17- أفَمَنْ كان يسير في حياته على بصيرة وهداية من ربه ، ويطلب الحق مخلصاً ، معه شاهد بالصدق من الله وهو القرآن ، وشاهد من قبله وهو كتاب موسى الذي أنزله الله قدوة يتبع ما جاء به ، ورحمة لمتبعيه ، كمن يسير في حياته على ضلال وعماية ، فلا يهتم إلا بمتاع الدنيا وزينتها ؟ ! أولئك الأولون هم الذين أنار الله بصائرهم ، يؤمنون بالنبي والكتاب الذي أنزل عليه . ومن يكفر به ممن تألبوا على الحق وتحزّبوا ضده ، فالنار موعده يوم القيامة . فلا تكن - أيها النبي - في شك من هذا القرآن ، إنه الحق النازل من عند ربك ، لا يأتيه الباطل ، ولكن أكثر الناس تضلّهم الشهوات ، فلا يؤمنون بما يجب الإيمان به .
{ 17 } { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }
يذكر تعالى ، حال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ورثته القائمين بدينه ، وحججه الموقنين بذلك ، وأنهم لا يوصف بهم غيرهم ولا يكون أحد مثلهم ، فقال : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } بالوحي الذي أنزل{[428]} الله فيه المسائل المهمة ، ودلائلها الظاهرة ، فتيقن تلك البينة .
{ وَيَتْلُوهُ } أي : يتلو هذه البينة والبرهان برهان آخر { شَاهِدٌ مِنْهُ } وهو شاهد الفطرة المستقيمة ، والعقل الصحيح ، حين شهد حقيقة ما أوحاه الله وشرعه ، وعلم بعقله حسنه ، فازداد بذلك إيمانا إلى إيمانه .
{ و } ثم شاهد ثالث وهو { كِتَابُ مُوسَى } التوراة التي جعلها الله { إِمَامًا } للناس { وَرَحْمَةً } لهم ، يشهد لهذا القرآن بالصدق ، ويوافقه فيما جاء به من الحق .
أي : أفمن كان بهذا الوصف قد تواردت عليه شواهد الإيمان ، وقامت لديه أدلة اليقين ، كمن هو في الظلمات والجهالات ، ليس بخارج منها ؟ !
لا يستوون عند الله ، ولا عند عباد الله ، { أُولَئِكَ } أي : الذين وفقوا لقيام الأدلة عندهم ، { يُؤْمِنُونَ } بالقرآن حقيقة ، فيثمر لهم إيمانهم كل خير في الدنيا والآخرة .
{ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } أي : القرآن { مِنَ الْأَحْزَابِ } أي : سائر طوائف أهل الأرض ، المتحزبة على رد الحق ، { فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } لا بد من وروده إليها { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ منه } أي : في أدنى شك { إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ } إما جهلا منهم وضلالا ، وإما ظلما وعنادا وبغيا ، وإلا فمن كان قصده حسنا وفهمه مستقيما ، فلا بد أن يؤمن به ، لأنه يرى ما يدعوه إلى الإيمان من كل وجه .
وبعد أن بين - سبحانه - حال الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها ، أتبع ذلك بيان حال الذين يريدون الحق والصواب فيما يفعلون ويتركون فقال - تعالى - :
{ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ . . . } .
قال صاحب المنار ما ملخصه : البينة ما تبين به الحق من كل شئ بحسبه كالبرهان فى العقليات والنصوص فى النقليات ، والخوارق فى الإِلهيات ، والتجارب فى الحسيات ، والشهادات فى القضائيات ، والاستقراء فى إثبات الكليات ، وقد نطق القرآن بأن الرسل قد جاءوا أقوامهم بالبينات وأن كل نبى منهم كان يحتج على قومه بأنه على بينة من ربه وأنه جاءهم ببينة من ربهم ، كما ترى فى قصصهم فى هذه السورة وفى غيرها . .
وقوله : { وَيَتْلُوهُ . . . } من التلو بمعنى الاقتفاء والاتباع . يقال : تلا فلان فلانا إذا كان تابعا له ومقتفيا أثره . والمراد به هنا : التأييد والتقوية .
وللمفسرين أقوال متعددة فى المقصود بقوله - تعالى - { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } وبقوله - سبحانه - { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } .
وفى مرجع الضمائر فى قوله " ربه - ويتلوه - ومنه " . . .
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب أن يكون المقصود بقوله - تعالى - { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنون .
وبقوله تعالى - { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } القرآن الكريم الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليكون معجزة له شاهدة بصدقه .
والضمير فى قوله من ربه يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى قوله { وَيَتْلُوهُ } يعود إلى القرآن الكريم ، وفى قوله { منه } يعود إلى الله - تعالى - .
وعلى هذا القول يكون المعنى : أفمن كان على حجة واضحة من عند ربه تهديه إلى الحق والصواب فى كل أقواله وأفعاله ، وهو هذا الرسول الكريم وأتباعه ويؤيده ويقويه فى دعوته شاهد من ربه هو هذا القرآن الكريم المعجز لسائر البشر . .
أفمن كان هذا شأنه كمن ليس كذلك ؟
أو أفمن كان هذا شأنه كمن استحوذ عليه الشيطان فجعله لا يريد إلا الحياة الدنيا وزينتها ؟ كلا إنهما لا يستويان .
وشهادة القرآن الكريم بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته ، تتجلى فى إعجازه ، فقد تحدى النبى - صلى الله عليه وسلم - أعداءه أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا مع فصاحتهم وبلاغتهم ، فثبت بذلك أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - .
وإنما جعلنا هذا القول أقرب الأقوال إلى الصواب ، لأنه هو الذى يتسق مع ما يفيده ظاهر الآية الكريمة ، ولأننا عندما نقرأ هذه السورة الكريمة وغيرها ، نجد الرسل الكرام كثيرا ما يؤكدون لأقوامهم - أنهم - أى الرسل على بينة من ربهم .
فهذا نوح - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ }
وهذا صالح - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ . . . } وهذا شعيب - عليه السلام - يقول لقومه : { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً . . . } وهكذا نجد كل نبى يؤكد لقومه أنه جاءهم على بينة من ربه وما دام الأمر كذلك فسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل من جاء قومه على بينة من ربه ، والمؤمنون به - صلى الله عليه وسلم - يقتدرون به فى ذلك .
ويرى بعضهم أن المراد بالبينة القرآن الكريم ، وبالشاهد إعجازه ، وبالموصول مؤمنوا أهل الكتاب ، وأن الضمير فى قوله " ويتلوه - ومنه " يعودان إلى القرآن الكريم وإعجازه .
وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإِسلام وهو القرآن ، ويؤيده ويقويه - أى القرآن - شاهد منه على كونه من عند الله وهذا الشاهد هو إعجازه للبشر عن أن يأتوا بسورة من مثله .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } : أصل البينة الدالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة ، وتطلق على الدليل مطلقا . . والتنوين فيها للتعظيم ، أى : بيئة عظيمة الشأن والمراد بها القرآن ، وباعتبار ذلك أو البرهان جاء الضمير الراجع إليها فى قوله { وَيَتْلُوهُ } أى يتبعه { شَاهِدٌ } عظيم يشهد بكونه من عند الله وهو إعجازه . .
ومعنى كون ذلك الشاهد تابعا له : أنه وصف له لا ينفك عنه . . وكذا الضمير فى " منه " - يعود إلى القرآن - وهو متعلق بمحذوف وقع صفته لشاهد ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه . .
ومن المفسرين من يرى أن المراد بالبيئة القرآن الكريم - أيضا - ويرى أن المراد بالشاهد جبريل - عليه السلام - وأن قوله - سبحانه - { وَيَتْلُوهُ } من التلاوة بمعى القراءة لا من التَّلْوِ بمعنى الاتباع .
وعلى هذا الرأى يكون المعنى : أفمن كان على برهان جلى من ربه يدل على حقية الإِسلام وهو القرآن ويتلوا هذا القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاهد من الله - تعالى - هو جبريل - عليه السلام - .
فالضمير فى { وَيَتْلُوهُ } على هذا الرأى يعود إلى جبريل - عليه السلام - وفى " منه " يعود على الله تعالى - .
وهناك أقوال أخرى فى تفسير الآية الكريمة رأينا من الخير أن نضرب عنها صفحا لضعفها .
وقوله { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً } دليل آخر على صدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته . وهو معطوف على شاهد والضمير فى قوله { وَمِن قَبْلِهِ .
. . } يعود على شاهد - أيضا - .
وقوله { إِمَاماً وَرَحْمَةً } منصوبان على الحالية من قوله { كِتَابُ } .
والمعنى ومن قبل هذا الشاهد على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن الكريم أنزل الله - تعالى - على موسى كتابه التوراة مشتملا على صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - و { إِمَاماً } يؤتم به فى أمور الدين والدنيا ورحمة لبنى إسرائيل من العذاب إذا ما آمنوا به واتبعوا تعاليمه .
قال الشوكانى : وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى مع كونه متأخرا فى الوجود لكونه - أى الشاهد بمعنى المعجز - وصفا لازما غير مفارق ، فكان أغرق فى الوصفية من كتاب موسى .
وهى شهادة كتاب موسى وهو التوراة أنه بشر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بأنه رسول من الله - تعالى - .
واسم الإِشارة فى قوله { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعود إلى الموصوفين بأنهم على بينة من ربهم وهم النبى - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنون الصادقون .
أى : أولئك الموصوفون بأنهم على بينة من ربهم يؤمنون بأن الإسلام هو الدين الحق ، وبأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول صدق وبأن القرآن من عند الله - تعالى - وحده .
فالضمير فى قوله { به } يعود على كل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ويدخل فى ذلك دخولا أوليا القرآن الكريم .
وقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } بيان لسوء عاقبة الكافرين بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد بيان حسن عاقبة المؤمنين به .
والأحزاب جمع حزب وهم الذين تخربوا وتجمعو من أهل مكة وغيرهم لمحاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته .
أى : ومن يكفر بهذا القرآن وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هدايات فإن نار جهنم هى المكان الذى ينتظره وينتظر كل متحزب ضد دعوته - صلى الله عليه وسلم - .
وفى جعل النار موعدا لهذا الكافر بالقرآن إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من ألوان العذاب الذى يجعله لا يموت فيها ولا يحيا .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالحض على النظر الصحيح الذى يؤدى إلى اليقين بن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذى لا يشو به باطل فقال - تعالى - : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } .
أى : فلا تك - أيها العاقل - فى شك من أن هذا القرآن من عند الله ومن أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الصدق ، بل عليك أن تعتقد اعتقادا جازما فى صحة ذلك ، لأن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الثابت من عند ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بذلك لا نطماس بصائرهم ، ولتقليدهم لآبائهم ، ولإِيثارهم الغى على الرشد .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد ميزت بين من كان على الحق ومن كان على الباطل وساقت حشودا من الأدلة الدالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته ، وعلى صحة ما عليه أتباعه ، وأمرتهم بالثبات على الحق الذى آمنوا به ، وتوعدت المتحزبين ضد دعوة الإِسلام بنار جهنم التى هى بئس القرار .
هذا ، وهذه الآية الكريمة هى من الآيات التى قيل بأنها مدنية ، وبمراجعتنا لتفسيرها لم نجد ما يؤيد بذلك ، بل الذى نراه أن السورة كلها مكية كما سبق أن أشرنا إلى ذلك فى المقدمة .
بطل على الفعل { أفمن كان على بيّنة من ربه } برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره ، والهمزة لإنكار أن يعقب من هذا شأنه هؤلاء المقصرين هممهم وأفكارهم على الدنيا وأن يقارب بينهم في المنزلة ، وهو الذي أغنى عن ذكر الخبر وتقديره أفمن كان على بينة كمن كان يريد الحياة الدنيا ، وهو حكم يعم كل مؤمن مخلص . وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب . { ويتلوه } ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل . { شاهدٌ منه } شاهد من الله يشهد بصحته وهو القرآن . { ومن قبله } ومن قبل القرآن . { كتاب موسى } يعني التوراة فإنها أيضا تتلوه في التصديق ، أو البينة هو القرآن { ويتلوه } من التلاوة والشاهد جبريل ، أو لسان الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظه . والضمير في { يتلوه } إما لمن أو للبينة باعتبار المعنى { ومن قبله كتاب موسى } جملة مبتدأة . وقرئ { كتاب } بالنصب عطفا على الضمير في { يتلوه } أي يتلو القرآن شاهد ممن أن على بينة دالة على أنه حق كقوله : { وشهد شاهد من بني إسرائيل } ويقرأ من قبل القرآن التوراة . { إماماً } كتابا مؤتما به في الدين . { ورحمة } على المنزل عليهم لأنه الوصلة إلى الفوز بخير الدارين . { أولئك } إشارة إلى من كان على بينة . { يؤمنون به } بالقرآن . { ومن يكفر به من الأحزاب } من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم . { فالنار موعده } يردها لا محالة . { فلا تك في مرية منه } من الموعد ، أو القرآن وقرئ " مُريةٍ " بالضم وهما الشك . { إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } لقلة نظرهم واختلال فكرهم .
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده }
أغلقت معاني هذه الآية لكثرة الاحتمالات التي تعتورها من جهة معاد الضمائر واسم الإشارة ، ومن جهة إجمال المراد من الموصول ، وموقع الاستفهام ، وموقع فاء التفريع . وقد حكى ابن عطية وجوهاً كثيرة في تفسيره بما لم يلخصه أحد مثله وتبعه القرطبي في حكاية بعضها . والاختلاف في مَاصدق { مَن كان على بينة من ربّه } . وفي المراد من { بينة من ربه } ، وفي المعنّي ب { يتلوه } . وفي المراد من { شاهد } . وفي معاد الضمير المنصوب في قوله : { يتلوه } . وفي معنى ( منْ ) من قوله : { منه } ، وفي معاد الضمير المجرور ب ( مِن ) . وفي موقع قوله : { مِن قبله } من قوله : { كتاب موسى } . وفي مرجع اسم الإشارة من قوله : { أولئك يؤمنون به } . وفي معاد الضمير المجرور بالباء من قوله : { يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب } الخ فهذه مفاتيح تفسير هذه الآية .
والذي تخلّص لي من ذلك ومما فتح الله به مما هو أوضح وجْهاً وأقرب بالمعنى المقصود شِبْهاً : أن الفاء للتفريع على جملة { أم يقولون افتراه إلى قوله : فهل أنتم مسلمون } [ هود : 13 ، 14 ] وأن ما بينهما اعتراض لتقرير توغلهم في المكابرة وابتعادهم عن الإيمان ، وهذا التفريع تفريع الضدّ على ضده في إثبات ضد حكمه له ، أي إن كان حال أولئك المكذبين كما وُصف فثَمّ قوم هم بعكس حالهم قد نفعتهم البيّنات والشواهد ، فهم يؤمنون بالقرآن وهم المسلمون وذلك مقتضى قوله : { فهل أنتم مسلمون } [ هود : 14 ] ، أي كما أسلم من كانوا على بيّنة من ربهم منكم ومن أهل الكتاب .
والهمزة للاستفهام التقريري ، أي إن كفر به هؤلاء أفيُؤمِنُ به من كان على بينة من ربه ، وهذا على نحو نظم قوله تعالى : { أفمن حَق عليه كلمة العذاب أفأنت تُنقذ مَن في النّار } [ الزمر : 19 ] أي أنت تنقذ من النار الذي حق عليه كلمة العذاب .
و { مَن كان على بيّنة } لا يراد بها شخص معيّن . فكلمة ( مَن ) هنا تكون كالمعرّف بلام العهد الذهني صادقة على من تحققت له الصلة ، أعني أنه على بينة من ربه . وبدون ذلك لا تستقيم الإشارة . وإفراد ضمائر { كان على بيّنة من ربه } مراعاةٌ للفظ ( مَن ) الموصولة وذلك أحد استعمالين . والجمع في قوله : { أولئك يؤمنون } مراعاة لمعنى ( مَن ) الموصولة وذلك استعمال آخر . والتقدير : أفمن كانوا على بينة من ربهم أولئك يؤمنون به . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } في سورة [ القتال : 14 ] .
والذين هم على بينة من ربهم يجوز أن يكونوا النصارى فقط فإنهم كانوا منتشرين في العرب ويعرف أهل مكة كثيراً منهم ، وهم الذين عرفوا أحقية الإسلام مثل ورقة بن نوفل ودحية الكلبي ، ويجوز أن يراد النصارى واليهود مثل عبد الله بن سلام ممّن آمن بعد الهجرة فدلوا على تمكنهم من معرفة البينة لصحة أفهامهم ولوضوح دلالة البيّنة ، فأصحابها مؤمنون بها .
والمراد بالبيّنة حجة مجيء الرسول المبشّر به في التوراة والإنجيل . فكون النصارى على بينة من ربهم قبل مجيء الإسلام ظاهر لأنهم لم يكذّبُوا رسولاً صادقاً . وكون اليهود على بيّنة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولاً مبشّراً به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى عليه السلام ليسوا على بيّنة . فالمراد على بيّنة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله : { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } [ هود : 14 ] ، ويعينها اللاحق من قوله : { أولئك يؤمنون به } أي بالقرآن .
و ( مِن ) في قوله : { من ربه } ابتدائية ابتداء مجازياً . ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لمَا مَعكم لتُؤمنن به ولتنصرنه } [ آل عمران : 81 ] وقوله : { الذينَ يَتبعون الرسول النّبيء الأمّيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] . وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البيّنة المذكورة هنا من الأنجيل ، ويقوي أن المراد ب { من كان على بينة من ربه } النصارى .
وفعل ( يتلوه ) مضارع التّلو وهو الاتّباع وليس من التلاوة ، أي يتبعه . والاتباع مستعار للتّأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له . وضمير الغائب المنصوب في قوله : { يتلوه } عائد إلى { من كان على بينة من ربه } .
والمراد ب { شاهد منه } شاهد من ربه ، أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه المعاندين عن الإتيان بعشر سور مثله كان حجة على أنه آت من جانب الله .
و { مِن } ابتدائية . وضمير { منه } عائد إلى { ربه } . ويجوز أن يعود إلى { شاهد } أي شاهد على صدقه كائن في ذاته وهو إعجازه إياهم عن الإتيان بمثله .
و { من قبله } حال من { كتاب موسى } . و { كتاب موسى } عطف على { شاهد منه } والمراد تلوه في الاستدلال بطريق الارتقاء فإن النصارى يهتدون بالإنجيل ثم يستظهرون على ما في الإنجيل بالتّوراة لأنّها أصله وفيها بيانه ، ولذلك لما عطف { كتاب موسى } على { شاهد } الذي هو معمول { يتلوه } قيد كتاب موسى بأنه من قبله ، أي ويتلوه شاهد منه . ويتلوه كتاب موسى حالة كونه من قبْل الشاهد أي سابقاً عليه في النزول . وإذا كان المراد ب { من كان على بيّنة من ربّه } النصارى خاصة كان لذكر { كتاب موسى } إيماء إلى أن كتاب موسى عليه السلام شاهد على صدق محمّد صلى الله عليه وسلم ولم يُذكر أهل ذلك الكتاب وهم اليهود لأنهم لم يكونوا على بيّنة من ربّهم كاملةٍ من جهة عدم تصديقهم بعيسى عليه السلام .
و { إماماً ورحمة } حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للنّاس يعملون بأحكامها فيرحمهم الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله .
والإشارة ب { أولئك } إلى { من كان على بينة من ربّه } ، أي أولئك الذين كانوا على بيّنة من ربهم يؤمنون بالقرآن وليسوا مثلكم يا معشر المشركين ، وذلك في معنى قوله تعالى : { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } [ الأنعام : 89 ] .
وإقحام { أولئك } هنا يشبه إقحام ضمير الفصل ، وفيه تنبيه على أن ما بعده من الخبر مسبب على ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم على بينة من ربهم معضدة بشواهد من الأجيل والتوراة .
وجملة { أولئك يؤمنون به } خبر { من كان على بينة من ربه } .
وضمير ( به ) عائد إلى القرآن المعلوم من المقام أو من تقدم ضميره في قوله { أم يقولون افتراه } [ هود : 13 ] .
وبه ينتظم الكلام مع قوله : { أم يقولون افتراه } إلى قوله : { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } [ هود : 13 ، 14 ] أي يؤمنون بكون القرآن من عند الله .
والباء للتعدية لا للسببية ، فتعدية فعل ( يؤمنون ) إلى ضمير القرآن من باب إضافة الحكم إلى الأعيان وإرادة أوصافها مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] ، أي يؤمنون بما وصف به القرآن من أنه من عند الله .
وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها { فهل أنتم مسلمون } [ هود : 14 ] فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بيّنة من ربّهم مؤيّدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى عليه السلام من قَبْل بيّنتهم .
وقريب من معنى الآية قوله تعالى : { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } [ الأحقاف : 10 ] فاستقام تفسير الآية تمام الاستقامة ، وأنت لا يعوزك تركيب الوجوه التي تأول بها المفسرون مِمّا يخالف ما ذكرناه كُلاً أو بَعضاً فبصَرك فيها حديد ، وبيدك لفتح مغالقها مَقاليد .
وجملة { ومن يكفر به من الأحزاب } عطف على جملة { أفمن كان على بيّنة من ربّه } لأنه لمّا حرض أهل مكة على الإسلام بقوله : { فهل أنتم مسلمون } [ هود : 14 ] ، وأراهم القِدْوة بقوله : { أولئك يؤمنون به } ، عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال : { ومن يكفر به من الأحزاب } ، وأعرض عما تبين له من بيّنة ربه وشواهد رسله فالنّار موعده .
والأحزاب : هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمْرٌ يجتمعون عليه ، فالمشركون حزب ، واليهود حزب ، والنصارى حزب ، قال تعالى : { كذبت قبلهم قوم نوحٍ وعادً وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة أولئك الأحزاب } [ ص : 12 ، 13 ] .
والباء في { يكفر به } كالباء في { يؤمنون به } .
والموعد : ظرف للوعد من مكان أو زمان .
وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعيّن لعمل أن يعين به بوعد سابق .
{ فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } .
تفريع على جملة { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم .
والنهي مستعمل كناية تعريضية بالكافرين بالقرآن لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ونقصه ، فمن لوازمه ذم المتلبس بالمنهي عنه . ولما كان المخاطب غير مظنة للتلبس بالمنهي عنه فيُطلبَ منه تركه ويكون النهيُ طلبَ تحصيل الحاصل ، تعيّنَ أن يكون النهي غير مراد به الكفّ والإقلاع عن المنهي عنه فيكون مستعملاً في لازم ذلك بقرينة المقام ، ومما يزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى في سورة آلم [ السجدة : 23 ] { ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه } فإنه لو كان المقصود تحذير النّبيء صلى الله عليه وسلم من الامتراء في الوحي لما كان لتفريع ذلك على إيتاء موسى عليه السلام الكتاب ملازمة ، ولكن لما كان المراد التعريض بالذين أنكروا الوحي قدّم إليهم احتجاجَ سبق الوحي لموسى عليه السلام .
و { في } للظرفية المجازية المستعملة في تمكن التلبس نظراً لحال الذين استعمل النهي كناية عن ذمّهم فإنهم متلبسون بمزية شديدة في شأن القرآن .
وضميرا الغيبة عائدان إلى القرآن الذي عاد إليه ضمير { افتراه } [ هود : 13 ] .
وجملة { إنه الحق من ربك } مستأنفة تأكيد لما دلت عليه جملة { فلا تَكُ في مرية منه } من أنه لوضوح حقيته لا ينبغي أن يمترى في صدقه . وحرف التأكيد يقوم مقام الأمر باعتقاد حقيته لما يدل عليه التأكيد من الاهتمام .
والمرية : الشك . وهي مرادفة الامتراء المتقدم في أول الأنعام . واختير النهي على المرية دون النهي عن اعتقاد أنه كذب كما هو حال المشركين ، لأن النهي عن الامتراء فيه يقتضي النهي عن الجزم بالكذب بالأوْلى ، وفيه تعريض بأن ما فيه المشركون من اليقين بكذب القرآن أشد ذمّاً وشناعة .
و { مِن } ابتدائية ، أي في شك ناشىء عن القرآن ، وإنما ينشأ الشك عنه باعتبار كونه شكّاً في ذاته وحقيقته لأن حقيقة القرآنية أنه كتاب من عند الله ، فالشك الناشىء على نزوله شك في مجموع حقيقته . وهذا مثل الضمير في قوله : { يؤمنون به } من غير احتياج إلى تقدير مضاف يؤول به إلى إضافة الحكم إلى الأعيان المراد أوصافها .
وتعريف { الحق } لإفادة قصر جنس الحق على القرآن . وهو قصر مبالغة لكمال جنس الحق فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره مثل قولك : حاتم الجواد .
والاستدراك بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } ناشيء على حكم الحصر ، فإنّ الحصر يقتضي أن يؤمن به كل من بلغه ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
والإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين .
وحذف متعلق { يؤمنون } لأن المراد انتفاء حقيقة الإيمان عنهم في كل ما طلب الإيمان به من الحق ، أي أن في طباع أكثر الناس تغليب الهوى على الحق فإذا جاء ما يخالف هواهم لم يؤمنوا .