{ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } وهي جميع النفوس الخيرة والفاجرة ، سميت { لوامة } لكثرة ترددها وتلومها وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها ، ولأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما عملت{[1290]} ، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا على ما حصل منه ، من تفريط أو تقصير في حق من الحقوق ، أو غفلة ، فجمع بين الإقسام بالجزاء ، وعلى الجزاء ، وبين مستحق الجزاء .
فأما النفس اللوامة ففي التفسيرات المأثورة أقوال متنوعة عنها . . فعن الحسن البصري : إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ? ما أردت بأكلتي ? ما أردت بحديث نفسي ? وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه . . وعن الحسن : ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة . . وعن عكرمة : تلوم على الخير والشر : لو فعلت كذا وكذا ! كذلك عن سعيد بن جبير . . وعن ابن عباس : هي النفس اللؤوم . وعنه أيضا : اللوامة المذمومة . وعن مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه . . وعن قتادة : الفاجرة . . وقال جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات .
ونحن نختار في معنى ( النفس اللوامة )قول الحسن البصري : " إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ? ما أردت بأكلتي ? ما أردت بحديث نفسي ? وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه " . .
فهذه النفس اللوامة المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها ، وتتلفت حولها ، وتتبين حقيقة هواها ، وتحذر خداع ذاتها هي النفس الكريمة على الله ، حتى ليذكرها مع القيامة . ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة . نفس الإنسان الذي يريد أن يفجر ويمضي قدما في الفجور ، والذي يكذب ويتولى ويذهب إلى أهله يتمطى دون حساب لنفسه ودون تلوم ولا تحرج ولا مبالاة !
وقوله : وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : اللّوّامَةِ فقال بعضهم : معناه : ولا أقسم بالنفس التي تلوم على الخير والشرّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ قال : تلوم على الخير والشرّ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سِماك ، عن عكرِمة وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ قال : تلوم على الخير والشرّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي الخير بن تميم ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قلت لابن عباس وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ قال : هي النفس اللّؤوم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنها تلوم على ما فات وتندم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بالنّفْسِ اللّوّامَةِ قال : تندم على ما فات وتلوم عليه .
وقال آخرون : بل اللوّامة : الفاجرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ : أي الفاجرة .
وقال آخرون : بل هي المذمومة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ يقول : المذمومة .
وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها ، فمتقاربات المعاني ، وأشبه القول في ذلك بظاهر التنزيل أنها تلوم صاحبها على الخير والشرّ ، وتندم على ما فات ، والقرّاء كلهم مجمعون على قراءة هذه بفصل «لا » من أقسم .
ولا أقسم بالنفس اللوامة بالنفس المتقية التي تلوم النفوس المقصرة في التقوى يوم القيامة على تقصيرها أو التي تلوم نفسها أبدا وإن اجتهدت في الطاعة أو النفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة أو بالجنس لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزدد وإن عملت شرا قالت يا ليتني كنت قصرت أو نفس آدم فإنها لم تزل تتلوم على ما خرجت به من الجنة وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَلا أُقْسِمُ بالنّفْسِ اللّوّامَةِ" اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "اللّوّامَةِ"؛
فقال بعضهم: معناه: ولا أقسم بالنفس التي تلوم على الخير والشرّ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها تلوم على ما فات وتندم.
وقال آخرون: بل اللوّامة: الفاجرة.
وأشبه القول في ذلك بظاهر التنزيل أنها تلوم صاحبها على الخير والشرّ، وتندم على ما فات.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي: أقسم بالنفس اللَّوَّامة، وهي النَّفْسُ التي تلوم صاحبَها، وتعرِف نقصانَ حالِها. ويقال: غداً... كلُّ نَفْسِ تلوم نَفْسَها: إمَّا على كُفْرِها، وإمَّا على تقصيرها -وعلى هذا فالقَسَمُ يكون بإضمار "الرَّب " أي: أقسم بربِّ النفس اللوامة. وليس للوم النَّفْسِ في القيامةِ خطرٌ- وإنْ حُمِلَ على الكُلِّ، ولكنَّ الفائدة فيه بيان أنَّ كلِّ النفوس غداً -ستكون على هذه الجُملة. وجوابُ القسَم قولُه: {بَلَى}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بالنفس اللوامة} بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه، أي في يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان.
وقيل: هي التي تتلوّم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة. وعلى التفريط إن كانت مسيئة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من المقرر المعلوم الذي هو في أقصى غايات الظهور أن من طلبه الملك طلب عرض وحساب وثواب وعقاب، يلوم نفسه في كونه لم يبالغ في العمل بما يرضي الملك والإخلاص في موالاته، والتحيز إليه ومصافاته، وكان أكثر لوم النفس واقعاً في ذلك اليوم، وكان إدراكها للوم المرتب على إدراك الأمور الكلية والجزئية ومعرفة الخير والشر، والتمييز بينهما من أعظم الدلائل على تمام قدرة الخالق وكمال عظمته الموجب لإيجاد ذلك اليوم لإظهار عظمته وحكمه وحكمته قال {ولا أقسم بالنفس} على حد ما مضى في أن الباء صلة أو سبب {اللوامة} أي التي تلوم صاحبها وهي خيرة وشريرة، فالخيرة تكون سبباً للنجاة فيه والأخرى تكون سبباً للهلاك فيه، فإن لامت على الشر أو على التهاون بالخير أنجت، وإن لامت على ضد ذلك أهلكت، وكيفما كانت لا بد أن تلوم، وهي بين الأمارة والمطمئنة، فما غلب عليها منهما كانت في حيزه، قال الرازي في اللوامع: فالمطمئنة التي انقادت لأوامر الله، والأمارة المخالفة لها المتبعة للهوى، واللوامة هي المجاهدة، فتارة لها اليد وتارة عليها، وهي نفس الإنسان خاصة لأنها بين طوري الخير والشر والكمال والنقصان والصعود والهبوط والطاعة والعصيان.
ولهذا جمع بين القيامة وبين اللوامة، لأن الثواب والعقاب للآدمي دون الملائكة والحيوانات العجم، واللوامة يشتد لومها في ذلك اليوم على عدم الخير أو عدم الزيادة منه، لا أقسم على ذلك بهذا الذي هو من أدل الأمور على عظمته سبحانه فإن الأمر في ذلك غني عن القسم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد اللوامة في الدنيا لوماً تنشأ عنه التوبة والتقوى وليسَ المراد لوم الآخرة إذ {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر: 24].
ومناسبة القسم بها مع يوم القيامة أنها النفوس ذات الفوز في ذلك اليوم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأمّا ما يراد ب «النفس اللوامة» فهناك أقوال كثيرة ومختلفة قد ذكرت للمفسّرين، وأحد تلك التّفاسير المشهورة هو أنّ أنّها «الوجدان الأخلاقي» الذي يلوم الإنسان في الدنيا على المعصية ويحفّزه على إصلاح ما بدا منه.
والتّفسير الآخر هو أنّ المراد بالنفس الإنسانية بصورة عامة التي تلوم صاحبها يوم القيامة، فإذا كان مؤمناً فإنّها تلومه على عدم الإكثار من الصالحات وعلى قلّة الطاعة، وإن كان كافراً فإنّها تلومه على كفره وشركه وفجوره.
وأمّا الآخر: فالمراد نفس الكافر التي تلومه يوم القيامة على ما قدمت من كفر ومعصية.
والوجه الأوّل يناسب الآية السابقة والتي تليها، أجل إنّ لمحكمة الضمير مقاماً ومنزلة عظيمة ولهذا يقسم اللّه بها، ويستعظم قدرها، وهي بحقّ عظيمة القدر، لأنّها أحد العوامل المهمّة لخلاص الإنسان بشرط أن تكون واعية ويقظة وغير عاجزة بسبب الذنوب والآثام.
وممّا تجدر الإشارة إليه هو أنّ جواب القسم محذوف، وهذا ما تدل عليه الآيات التالية والتقدير «لتبعثن يوم القيامة» أو «أنّكم تبعثون» فيكون المعنى: لا اُقسم بيوم القيامة ولا أُقسم بالنفس اللوامة أنّكم تبعثون يوم القيامة وتجزون ما كنتم تفعلون.
ومن الظريف أنّ القسم جاء بيوم القيامة على وجود يوم القيامة، وذلك لأنّه إلى درجة من الوضوح والبداهة أنّه يمكن القسم به حتى في مقابل المنكرين.