29 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
امتثال العبد لتقوى ربه عنوان السعادة ، وعلامة الفلاح ، وقد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا والآخرة شيئا كثيرا ، فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة أشياء ، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها :
الأول : الفرقان : وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، والحلال والحرام ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة .
الثاني والثالث : تكفير السيئات ، ومغفرة الذنوب ، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر ، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر .
الرابع : الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه . وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى : { يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إَن تَتّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } . .
يقول تعالى ذكره : يا أيّها الّذِينَ صدقوا الله ورسوله إنْ تَتّقُوا اللّهَ بطاعته ، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، وترك خيانته ، خيانة رسوله وخيانة أماناتكم يَجْعَلْ لَكُم فُرْقانا : يقول : يجعل لكم فصلاً وفرقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم المشركين بنصره إياكم عليهم ، وإعطائكم الظفر بهم . ويُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ يقول : ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه . ويَغْفِرْ لَكُمْ يقول : ويغطيها ، فيسترها عليكم ، فلا يؤاخذكم بها . وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ يقول : والله الذي يفعل ذلك بكم ، له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه بفعله ذلك وفعل أمثاله ، وإن فعله جزاء منه لعبده على طاعته إياه ، لأنه الموفق عبده لطاعته التي اكتسبها حتى استحقّ من ربه الجزاء الذي وعده عليها .
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا فقال بعضهم : مخرجا ، وقال بعضهم : نجاة ، وقال بعضهم : فصلاً . وكلّ لك متقارب المعنى وإن اختلفت العبارات عنها ، وقد بينت صحة ذلك فيما مضى قبل بما أغني عن إعادته . ذكر من قال : معناه المخرج :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور : عن مجاهد : إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : مخرجا .
قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : مخرجا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عن جابر ، عن مجاهد : فُرْقانا : مخرجا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فُرْقانا قال : مخرجا في الدنيا والاَخرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هانىء بن سعيد ، عن حجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فُرْقانا قال : الفرقان المخرج .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فُرْقانا يقول : مخرجا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن مجاهد : فُرْقانا : مخرجا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء البصريّ ، قال : حدثنا زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : فُرْقانا قال : مخرجا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال : سمعت عبيدا يقول : سمعت الضحاك يقول : فُرْقانا : مخرجا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد ، عن زهير ، عن جابر : عن عكرمة ، قال : الفرقان : المخرج . ذكر من قال : معناه النجاة :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عكرمة : إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : نجاة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن رجل ، عن عكرمة ومجاهد ، في قوله : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال عكرمة : المخرج ، وقال مجاهد : النجاة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : نجاة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا يقول : يجعل لكم نجاة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا : أي نجاة .
. . . يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا قال : فرقان يفرق في قلوبهم بين الحقّ والباطل ، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا : أي فصلاً بين الحقّ والباطل ، يظهر به حقكم ويخفي به باطل من خالفكم .
والفرقان في كلام العرب مصدر ، من قولهم : فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما قَرْقا وفُرْقانا .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ، أو مخرجا من الشبهات ، أو نجاة عما تحذرون في الدارين ، أو ظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح . { ويكفّر عنكم سيئاتكم } ويسترها . { ويغفر لكم } بالتجاوز والعفو عنكم . وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر . وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم . { والله ذو الفضل العظيم } تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان ، وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاما على عمل .
وقوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } الآية ، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له ، و { ويجعل لكم فرقاناً } معناه فرقاً بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم ، و «الفرقان » مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما ، ومنه قوله { يوم الفرقان }{[5295]} وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان ها هنا بالنجاة ، وقال السدي ومجاهد معناه : مخرجاً ، ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه ، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون فمن ذلك قول مزرد بن ضرار : [ الخفيف ]
بادر الأفقُ أنْ يَغيبَ فلمّا*** أَظْلَمَ اللّيلُ لمْ يجدْ فُرْقَانا{[5296]}
ما لك من طولِ الأسَى فُرقانُ*** بعد قطينٍ رحلوا وبانوا{[5297]}
وكيف أرجّي الخلدَ والموتُ طالبي*** وماليَ من كأسِ المنيَّةِ فرقان{[5298]}
استيناف ابتدائي متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه } [ الأنفال : 20 ] الآية وما بعده من الآيات إلى هُنا .
وافتتح بالنداء للاهتمام ، كما تقدم آنفاً .
وخوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيراً لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفاً في نظائِره ، وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه ، بالترغيب في التقوى وبيان حسن عاقبتها وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى .
ففعل الشرط مراد به الدوام ، فإنهم كانوا متقين ، ولكنهم لما حُذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة في مقابل ذلك .
ولقد بَدَا حُسنُ المناسبة إذ رُتبتِ على المنهيات تحذيراتٌ من شرور وأضرار من قوله : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم } [ الأنفال : 22 ] وقوله { واتقوا فتنة } [ الأنفال : 25 ] الآية ، ورتب على التقوى : الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل .
والفرقان أصله مصدر كالشكران والغُفران والبُتان ، وهو ما يَفرِق أي يميَز بين شيئين متشابهين ، وقد أطلق بالخصوص على أنواع من التفرقة فأطلق على النصر ، لأنه يفرق بين حاليْن كانا محتَمَلَيْن قبلَ ظهور النصر ، ولُقب القرآنُ بالفرقان ؛ لأنه فَرّقَ بين الحق والباطل ، قال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] ولعل اختياره هنا لقصد شموله ما يصلح للمقام من معانيه ، فقد فُسّر بالنصر ، وعن السدي ، والضحاك ، ومجاهد ، الفرقانُ المَخْرَج ، وفي « أحكام ابن العربي » ، عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب أنهم سألوا مالكاً عن قوله تعالى : { يجعل لكم فرقاناً } قال مَخَرجاً ثم قرأ : { ومن يَتَقِ الله يَجْعَلْ له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [ الطلاق : 3 ] ، وفسر بالتمييز بينهم وبين الكفار في الأحوال التي يُستحب فيها التمايز في أحوال الدنيا ، فيشمل ذلك أحوالَ النفس : من الهداية ، والمعرفة ، والرضى ، وانشراح القلب ، وإزالةِ الحِقد والغل والحسد بينهم ، والمكرِ والخداعِ وذميمِ الخلائق .
وقد أشعر قوله : { لكم } أن الفرقان شيء نافع لهم فالظاهر أن المراد منه كل ما فيه مخرج لهم ونجاة من التباس الأحوال وارتباك الأمور وانبهام المقاصد ، فيؤول إلى استقامة أحوال الحياة ، حتى يكونوا مطمئني البالِ منشرحي الخاطر وذلك يستدعي أن يكونوا : منصورين ، غالبين ، بُصراء بالأمور ، كَمَلة الأخلاق سائرين في طريق الحق والرشد ، وذلك هو ملاك استقامة الأمم ، فاختيار الفرقان هنا ، لأنه اللفظ الذي لا يؤدي غيرُه مُؤداه في هذا الغرض وذلك من تمَام الفصاحة .
والتقوى تشمل التوبة ، فتكفير السيئات يصح أن يكون المراد به تكفير السيئات الفارطة التي تعقبها التقوى . ومفعول { يغفر لكم } ، محذوف وهو ما يستحق الغفران وذلك هو الذنب ، ويتعين أن يحمل على نوع من الذنوب . وهو الصغائر التي عبر عنها باللم ، ويجوز العكس بأن يراد بالسيئات الصغائِر وبالمغفرة مغفرة الكبائر بالتوبة المعقبَة لها ، وقيل التكفير الستر في الدنيا ، والغفران عدم المؤاخذة بها في الآخرة ، والحاصل أن الإجمال مقصود للحث على التقوى وتحقق فائِدتها والتعريض بالتحذير من التفريط فيها ، فلا يحصل التكفير ولا المغفرة بأي احتمال .
وقوله : { والله ذو الفضل العظيم } تذييل وتكميل وهو كناية عن حصول منافع أخرى لهم من جراء التقوى .