{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ *وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
هذا ذم لمن { أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } وفي ضمنه تحذير عباده عن الاغترار بهم ، والوقوع في أشراكهم ، فأخبر أنهم في أنفسهم { يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ } أي : يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير في طلب ما يحبه . فيؤثرون الضلال على الهدى ، والكفر على الإيمان ، والشقاء على السعادة ، ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ } .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّواْ السّبِيلَ } . .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله جلّ ثناؤه : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ } فقال قوم : معناه : ألم تخبر . وقال آخرون : معناه : ألم تعلم . والصواب من القول في ذلك : ألم تر بقلبك يا محمد علما إلى الذين أوتوا نصيبا . وذلك أن الخبر والعلم لا يجليان رؤية ، ولكنه رؤية القلب بالعلم لذلك كما قلنا فيه .
وأما تأويل قوله : { إلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتَابِ } فإنه يعني : إلى الذين أُعطوا حظّا من كتاب الله ، فعلموه . وذكر أن الله عنى بذلك طائفة من اليهود الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرونَ الضّلالَةَ ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلّوا السّبِيلَ } فهم أعداء الله اليهود ، اشتروا الضلالة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ } إلى قوله : { يحَرّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } قال : نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب اليهودي .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظمائهم يعني : من عظماء اليهود إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال : راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ! ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ } . . . إلى قوله : { فَلا يُؤْمِنُونَ إلاّ قَلِيلاً } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق بإسناده عن ابن عباس ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَشْتَرونَ الضّلالَةَ ويُرِيدونَ أنْ تَضِلّوا السّبِيلَ واللّهُ أعْلَمُ بأعْدَائِكُمْ وكَفَى باللّهِ وَلِيّا وكَفَى باللّهِ نَصِيرا } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ } : اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يختارون الضلالة ، وذلك الأخذ على غير طريق الحق وركوب غير سبيل الرشد والصواب ، مع العلم منهم بقصد السبيل ومنهم الحقّ . وإنما عنى الله بوصفهم باشترائهم الضلالة مقامهم على التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وتركهم الإيمان به ، وهم عالمون أن السبيل الحقّ الإيمان به وتصديقه بما قد وجدوا من صفته في كتبهم التي عندهم .
وأما قوله : { ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلّوا السّبِيلَ } يعني بذلك تعالى ذكره : ويريد هؤلاء اليهود الذين وصفهم جلّ ثناؤه بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب أن تضلوا أنتم يا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به أن تضلوا السبيل ، يقول : أن تزولوا عن قصد الطريق ، ومحجة الحقّ ، فتكذبوا بمحمد ، وتكونوا ضلالاً مثلهم . وهذا من الله تعالى ذكره تحذير منه عباده المؤمنين أن يستنصحوا أحدا من أعداء الإسلام في شيء من أمر دينهم ، أو أن يسمعوا شيئا من طعنهم في الحقّ .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا } من رؤية البصر أي ألم تنظر إليهم ، أو القلب . وعدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء . { نصيبا من الكتاب } حظا يسيرا من علم التوراة لأن المراد أحبار اليهود . { يشترون الضلالة } يختارونها على الهدى ، أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه ، أو حصوله لهم بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : يأخذون الرشى ويحرفون التوراة . { ويريدون أن تضلوا } أيها المؤمنون . { السبيل } سبيل الحق .
استئناف كلام راجع إلى مهيع الآيات التي سبقت من قوله : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [ النساء : 36 ] فإنّه بعد نذارة المشركين وجّه الإنذار لأهل الكتاب ، ووقعت آيات تحريم الخمر وقت الصلاة ، وآيات مشروعية الطهارة لها فيما بينهما ، وفيه مناسبة للأمر بترك الخمر في أوقات الصلوات والأمرِ بالطهارة ، لأنّ ذلك من الهدى الذي لم يسبق لليهود نظيره ، فهم يحسدون المسلمين عليه ، لأنّهم حرموا من مثله وفرطوا في هدى عظيم ، وأرادوا إضلال المسلمين عَداء منهم .
وجملة { ألم تر } الى { الكتاب } جملة يقصد منها التعجيب ، والاستفهام فيها تقريري عن نفي فعل لا يودّ المخاطب انتفاءه عنه ، ليكون ذلك محرّضا على الإقرار بأنه فعَل ، وهو مفيد مع ذلك للتعجيب ، وتقدّم نظيرها في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم } في سورة آل عمران ( 23 ) .
وجملة يشترون حالية فهي قيْد لجملة { ألم تر } ، وحالة اشترائهم الضلالة وإن كانت غير مشاهدة بالبصر فقد نزّلت منزلة المشاهَد المرئيّ ، لأنّ شهرة الشيء وتحقّقه تجعله بمنزلة المَرْئيّ .
والنصيب تقدّم عند قوله : { وللرجال نصيب } [ النساء : 7 ] في هذه السورةِ ، وفي اختياره هنا إلقاء احتمالِ قلّته في نفوس السامعين ، وإلاّ لقيل : أوتوا الكتاب ، وهذا نظير قوله تعالى بعد هذا { فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم } [ النساء : 141 ] ، أي نصيب من الفتح أو من النصر .
والمراد بالكتاب التوراة ، لأنّ اليهود هم الذين كانوا مختلطين مع المسلمين بالمدينة ، ولم يكن فيها أحد من النصارى .
والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء ، لأنّ المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبائعيْن ، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه ، هكذا اعتبرَ أهل العرف الذي بنيت عليه اللغة وإلاّ فإنّ كلا المتبايعين مشتر وشَار ، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازاً على الاختيار ، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } في سورة البقرة ( 16 ) . وهذا يدلّ على أنّهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلّة جدوى عِلمهم عليهم .
وقوله : { ويريدون أن تضلوا السبيل } أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء ، كقوله : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق } [ البقرة : 109 ] . فالإرادة هنا بمعنى المحبّة كقوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الدين من قبلكم } . ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل ، أي يسعون لأن تضلّوا ، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان ، وقد تقدّم آنفاً قوله تعالى : { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيماً } [ النساء : 27 ] .