{ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ }
لما ذكر تبارك وتعالى ، الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأمور{[110]} ذكر نموذجا مما يستعان بالصبر عليه ، وهو الجهاد في سبيله ، وهو أفضل الطاعات البدنية ، وأشقها على النفوس ، لمشقته في نفسه ، ولكونه مؤديا للقتل ، وعدم الحياة ، التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها ، فكل ما يتصرفون به ، فإنه سعى لها ، ودفع لما يضادها .
ومن المعلوم أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم ، فأخبر تعالى : أن من قتل في سبيله ، بأن قاتل في سبيل الله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، ودينه الظاهر ، لا لغير ذلك من الأغراض ، فإنه لم تفته الحياة المحبوبة ، بل حصل له حياة أعظم وأكمل ، مما تظنون وتحسبون .
فالشهداء { أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ }
فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى ، وتمتعهم برزقه البدني في المأكولات والمشروبات اللذيذة ، والرزق الروحي ، وهو الفرح ، والاستبشار{[111]} وزوال كل خوف وحزن ، وهذه حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا ، بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طيور{[112]} خضر ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش . وفي هذه الآية ، أعظم حث على الجهاد في سبيل الله ، وملازمة الصبر عليه ، فلو شعر العباد بما للمقتولين في سبيل الله من الثواب لم يتخلف عنه أحد ، ولكن عدم العلم اليقيني التام ، هو الذي فتر العزائم ، وزاد نوم النائم ، وأفات الأجور العظيمة والغنائم ، لم لا يكون كذلك والله تعالى قد : { اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ }
فوالله لو كان للإنسان ألف نفس ، تذهب نفسا فنفسا في سبيل الله ، لم يكن عظيما في جانب هذا الأجر العظيم ، ولهذا لا يتمنى الشهداء بعدما عاينوا من ثواب الله وحسن جزائه إلا أن يردوا إلى الدنيا ، حتى يقتلوا في سبيله مرة بعد مرة .
وفي الآية ، دليل على نعيم البرزخ وعذابه ، كما تكاثرت بذلك النصوص .
والآن والجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض ، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله ، ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاق الطويل . . الآن يأخذ القرآن في تعبئتها تعبئة روحية ، وفي تقويم تصورها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع ، ومن تضحيات وآلام ، وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديرا صحيحا :
( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله : أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) . .
إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق . شهداء في سبيل الله . قتلى أعزاء أحباء . قتلى كراما أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله ، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق ، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا . إنهم أحياء . فلا يجوز أن يقال عنهم : أموات . لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور ، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان . إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه . فهم لا بد أحياء .
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر ، وحسبما ترى العين . ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة . . إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد . وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع . . وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة ، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد ، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد . فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها ، وهذه هي صفة الحياة الأولى . فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس .
ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار ، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه . وحسبنا إخبار الله تعالى به : ( أحياء ولكن لا تشعرون ) . . لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود . ولكنهم أحياء .
أحياء . ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى ، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها . فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة . وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء .
أحياء . فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم ، ولا يتعاظمها الأمر ، ولا يهولنها عظم الفداء . ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله ، مأجورون أكرم الأجر وأوفاه :
في صحيح مسلم : " إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، فاطلع عليهم ربك إطلاعة . فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا . وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا . فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون " . .
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله [ ص ] : " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا ، وله ما على الأرض من شيء . إلا الشهيد ، ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة " . [ أخرجه مالك والشيخان ] .
ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء ؟ إنهم أولئك الذين يقتلون ( في سبيل الله ) . . في سبيل الله وحده ، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله . في سبيل هذا الحق الذي أنزله . في سبيل هذا المنهج الذي شرعه . في سبيل هذا الدين الذي اختاره . . في هذا السبيل وحده ، لا في أي سبيل آخر ، ولا تحت أي شعار آخر ، ولا شركة مع هدف أو شعار . وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث ، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر . . غير الله . .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله [ ص ] عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " . . [ أخرجه مالك والشيخان ] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال : يا رسول الله : رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا ؟ فقال : " لا أجر له " . فأعاد عليه ثلاثا . كل ذلك يقول : " لا أجر له " . [ أخرجه أبو داود ] .
وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله . لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي . . فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده ، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم ، لونه لون دم وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبدا . ولكن لا أجد سعة فأحملهم ، ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده لوددت أن اغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم اغزو فأقتل ، ثم اغزو فأقتل " [ أخرجه مالك والشيخان ] .
فهؤلاء هم الشهداء . هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله ، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله ، وإيمان به ، وتصديق برسله .
ولقد كره رسول الله [ ص ] لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد : عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبيه [ وكان مولى من أهل فارس ] قال : [ شهدت مع النبي [ ص ] أحدا . فضربت رجلا من المشركين ، فقلت : خذها وأنا الغلام الفارسي . فالتفت إلي النبي [ ص ] فقال : " هلا قلت : وأنا الغلام الأنصاري ؟ إن ابن أخت القوم منهم ، وإن مولى القوم منهم " ] [ أخرجه أبو داود ] .
فقد كره له [ ص ] أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي [ ص ] ، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين . . وهذا هو الجهاد . وفيه وحده تكون الشهادة ، وتكون الحياة للشهداء .