{ 9 - 11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا }
يذكر تعالى عباده المؤمنين ، نعمته عليهم ، ويحثهم على شكرها ، حين جاءتهم جنود أهل مكة والحجاز ، من فوقهم ، وأهل نجد ، من أسفل منهم ، وتعاقدوا وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة ، وذلك في وقعة الخندق .
ومالأتهم [ طوائف ]{[1]} اليهود ، الذين حوالي المدينة ، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .
يقول تعالى ذكره : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ التي أنعمها على جماعتكم وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ : جنود الأحزاب : قُريش ، وغَطفان ، ويهود بني النضير فأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا وهي فيما ذكر : ريح الصّبا . كما :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرِمة ، قال : قالتِ الجنوبُ للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الشمال : إن الحرّة لا تسري بالليل ، قال : فكانت الريح التي أُرسلت عليهم الصّبا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : ثني الزبير ، يعني ابن عبد الله ، قال : ثني ربيح بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي سعيد ، قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر ، فهل من شيء تقوله ؟ قال : «نَعَمْ قُولُوا : اللّهُمّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنا ، وآمِنْ روْعاتِنا » ، فَضَرَبَ اللّهُ وُجُوهَ أعْدائهِ بالرّيحِ ، فهَزَمَهُمُ اللّهُ بالرّيحِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني عبد الله بن عمرو ، عن نافع ، عن عبد الله ، قال : أرسلني خالي عثمان بن مظعون ليلة الخندق في برد شديد وريح ، إلى المدينة ، فقال : ائتنا بطعام ولحاف قال : فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن لي وقال : «مَنْ لَقِيتَ مِنْ أصحَابِي فَمُرْهُم يَرْجِعُوا » . قال : فذهبت والريح تَسْفِي كل شيء ، فجعلت لا ألقى أحدا إلاّ أمرته بالرجوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : فما يَلْوِي أحد منهم عنقه قال : وكان معي تُرْس لي ، فكانت الريح تضربه عليّ ، وكان فيه حديد ، قال : فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي ، فأنفذها إلى الأرض .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة : قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ ، قال : قال فتى من أهل الكوفة لحُذَيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله ، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ؟ قال : نعم يا بن أخي ، قال : فكيف كنتم تصنعون ؟ قال : والله لقد كنا نَجْهَد ، قال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشيء على الأرض ، لحملناه على أعناقنا . قال حُذَيفة : يا بن أخي ، والله لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وصلى رسول الله هَوِيّا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ؟ يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يرجع أدخله الله الجنة » ، فما قام أحد ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوِيا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال مثله ، فما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هَوِيا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال : «مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنا ما فَعَلَ القَوْمُ ثُمّ يَرْجِعُ ، يَشْتَرِطُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ الرّجْعَةَ ، أسأَلُ اللّهُ أنْ يكُونَ رَفِيقي فِي الجَنّةِ » فما قام رجل من شدّة الخوف ، وشدّة الجوع ، وشدّة البرد فلما لم يقم أحد ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني ، فقال : «يا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فادْخُلْ فِي القَوْمِ فانْظُرْ ما يَفْعَلونَ ، وَلا تُحْدِثَنّ شَيْئا حتى تَأْتِينَا » . قال : فذهبت فدخلت في القوم ، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ، لا تُقِرّ لهم قِدرا ولا نارا ولا بناء فقام أبو سُفيان فقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه ، فقال حُذَيفة : فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي ، فقلت : من أنت ؟ فقال : أنا فلان بن فلان ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، ولقد هلك الكراع والخفّ ، واختلفت بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، والله ما يطمئنّ لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإني مرتحل . ثم قام إلى جمله وهو معقول ، فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلاّ وهو قائم . ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ أن «لا تُحدث شيئا حتى تأتيني » ، لو شئت لقتلته بسهم قال حُذَيفة : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه فلما رآني أدخلني بين رجليه ، وطرح عليّ طرَف المِرط ، ثم ركع وسجد وإني لفيه فلما سلم أخبرته الخبر ، وسمعت غَطفان بما فعلت قريش ، فانشمروا راجعين إلى بلادهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ قال : الأحزاب : عيينة بن بدر ، وأبو سفيان ، وقريظة .
وقوله : فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا قال : ريح الصبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق ، حتى كفأت قدورهم على أفواهها ، ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم . وقوله : وَجُنُودا لَمْ تَرَوْها قال : الملائكة ولم تقاتل يومئذ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله يا أيها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ، إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْها قال : يعني الملائكة ، قال : نزلت هذه الاَية يوم الأحزاب وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا فخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل أبو سفيان بقريش ومن تبعه من الناس ، حتى نزلوا بعقوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عُيينة بن حصن ، أحد بني بدر ومن تبعه من الناس حتى نزلوا بعقوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكاتبت اليهود أبا سفيان وظاهروه ، فقال حيث يقول الله تعالى : إذْ جاءوُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ فبعث الله عليهم الرعب والريح ، فذكر لنا أنهم كانوا كلما أوقدوا نارا أطفأها الله ، حتى لقد ذكر لنا أن سيد كلّ حيّ يقول : يا بني فلان هلمّ إليّ ، حتى إذا اجتمعوا عنده فقال : النجاء النجاء ، أتيتم لما بعث الله عليهم من الرعب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نَعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ . . . الاَية ، قال : كان يوم أبي سفيان يوم الأحزاب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان ، في قول الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فأَرْسَلْنا عَلَيْهِم رِيحا وَجُنُودا لَمْ تَرَوْها والجنود قريش وغطفان وبنو قريظة ، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح : الملائكة .
وقوله : وكانَ اللّهُ بِمَا تَعْملُونَ بَصِيرا يقول تعالى ذكره : وكان الله بأعمالكم يومئذٍ ، وذلك صبرهم على ما كانوا فيه من الجَهْد والشدّة ، وثَباتهم لعَدُوّهم ، وغير ذلك من أعمالهم ، بصيرا لا يخفى عليه من ذلك شيء ، يُحصيه عليهم ، ليجزيَهُمْ عليه .
ابتداء لغرض عظيم من أغراض نزول هذه السورة والذي حفّ بآيات وعِبَر من ابتدائه ومن عواقبه تعليماً للمؤمنين وتذكيراً ليزيدهم يقيناً وتبصيراً . فافتتح الكلام بتوجيه الخطاب إليهم لأنهم أهله وأحقّاءُ به ، ولأن فيه تخليد كرامتهم ويقينهم وعناية الله بهم ولطفَه لهم وتحقيراً لعدوّهم ومن يكيد لهم ، وأمروا أن يذكروا هذه النعمة ولا ينسوها لأن في ذكرها تجديداً للاعتزاز بدينهم والثقة بربهم والتصديق لنبيئهم صلى الله عليه وسلم .
واختيرت للتذكير بهذا اليوم مناسبةُ الأمر بعدم طاعة الكافرين والمنافقين لأن من النِعم التي حفّت بالمؤمنين في يوم الأحزاب أن الله ردّ كيد الكافرين والمنافقين فذُكِّر المؤمنون بسابق كيد المنافقين في تلك الأزمة ليحذروا مكائدهم وأراجيفهم في قضية التبنّي وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم مطلَّقة متبناه ، ولذلك خصّ المنافقون بقوله : { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 12 ] الآيات ؛ على أن قضية إبطال التبنّي وإباحة تزوّج مطلق الأدعياء كان بقرب وقعة الأحزاب .
و { إذ } ظرف للزمن الماضي متعلق ب { نعمة } لما فيها من معنى الإنعام ، أي : اذكروا ما أنعم الله به عليكم زمان جاءتكم جنود فهزمهم الله بجنود لم تروها .
وهذه الآية وما بعدها تشير إلى ما جرى من عظيم صنع الله بالمؤمنين في غزوة الأحزاب فلنأت على خلاصة ما ذكره أهل السير والتفسير ليكون منه بيان لمطاوي هذه الآيات .
وكان سبب هذه الغزوة أن قريشاً بعد وقعة أُحد تهادنوا مع المسلمين لمدة عام على أن يلتقوا ببدر من العام القابل فلم يقع قتال ببدر لتخلف أبي سفيان عن الميعاد ، فلم يناوش أحد الفريقين الفريق الآخر إلا ما كان من حادثة غدر المشركين بالمسلمين وهي حادثة بئر معونة حين غدرت قبائل عُصَيَّةَ ، ورِعْل ، وذَكوان من بني سُليم بأربعين من المسلمين إذ سأل عامر بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجههم إلى أهل نجدٍ يَدعونهم إلى الإسلام . وكان ذلك كيداً كاده عامر بن مالك وذلك بعد أربعة أشهر من انقضاء غزوة أُحد .
فلما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النَضير لِما ظهر من غدرهم به وخيسهم بالعهد الذي لهم مع المسلمين ، هنالك اغتاظ كبراء يهود قريظة بعد الجلاء وبعد أن نزلوا بديار بني قريظة وبخيبر فخرج سلاّم بن أبي الحُقَيق بتشديد لام سلاّم وضم حاء الحُقيق وفتح قافه وكنانة بنُ أبي الحُقيق ، وحُيي بن أخطب بضم حاء حُيَي وفتح همزة وطاء أخطب وغيرهم في نفر من بني النضير فقدموا على قريش لذلك وتآمروا مع غطفان على أن يغزوا المدينة فخرجت قريش وأحابيشها وبنو كنانة في عشرة آلاف وقائدهم أبو سفيان ، وخرجت غطفان في ألف قائدهم عيينة بن حصن ، وخرجت معهم هوازن وقائدهم عامر بن الطُفَيل .
وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عزمهم على منازلة المدينة أبلغتْه إياه خزاعة وخاف المسلمون كثرةَ عدوّهم ، وأشار سلمان الفارسي أن يُحْفر خندق يحيط بالمدينة تحصيناً لها من دخول العدوّ فاحتفره المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم يحفر وينقل التراب ، وكانت غزوة الخندق سنة أربع في رواية ابن وهب وابن القاسم عن مالك . وقال ابن إسحاق : سنة خمس . وهو الذي اشتهر عند الناس وجرى عليه ابنُ رشد في « جامع البيان والتحصيل » اتباعاً لما اشتهر ، وقول مالك أصحّ .
وعندما تم حفر الخندق أقبلت جنود المشركين وتسمّوْا بالأحزاب لأنهم عدة قبائل تحزبوا ، أي : صاروا حِزباً واحداً ، وانضمّ إليهم بنو قريظة فكان ورود قريش من أسفل الوادي من جهة المغرب ، وورود غطفان وهوازنَ من أعلى الوادي من جهة المشرق ، فنزل جيش قريش بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرف وزُغَابة بزاي معجمة مضمومة وغين معجمة وبعضهم يرويه بالعين المهملة وبعضهم يقول : والغابة ، والتحقيق هو الأول كما في « الروض الأنف » ، ونزل جيش غطفان وهوازن بذَنَب نَقْمَى إلى جانب أُحُد ، وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف ؛ وخرج المسلمون إلى خارج المدينة فعسكروا تحت جبل سَلْع وجعلوا ظهورهم إلى الجبل والخندقُ بينهم وبين العدوّ ، وجعل المسلمون نساءهم وذراريهم في آطام المدينة . وأمَّر النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم ، ودام الحال كذلك بضعاً وعشرين ليلة لم تكن بينهم فيها حرب إلا مصارعة بين ثلاثة فرسان اقتحموا الخندق من جهة ضيقة على أفراسهم فتقاتلوا في السبخة بين الخندق وسلْع وقُتل أحدهم قتلَه علي بن أبي طالب وفرّ صاحباه ، وأصاب سهمٌ غرْب سعد بن معاذ في أكْحله فكان منه موته في المدينة . ولحقت المسلمين شدّة من الحصار وخوف من كثرة جيش عدوّهم حتى همّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصالح الأحزاب على أن يعطيهم نصف ثمر المدينة في عامهم ذلك يأخذونه عند طيبه وكاد أن يكتب معهم كتاباً في ذلك ، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معَاذ : قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً أو بَيْعاً ، أفحين أكرَمَنا الله بالإسلام وأعزَّنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عزم عليه .
وأرسل الله على جيش المشركين ريحاً شديدة فأزالت خيامهم وأكْفأت قدورَهم وأطفأت نيرانهم ، واختلّ أمرهم ، وهلك كراعهم وخُفهم ، وحدث تخاذل بينهم وبين قريظة وظنت قريش أن قريظة صالحت المسلمين وأنهم ينضمون إلى المسلمين على قتال الأحزاب ، فرأى أهل الأحزاب الرأي في أن يرتحلوا فارتحلوا عن المدينة وانصرف جيش المسلمين راجعاً إلى المدينة .
فقوله تعالى { إذ جاءتكم جنودٌ } ذُكر توطئة لقوله { فأرسلنا عليهم ريحاً } الخ لأن ذلك هو محلّ المِنّة . والريح المذكورة هنا هي ريح الصَّبا وكانت باردة وقلعت الأوتاد والأطناب وسفت التراب في عيونهم وماجت الخيل بعضها في بعض وهلك كثير من خيلهم وإبلهم وشائهم . وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم « نُصرتُ بالصَّبا وأُهلكتْ عاد بالدبور » . والجنود التي لم يروها هي جنود الملائكة الذين أرسلوا الريح وألقوا التخاذل بين الأحزاب وكانوا وسيلة إلقاء الرعب في نفوسهم .
وجملة { وكان الله بما تعملون بصيراً } في موقع الحال من اسم الجلالة في قوله { نعمة الله } وهي إيماء إلى أن الله نصرهم على أعدائهم لأنه عليم بما لقيه المسلمون من المشقة والمصابرة في حفر الخندق والخروج من ديارهم إلى معسكرهم خارج المدينة وبذلهم النفوس في نصر دين الله فجازاهم الله بالنصر المبين كما قال { ولينصُرَنّ الله مَنْ ينصره } [ الحج : 40 ] .
وقرأ الجمهور { بما تعملون بصيراً } بتاء الخطاب . وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة ومحملها على الالتفات .
والجنود الأوُّل جمع جند ، وهو الجمع المتّحد المتناصر ولذلك غلب على الجمع المجتمع لأجل القتال فشاع الجند بمعنى الجيش . وذكر جنود هنا بلفظ الجمع مع أن مفرده مؤذن بالجماعة مثل قوله تعالى { جندٌ مَّا هنالك مهزوم من الأحزاب } [ ص : 11 ] فجمعه هنا لأنهم كانوا متجمعين من عدة قبائل لكل قبيلة جيش خرجوا متساندين لغزو المسلمين في المدينة ، ونظيره قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجُنود } في سورة البقرة ( 249 ) .
والجنود الثاني جمع جند بمعنى الجماعة من صنف واحد . والمراد بهم ملائكة أُرسِلوا لِنَصْر المؤمنين وإلقاء الرعب والخوف في قلوب المشركين .