ثم حذر قومه ونصحهم ، وخوفهم عذاب الآخرة ، ونهاهم عن الاغترار بالملك الظاهر ، فقال : { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } أي : في الدنيا { ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ } على رعيتكم ، تنفذون فيهم ما شئتم من التدبير ، فهبكم حصل لكم ذلك وتم ، ولن يتم ، { فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ } أي : عذابه { إِنْ جَاءَنَا } ؟ وهذا من حسن دعوته ، حيث جعل الأمر مشتركًا بينه وبينهم بقوله : { فَمَنْ يَنْصُرُنَا } وقوله : { إِنْ جَاءَنَا } ليفهمهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه ، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه .
ف { قَالَ فِرْعَوْنُ } معارضًا له في ذلك ، ومغررًا لقومه أن يتبعوا موسى : { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } وصدق في قوله : { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى } ولكن ما الذي رأى ؟
رأى أن يستخف قومه فيتابعوه ، ليقيم بهم رياسته ، ولم ير الحق معه ، بل رأى الحق مع موسى ، وجحد به مستيقنًا له .
وكذب في قوله : { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ } فإن هذا قلب للحق ، فلو أمرهم باتباعه اتباعًا مجردًا على كفره وضلاله ، لكان الشر أهون ، ولكنه أمرهم باتباعه ، وزعم أن في اتباعه اتباع الحق وفي اتباع الحق ، اتباع الضلال .
ثم أخذ فى تذكيرهم بنعم الله عليهم ، وفى تحذيره من نقمه فقال : { ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ فِي الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا } .
أى : وقال الرجل المؤمن لقومه - أيضا - : يا قوم ، أى : يا أهلى ويا عشيرتى ، أنتم اليوم لكم الملك ، حالة كونكم ظاهرين ، أى : غالبين ومنتصرين فى أرض مصر ، عالين فيها على بنى إسرائيل قوم موسى .
وإذا كان أمرنا كذلك ، فمن يستطيع أن ينصرنا من عذاب الله ، إن أرسله علينا ، بسبب عدم شكرنا له ، واعتدائنا على خلقه .
وإنما نسب إليهم ما يسرهم من الملك والظهور فى الأرض دون أن يسلك نفسه معهم ، وسلك نفسه معهم فى موطن التحذير ، تطييبا لقلوبهم ، وإيذانا بأنه ناصح أمين لهم ، وأنه لا يهمه سوى منفعتهم ومصلحتهم . .
وهنا نجد القرآن الكريم يخبرنا بأن فرعون بعد أن استمع إلى نصيحة الرجل المؤمن ، أخذته العزة بالإِثم ، وقال ما يقوله كل طاغية معجب بنفسه : { مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } .
أى : قال فرعون لقومه ، فى رده على نصيحة الرجل المؤمن : يا قوم لا أشير عليكم ولا أخبركم إلا بما أراه صوابا وخيرا ، وهو أن أقتل موسى - عليه السلام - وما أهديكم برأيى هذا إلا إلى طريق السداد والرشاد .
وغرض فرعون بهذا القول ، التدليس والتمويه على قومه . وأنه ما يريد إلا منفعتهم ، مع أن الدافع الحقيقى لقوله هذا ، هو التخلص من موسى حتى يخلو له الجو فى تأليه نفسه على جهلة قومه ، فإنهم كانوا كما قال - تعالى - فى شأنهم : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }
{ يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين } غالبين عالين . { في الأرض } أرض مصر .
{ فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا } أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد ، وإنما أدرج نفسه في الضميرين لأنه كان منهم في القرابة وليريهم أنه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم . { قال فرعون ما أريكم } ما أشير عليكم . { إلا ما أرى } وأستصوبه من قتله وما أعلمكم إلا ما علمت من الصواب وقلبي ولساني متواطئان عليه . { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } طريق الصواب ، وقرئ بالتشديد على أنه فعال للمبالغة من رشد كعلام ، أو من رشد كعباد لا من أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصور على السماع أو بالنسبة إلى الرشد كعواج وبتات .
قول هذا المؤمن : { يا قوم لكم الملك اليوم } استنزال لهم ووعظ لهم من جهة شهواتهم وتحذير من زوال ترفتهم ونصيحة لهم في أمر دنياهم .
وقوله : { في الأرض } يريد في أرض مصر وما والاها من مملكتهم . ثم قررهم على من هو الناصر لهم من بأس الله ، وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون ، ولذلك استكان هو ورجع يقول : { ما أريكم إلا ما أرى } كما تقول لمن لا تحكم له .
وقوله : { أريكم } من رأى قد عدي بالهمزة ، فللفعل مفعولان أحدهما الضمير في { أريكم } والآخر ما في قوله : { إلا ما } وكأن الكلام أراكم ما أرى ، ثم أدخل في صدر الكلام { ما } النافية وقلب معناها ب { إلا } الموجبة تخصيصاً وتأكيداً للأمر ، وهذا كما تقول : قام زيد ، فإذا قلت : ما قام إلا زيد أفدت تخصيصه وتأكيد أمره . و { أرى } متعدية إلى مفعول واحد وهو الضمير الذي فيه العائد على { ما } ، تقديره : إلا ما أراه ، وحذف هذا المفعول من الصفة حسن لطول الصلة .
وقرأ الجمهور : { الرشاد } مصدر رشد ، وفي قراءة معاذ بن جبل : «سبيل الرشّاد » بشد الشين ، قال أبو الفتح : وهو اسم فاعل في بنيته مبالغة وهو من الفعل الثلاثي رشد فهو كعباد من عبد{[9989]} . وقال النحاس : هو لحن وتوهمه من الفعل الرباعي وقوله مردود . قال أبو حاتم : كان معاذ بن جبل يفسرها سبيل الله . ويبعد عندي هذا على معاذ رضي الله عنه ، وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله ، ويقلق بناء اللفظة على هذا التأويل .
{ ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الارض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا }
لما توسم نهوضَ حجتِه بينهم وأنها داخلت نفوسهم ، أَمِن بأسهم ، وانتهز فرصة انكسار قلوبهم ، فصارحهم بمقصوده من الإِيمان بموسى على سَنَن الخطباء وأهل الجدل بعد تقرير المقدمات والحجج أن يهجموا على الغرض المقصود ، فوعظهم بهذه الموعظة . وأدخل قومه في الخطاب فناداهم ليستهويهم إلى تعضيده أمام فرعون فلا يجدَ فرعون بُدّاً من الانصياع إلى اتفاقهم وتظاهرهم ، وأيضاً فإن تشريك قومه في الموعظة أدخل في باب النصيحة فابتدأ بنصح فرعون لأنه الذي بيده الأمر والنهي ، وثنّى بنصيحة الحاضرين من قومه تحذيراً لهم من مصائبَ تصيبهم من جراء امتثالهم أمر فرعون بقتل موسى فإن ذلك يهمهم كما يهمّ فرعون . وهذا الترتيب في إسداء النصيحة نظير الترتيب في قول النبي صلى الله عليه وسلم « ولأئمَّةِ المسلمين وعامتهم{[359]} » ولا يخفى ما في ندائهم بعنوان أنهم قومه من الاستصغاء لنصحه وترقيق قلوبهم لقوله .
وابتداء الموعظة بقوله : { لَكُمُ المُلكُ اليَوْمَ ظاهرين في الأرْضِ } تذكيرٌ بنعمة الله عليهم ، وتمهيد لتخويفهم من غضب الله ، يعني : لا تغرنكم عظمتكم وملككم فإنهما معرضان للزوال إن غضب الله عليكم .
والمقصود : تخويف فرعون من زوال ملكه ، ولكنه جعل المُلك لقومه لتجنب مواجهة فرعون بفرض زوال ملكه .
والأرض : أرض مصر ، أي نافذاً حكمكم في هذا الصقع .
وفرع على هذا التمهيد : { فَمَن يَنصُرُنا مِن بأس الله إن جاءَنا } ، و ( مَنْ ) للاستفهام الإِنكاري عن كل ناصر ، فالمعنى : فلا نصر لنا من بأس الله . وأدمج نفسه مع قومه في { ينصرنا } و { جاءنا ، } ليريهم أنه يأبى لقومه ما يأباه لنفسه وأن المصيبة إن حلت لا تصيب بعضهم دون بعض .
ومعنى { ظاهرين } غالبين ، وتقدم آنفاً ، أي إن كنتم قادرين على قتل موسى فالله قادر على هلاككم .
والبَأْس : القوة على العدوّ والمعاند ، فهو القوة على الضر .
{ قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد }
تفطن فرعون إلى أنه المعرَّض به في خطاب الرجل المؤمن قومَه فقاطعه كلامَه وبيَّن سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعاً إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد ، وكأنه أراد لا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلاً إلى نفوس مَلَئِه خيفة أن يتأثرُوا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى . ولكون كلام فرعون صدر مصدر المقاطعة لكلام المؤمن جاء فعل قوللِ فرعون مَفْصُولاً غيرَ معطوف وهي طريقة حكاية المقاولات والمحاورة .
ومعنى : { مَا أُرِيكُم } : ما أجعلكم رَائِين إلا ما أراه لنفسي ، أي ما أشير عليكم بأن تعتقدوا إلا ما أعتقده ، فالرؤية علمية ، أي لا أشير إلا بما هو معتقَدي .
والسبيل : مستعار للعمل ، وإضافته إلى الرشاد قرينة ، أي ما أهديكم وأشير عليكم إلا بعمل فيه رشاد . وكأنه يعرِّض بأن كلام مؤمنهم سفاهة رأي . والمعنى الحاصل من الجملة الثانية غير المعنى الحاصل من الجملة الأولى كما هو بَيّن وكما هو مقتضى العطف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وقال المؤمن: {يا قوم} لأنه قبطي مثلهم.
{لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض} يعني أرض مصر على أهلها.
{فمن ينصرنا من بأس الله}: فمن يمنعنا من عذاب الله عز وجل.
{إن جاءنا} لما سمع فرعون قول المؤمن {قال} عدو الله {فرعون} عند ذلك لقومه:
{ما أريكم} من الهدى {إلا ما أرى} لنفسي.
{وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}: وما أدعوكم إلا إلى طريق الهدى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن من آل فرعون لفرعون وملئه:"يا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظاهِرِينَ في الأرْضِ" يعني: أرض مصر، يقول: لكم السلطان اليوم والملك ظاهرين أنتم على بني إسرائيل في أرض مصر. "فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ "يقول: فمن يدفع عنا بأس الله وسطوته إن حلّ بنا، وعقوبته إن جاءتنا.
" قال فرعون أُرِيكُمْ إلاّ ما أرَى" يقول: قال فرعون مجيبا لهذا المؤمن الناهي عن قتل موسى: ما رأيكم أيها الناس من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي ولكم صلاحا وصوابا. "وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" يقول: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحقّ والصواب في أمر موسى وقتله، فإنكم إن لم تقتلوه بدّل دينكم، وأظهر في أرضكم الفساد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يقول على الرّفق بهم وإظهار الموافقة لهم في الظاهر؛ يقول: إنه قد جاءنا من الله من البينات ما أوضح الحق، وبيّن السبيل، فإذا رددنا ذلك، وكذّبناه جاءنا بأس الله جملة وعذابه. فمن يمنعنا عنه، وينصرنا من عذابه إذا خالفنا أمره، وتركنا اتباع دينه؟ على هذين القولين يخرّج القول فيه.
كذب اللعين أيضا حين قال: {ما أريكم إلا ما أرى} ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي؛ لأنه اختار لهم أن يعبدوه، ولم يختر لنفسه عبادة أولئك أن يعبدهم، فهو كذب من القول.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قال: {يَنصُرُنَا} و {جاءنا} لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم بأنّ الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه.
{مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أرى} أي: ما أشير عليكم برأي إلاّ بما أرى من قتله، يعني: لا أستصوب إلاّ قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب.
{وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد، ولولا استشعاره لم يستشر أحداً ولم يقف الأمر على الإشارة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قول هذا المؤمن: {يا قوم لكم الملك اليوم} استنزال لهم ووعظ لهم من جهة شهواتهم وتحذير من زوال ترفتهم ونصيحة لهم في أمر دنياهم.
وقوله: {في الأرض} يريد في أرض مصر وما والاها من مملكتهم.
ثم قررهم على من هو الناصر لهم من بأس الله، وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون، ولذلك استكان هو ورجع يقول: {ما أريكم إلا ما أرى}.
اعلم أن مؤمن آل فرعون لما أقام أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى، خوفهم في ذلك بعذاب الله فقال: {يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض} يعني قد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه، فإنه لا قبل لكم به، وإنما قال: {ينصرنا} و {جاءنا} لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه، ولما قال ذلك المؤمن هذا الكلام {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى} أي لا أشير إليكم برأي سوى ما ذكرته أنه يجب قتله حسما لمادة الفتنة {وما أهديكم} بهذا الرأي {إلا سبيل الرشاد} والصلاح، ثم حكى تعالى أن ذلك المؤمن رد هذا الكلام على فرعون فقال: {إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب}.
واعلم أنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم إيمانه، والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون، ولهذا السبب حصل هاهنا قولان:
الأول: أن فرعون لما قال: {ذروني أقتل موسى} لم يصرح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى، بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه، إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي ترك قتل موسى، لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة وهذا لا يوجب القتل، والإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات، بل الأولى أن يؤخر قتله وأن يمنع من إظهار دينه، لأن على هذا التقدير إن كان كاذبا كان وبال كذبه عائدا إليه، وإن كان صادقا حصل الانتفاع به من بعض الوجوه، ثم أكد ذلك بقوله {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} يعني أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب، فأوهم فرعون أنه أراد بقوله {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} أنه يريد موسى وهو إنما كان يقصد به فرعون، لأن المسرف الكذاب هو فرعون.
والقول الثاني: أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولا، فلما قال فرعون {ذروني أقتل موسى} أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى، وشافه فرعون بالحق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟).. إن الرجل يشعر بما يشعر به القلب المؤمن، من أن بأس الله أقرب ما يكون لأصحاب الملك والسلطان في الأرض فهم أحق الناس بأن يحذروه، وأجدر الناس بأن يحسوه ويتقوه، وأن يبيتوا منه على وجل، فهو يتربص بهم في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ومن ثم يذكرهم بما هم فيه من الملك والسلطان، وهو يشير إلى هذا المعنى المستقر في حسه البصير. ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله: (فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟) ليشعرهم أن أمرهم يهمه، فهو واحد منهم، ينتظر مصيره معهم؛ وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم، لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص. وهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه، وأنهم إزاءه ضعاف ضعاف. هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية توجه إليه النصيحة. تأخذه العزة بالإثم. ويرى في النصح الخالص افتياتاً على سلطانه، ونقصاً من نفوذه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان: (قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)..
إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً وأعتقده نافعاً. وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأياً؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الارض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا} لما توسم نهوضَ حجتِه بينهم وأنها داخلت نفوسهم، أَمِن بأسهم، وانتهز فرصة انكسار قلوبهم، فصارحهم بمقصوده من الإِيمان بموسى على سَنَن الخطباء وأهل الجدل بعد تقرير المقدمات والحجج أن يهجموا على الغرض المقصود، فوعظهم بهذه الموعظة، وأدخل قومه في الخطاب فناداهم ليستهويهم إلى تعضيده أمام فرعون فلا يجدَ فرعون بُدّاً من الانصياع إلى اتفاقهم وتظاهرهم، وأيضاً فإن تشريك قومه في الموعظة أدخل في باب النصيحة فابتدأ بنصح فرعون؛ لأنه الذي بيده الأمر والنهي وثنّى بنصيحة الحاضرين من قومه تحذيراً لهم من مصائبَ تصيبهم من جراء امتثالهم أمر فرعون بقتل موسى، فإن ذلك يهمهم كما يهمّ فرعون، وهذا الترتيب في إسداء النصيحة نظير الترتيب في قول النبي صلى الله عليه وسلم « ولأئمَّةِ المسلمين وعامتهم»
وابتداء الموعظة بقوله: {لَكُمُ المُلكُ اليَوْمَ ظاهرين في الأرْضِ} تذكيرٌ بنعمة الله عليهم، وتمهيد لتخويفهم من غضب الله، يعني: لا تغرنكم عظمتكم وملككم فإنهما معرضان للزوال إن غضب الله عليكم.
والمقصود: تخويف فرعون من زوال ملكه، ولكنه جعل المُلك لقومه لتجنب مواجهة فرعون بفرض زوال ملكه.
معنى {ظاهرين} غالبين، وتقدم آنفاً، أي إن كنتم قادرين على قتل موسى فالله قادر على هلاككم.
والبَأْس: القوة على العدوّ والمعاند، فهو القوة على الضر.
{قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} تفطن فرعون إلى أنه المعرَّض به في خطاب الرجل المؤمن قومَه فقاطعه كلامَه وبيَّن سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعاً إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد، وكأنه أراد لا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلاً إلى نفوس مَلَئِه خيفة أن يتأثرُوا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى. ولكون كلام فرعون صدر مصدر المقاطعة لكلام المؤمن جاء فعل قولِ فرعون مَفْصُولاً غيرَ معطوف، وهي طريقة حكاية المقاولات والمحاورة
والسبيل: مستعار للعمل، وإضافته إلى الرشاد قرينة، أي ما أهديكم وأشير عليكم إلا بعمل فيه رشاد، وكأنه يعرِّض بأن كلام مؤمنهم سفاهة رأي.
والمعنى الحاصل من الجملة الثانية غير المعنى الحاصل من الجملة الأولى كما هو بَيّن وكما هو مقتضى العطف...
قوله: {يٰقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} هذا كلام الرجل المؤمن ينصح قومه. نعم لهم المُلْك أي: مُلْك فرعون وجبروته وسطوته وادعاؤه للألوهية.. إلخ و {ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} يعني: منتصرين وعالين على غيركم، لكن احذروا فهذا حال موقوت لا يدوم لكم فهو مُقيَّد {لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} وكأنه يقول لهم: احذروا أنْ يضيع هذا الملْك من أيديكم.
فربما كان هذا الرجل -أي موسى عليه السلام- صادقاً فيجمع حوله الأتباع والأنصار، ويقضي على هذا الملك، فاستبقوا إذن ولو الضلال الذي أنتم عليه ولا تدخلوا معه في صدام لا تعلمون عاقبته {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا} لا أحدَ، لأن بأسَ الله وانتقامه في تأييد رسله بأسٌ لا يُرَدّ ولابدَّ أنْ يدمر المخالف فاحذروا، هكذا يتحدث الرجل المؤمن بمنطق الإيمان الراسخ في نفسه ويصدق قومه لا يغشهم.
وهنا لابُدَّ أنْ ينتفضَ فرعون، وأنْ يحاول القبض على زمام الأمور لصالحه: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} لاحظ منطق التسلط في {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ} ومنطق التزييف في {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
لكن هذا من فرعون لم يمنع الرجل المؤمن أنْ يستمر في دعوته ولم يصدَّه أنْ ينصح قومه: {وَقَالَ الَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ...}.