيره قوله تعالى : { قالوا لا تخف خَصْمَان بغى بعضنا على بعض } [ ص : 22 ] فالتّنكير للنّوعيّة .
وإما لأن التّنكير أريد به التّعظيم كقولهم : « شرّ أهَرّ ذَا نَاب » أي شرٌ عظيم . وقول عُوَيْف القوافي :
خَبَرٌ أتَانِي عن عُيَيْنَةَ موجِع *** كادَت عليه تَصَدعّ الأكْبَادُ
أي هو كتاب عظيم تنويهاً بشأنه فصار التنكير في معنى التوصيف .
وإمّا لأنّه أريد بالتّنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حفّ به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد ، وكونه نازلاً على رجل أمّيّ .
وقوله : { أنزل إليك } يجوز أن يكون صفة ل { كتاب } فيكون مسوغاً ثانياً للابتداء بالنّكرة ويجوز أن يكون هو الخبر فيجُوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين ، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يعلمون أنّه أنزل من عند الله ، فلا يحتاجون إلى الإخبار به ، فالخبر مستعمل في التّعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض ، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتّذكير بالنّعمة ، فيكون الخبر مستعملاً في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب .
ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله : { أنزل إليك } مع ما انضمّ إليه من التّفريع والتّعليل ، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصّدر به ، فإنّه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكِّر المؤمنين ، والمقصود : تسكين نفس النّبي صلى الله عليه وسلم وإغاظة الكافرين ، وتأنيس المؤمنين ، أي : هو كتاب أنزل لفائدة ، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صرك حرج إن كذّبوا . وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السّور العجيبة البيان .
ومن المفسّرين من قدّروا مبتدأ محذوفاً ، وجعلوا { كتب } خبراً عنه ، أي هذا كتاب ، أي أنّ المشار إليه القرآن الحاضر في الذّهن ، أو المشار إليه السّورة أطلق عليها كتاب ، ومنهم من جعل { كتاب } خبراً عن كلمة { آلمص } [ الأعراف : 1 ] وكلّ ذلك بمعزل عن متانة المعنى .
وصِيغ فعل : { أنزل } بصيغة النائب عن الفاعل اختصاراً ، للعِلم بفاعل الإنزال ، لأنّ الذي يُنزل الكتب على الرّسل هو الله تعالى ، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنّه من الوحي لملائكة العوالم السّماوية .
والفاء في قوله : { فلا يكن في صدرك } اعتراضية إذ الجملة معترضة بين فعل { أنزل } ومتعلّقة وهو { لتنذر به } ، فإنّ الاعتراض يكون مقترناً بالفاء كما يكون مقترناً بالواو كما في قوله تعالى : { هذا فليذوقوه حميم وغساق } [ ص : 57 ] وقوله : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى } [ النساء : 135 ] . وقول الشّاعر وهو من الشّواهد :
اعْلَمْ فعِلْمُ المرء يَنْفَعُه *** أنْ سَوف يأتي كُلّ ما قُدّرا
كقائلة إنّ الحمار فَنَحِّه *** عن القتّ أهلُ السّمسم المُتهذّبِ
وليست الفاء زائدة للاعتراض ولكنّها ترجع إلى معنى التّسبّب ، وإنّما الاعتراض حصل بتقديم جملتها بين شيئين متّصلين مبادرة من المتكلّم بإفادته لأهمّيته ، وأصل ترتيب الكلام هنا : كتاب أنزل إليك لتنذر به وذِكْرَى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه ، وقد ذكَر في « مغني اللّبيب » دخول الفاء في الجملة المعترضة ولم يذكر ذلك في معاني الفاء فتوهّم متوهّمون أنّ الفاء لا تقع في الجملة المعترضة .
والمعنى أنّ الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج ، بل لينشرح صدرك به . ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نَهْي الحرج عن أن يحصل في صدر النّبيء صلى الله عليه وسلم ليكون النّهي نهي تكوين ، بمعنى تكوين النّفي ، عكس أمر التّكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات . مُثِّلَ تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرِك للخطاب ، عن الحصول في المكان . وجَعَل صاحب « الكشاف » النّهي متوجّهاً في الحقيقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي نهيه عن المبالاة بالمكذّبين بالقرآن ، والغمّ من صنيعهم ، وجعل النّهي في ظاهر اللّفظ متوجّهاً إلى الحرج للمبالغة في التّكليف ، باقتلاعه من أصله على طريقة قول العرب : « لاَ أرَيَنَّكَ ههنا » أي لا تحضر فأراك ، وقولهم : « لا أعْرِفَنَّك تفعل كذا » أي لا تفعلْه فأعرّفَك به ، نهياً بطريق الكناية ، وأيّاً ما كان فالتّفريع مناسب لمعاني التّنكير المفروض في قوله : { كتاب } ، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جَرّه نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله ، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالتِه ، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنّه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته .
و ( مِنْ ) ابتدائيّة ، أي حرج ينشأ ويسري من جرّاء المذكور ، أي من تكذيب المكذّبين به ، فلمّا كان التّكذيب به من جملة شؤونه ، وهو سبب الحرج ، صح أن يجعل الحرج مسبّباً عن الكتاب بواسطة . والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله .
والحرج حقيقته المكان الضيّق من الغَابات الكثيرة الأشجار ، بحيث يعسر السلوك فيه ، ويستعار لِحالة النّفس عند الحزن والغضب والأسف ، لأنّهم تخيّلوا للغاضب والآسِف ضيقاً في صدره لما وجدوه يعسر منه التّنفّس من انقباض أعْصاب مجاري النفَس ، وفي معنى الآية قوله تعالى : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير } [ هود : 12 ] .
و { لتنذر } متعلّق ب { أنزل } على معنى المفعول لأجله ، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعِل الإنذار . وجعل الإنذار به مقدّماً في التّعليل لأنّه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلفونه في النّاس من العوائد الباطلة التي تُعاني أزالتها من النّاس بعدَ إسلامهم .
{ ذكرى } يجوز أن يكون معطوفاً على { لتنذر به } ، باعتبار انسباكه بمصدر فيكون في محلّ جرّ ، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة ، ويكون { ذكرى } مصدراً بدلاً من فعله ، والتّقدير : وذَكِّرْ ذكرى للمؤمنين ، فيكون في محلّ نصب فيكون اعتراضاً .
وحذف متعلّق { تنذر } ، وصرح بمتعلّق { ذكرى } لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور ، والتّقدير : لتنذر به الكافرين ، وصرح بمتعلّق الذّكرى دون متعلّق { تنذر } تنويها بشأن المؤمنين وتعريضاً بتحقِير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين .