وقوله : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قسم ثالث ببعض مخلوقاته - تعالى - . والشاهد اسم فاعل من المشاهدة بمعنى الرؤية ، فالشاهد هو الرائى ، أو المشهود عليه بأنه حق
فالمراد بالشاهد : من يحضر ذلك اليوم من الخلائق المبعوثين ، وما يراه فيه من عجائب وأهوال ، من المشاهدة بمعنى الرؤية والحضور ، أو من يشهد فى ذلك اليوم على غيره ، من الشهادة على الخصم .
وقد ذكر المفسرون فى معنى هذين اللفظين ، ما يقرب من عشرين وجها .
قال صاحب الكشاف وقوله : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } يعنى : وشاهد فى ذلك اليوم ومشهود فيه . والمراد بالشاهد : من يشهد فيه من الخلائق كلهم . وبالمشهود : ما فى ذلك اليوم من عجائبه . ثم قال : وقد اضطربت أقوال المفسرين فيما ، فقيل : الشاهد والمشهود : محمد صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة . وقيل : عيسى وأمته . وقيل : أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأمم . وقيل : يوم التروية ويوم عرفة . وقيل : يوم عرفة ويوم الجمعة . وقيل : الحجر الأسود ، والحجيج . وقيل : الأيام والليالى . وقيل : الحفظة وبنو آدم . .
ويبدو لنا أن أقرب الأقوال والصواب : أن المراد بالشاهد هنا : الحاضر فى ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة ، والرائى لأهواله وعجائبه .
وأن المراد بالمشهود : ما يشاهد فى ذلك اليوم من أحوال يشيب لها الولدان .
وقال - سبحانه - { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } بالتنكير ، لتهويل أمرهما ، وتفخيم شأنهما
وشاهد ومشهود ومن يشهد في ذلك اليوم من الخلائق وما أحضر فيه من العجائب وتنكيرهما للإبهام في الوصف أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو المبالغة في الكثرة كأنه قيل ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود أو النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أو أمته وسائر الأمم أو كل نبي وأمته أو الخالق والخلق أو عكسه فإن الخالق مطلع على خلقه وهو شاهد على وجوده أو الملك الحفيظ والمكلف أو يوم النحر أو عرفة والحجيج أو يوم الجمعة والجمع فإنه يشهد له أو كل يوم وأهله .
وقوله : { ومشهود } ، معناه : عليه أو له أو فيه ، وهذا يترتب بحسب الحساب في تعيين المراد ب «شاهد ومشاهد » ، فقد اختلف الناس في المشار إليه بهما فقال ابن عباس : الشاهد الله تعالى ، والمشهود يوم القيامة ، وقال ابن عباس والحسن بن علي وعكرمة : الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود يوم القيامة ، قال الله تعالى : { إنا أرسلناك شاهداً }{[11720]} [ الأحزاب : 45 ، الفتح : 8 ] ، وقال في يوم القيامة { وذلك يوم مشهود }{[11721]} [ هود : 103 ] ، وقال مجاهد وعكرمة أيضاً : الشاهد آدم وجميع ذريته ، والمشهود يوم القيامة ، ف { شاهد } اسم جنس على هذا ، وقال بعض من بسط قول مجاهد وعكرمة : { شاهد } أراد به رجل مفرد أو نسمة من النسم ، ففي هذا تذكير بحقارة المسكين ابن آدم ، والمشهود يوم القيامة ، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن عباس أيضاً : الشاهد يوم عرفة ، ويوم الجمعة ، والمشهود يوم القيامة ، وقال ابن عباس وعلي وأبو هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة : { شاهد } يوم الجمعة ، { ومشهود } يوم عرفة ، وقال ابن عمر : { شاهد } يوم الجمعة ، { ومشهود } يوم النحر ، وقال جابر : { شاهد } يوم الجمعة ، { ومشهود } الناس ، وقال محمد بن كعب : الشاهد أنت يا ابن آدم ، والمشهود الله تعالى ، وقال ابن جبير بالعكس ، وتلا : { وكفى بالله شهيداً }{[11722]} [ النساء : 79-166 ، الفتح : 28 ] ، وقال أبو مالك : الشاهد عيسى ، والمشهود أمته ، قال الله تعالى : { وكنت عليهم شهيداً }{[11723]} [ المائدة : 117 ] قال ابن المسيب : { شاهداً } يوم التروية ، { ومشهود } يوم عرفة ، وقال بعض الناس في كتاب النقاش : الشاهد يوم الإثنين والمشهود يوم الجمعة ، وذكره الثعلبي ، وقال علي بن أبي طالب : الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم النحر ، وعنه أيضاً : { شاهد } يوم القيامة { ومشهود } يوم عرفة . وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { شاهد } يوم الجمعة { ومشهود } يوم عرفة . قاله علي وأبو هريرة والحسن ، وقال إبراهيم النخعي : الشاهد يوم الأضحى والمشهود يوم عرفة .
قال القاضي أبو محمد : ووصف هذه الأيام ب { شاهد } لأنها تشهد لحاضريها بالأعمال ، والمشهود فيما مضى من الأقوال بمعنى المشاهد بفتح الهاء ، وقال الترمذي : الشاهد الملائكة الحفظة ، والمشهود عليهم الناس ، وقال عبد العزيز بن يحيى عند الثعلبي : الشاهد محمد ، والمشهود عليهم أمته نحو قوله تعالى :
{ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }{[11724]} [ النساء : 41 ] أي شاهداً ، قال : الشاهد الأنبياء : والمشهود عليهم أممهم ، وقال الحسن بن الفضل : الشاهد أمة محمد ، والمشهود عليهم قوم نوح ، وسائر الأمم حسب الحديث المقصود في ذلك ، وقال ابن جبير أيضاً : الشاهد ، الجوراح التي تنطق يوم القيامة فتشهد على أصحابها ، والمشهود عليهم أصحابها ، وقال بعض العلماء : الشاهد الملائكة المتعاقبون في الأمة ، والمشهود قرآن الفجر ، وتفسيره قول الله تعالى : { إن قرآن الفجر كان مشهوداً }{[11725]} [ الإسراء : 87 ] وقال بعض العلماء : الشاهد ، النجم ، والمشهود عليه الليل والنهار ، أي يشهد النجم بإقبال هذا وتمام هذا ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «حتى يطلع الشاهد{[11726]} ، والشاهد النجم » ، وقال بعض العلماء : الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم ، والمشهود به الوحدانية وأن الدين عند الله الإسلام ، وقيل الشاهد : مخلوقات الله تعالى ، والمشهود به وحدانيته ، وأنشد الثعلبي في هذا المعنى قول الشاعر [ أبو العتاهية ] : [ المتقارب ]
وفي كل شيء له آية . . . تدل على أنه الواحد{[11727]}
وقيل المعنى : فعل الله بهم ذلك لأنهم أهل له ، فهو على جهة الدعاء بحسب البشر ، لا أن الله يدعو على أحد ، وقيل عن ابن عباس معناه : لعن ، وهذا تفسير بالمعنى ، وقيل هو إخبار بأن النار قتلتهم ، قاله الربيع بن أنس ، وسيأتي بيانه
و{ شاهد ومشهود } مراد بهما النوع . فالشاهد : الرائي ، أو المخبر بحق لإِلزام منكره . والمشهود : المَرئي أو المشهود عليه بحق . وحذف متعلق الوصفين لدلالة الكلام عليه فيجوز أن يكون الشاهد حاضرَ ذلك اليوم الموعود من الملائكة قال تعالى : { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } [ ق : 21 ] .
ويجوز أن يكون الشاهد الله تعالى ويؤيده قوله : { واللَّه على كل شيء شهيد } أو الرسل والملائكة .
والمشهود : الناس المحشورون للحساب وهم أصحاب الأعمال المعرَّضون للحساب لأن العرف في المجامع أن الشاهد فيها : هو السالم من مشقتها وهم النظارة الذين يطَّلعون على ما يجري في المجمع ، وأن المشهود : هو الذي يطَّلعُ الناسُ على ما يجري عليه .
ويجوز أن يكون الشاهد : الشاهدين من الملائكة ، وهم الحفظة الشاهدون على الأعمال . والمشهود : أصحاب الأعمال . وأن يكون الشاهد الرسل المبلغين للأمم حين يقول الكفار : ما جاءنا من بشير ولا نذير ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد على جميعهم وهو ما في قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] .
وعلى مختلف الوجوه فالمناسبة ظاهرة بين { شاهد ومشهود } وبين ما في المقسم عليه من قوله : { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } ، وقوله : { إذ هم عليها قعود } أي حضور .
وروى الترمذي من طريق موسى بن عبيدة إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة " . أي فالتقدير : ويومٍ شاهد ويومٍ مشهود . قال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قِبَل حفظه اه .
ووصف « يوم » بأنه « شاهد » مجاز عقلي ، ومحمل هذا الحديث على أن هذا مما يراد في الآية من وصف { شاهد } ووصف { مشهود } فهو من حَمْل الآية على ما يحتمله اللفظ في حقيقة ومجاز كما تقدم في المقدمة التاسعة .