مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ} (3)

وأما الشاهد والمشهود ، فقد اضطرب أقاويل المفسرين فيه ، والقفال أحسن الناس كلاما فيه ، قال : إن الشاهد يقع على شيئين ( أحدهما ) : الشاهد الذي تثبت به الدعاوى والحقوق ( والثاني ) : الشاهد الذي هو بمعنى الحاضر ، كقوله : { عالم الغيب والشهادة } ويقال : فلان شاهد وفلان غائب ، وحمل الآية على هذا الاحتمال الثاني أولى ، إذ لو كان المراد هو الأول لما خلا لفظ المشهود عن حرف الصلة ، فيقال : مشهود عليه ، أو مشهود له . هذا هو الظاهر ، وقد يجوز أن يكون المشهود معناه المشهود عليه فحذفت الصلة ، كما في قوله : { إن العهد كان مسئولا } أي مسئولا عنه ، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن حملنا الشهود على الحضور احتملت الآية وجوها من التأويل ( أحدها ) : أن المشهود هو يوم القيامة ، والشاهد هو الجمع الذي يحضرون فيه ، وهو مروي عن ابن عباس والضحاك ، ويدل على صحة هذا الاحتمال وجوه ( الأول ) : أنه لا حضور أعظم من ذلك الحضور ، فإن الله تعالى يجمع فيه خلق الأولين والآخرين من الملائكة والأنبياء والجن والإنس ، وصرف اللفظ إلى المسمى الأكمل أولى ( والثاني ) : أنه تعالى ذكر اليوم الموعود ، وهو يوم القيامة ، ثم ذكر عقيبه : { وشاهد ومشهود } وهذا يناسب أن يكون المراد بالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق ، وبالمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب ( الثالث ) : أن الله تعالى وصف يوم القيامة بكونه مشهودا في قوله : { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } وقال : { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } وقال : { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده } وقال : { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } وطريق تنكيرهما إما ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى : { علمت نفس ما أحضرت } كأنه قيل : وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود ، وأما الإبهام في الوصف كأنه قيل : وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما ، وإنما حسن القسم بيوم القيامة للتنبيه على القدرة إذ كان هو يوم الفصل والجزاء ويوم تفرد الله تعالى فيه بالملك والحكم ، وهذا الوجه اختيار ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن بن علي وابن المسيب والضحاك والنخعي والثوري ( وثانيها ) : أن يفسر المشهود بيوم الجمعة وهو قول ابن عمر وابن الزبير : وذلك لأنه يوم يشهده المسلمون للصلاة ولذكر الله .

ومما يدل على كون هذا اليوم مسمى بالمشهود خبران ( الأول ) : ما روى أبو الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة » ( والثاني ) : ما روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : «تحضر الملائكة أبواب المسجد فيكتبون الناس فإذا خرج الإمام طويت الصحف » وهذه الخاصية غير موجودة إلا في هذا اليوم فيجوز أن يسمى مشهودا لهذا المعنى ، قال الله تعالى : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } وروي : «أن ملائكة الليل والنهار يحضرون وقت صلاة الفجر فسميت هذه الصلاة مشهودة لشهادة الملائكة » فكذا يوم الجمعة ( وثالثها ) : أن يفسر المشهود بيوم عرفة والشاهد من يحضره من الحاج وحسن القسم به تعظيما لأمر الحج روي أن الله تعالى يقول للملائكة يوم عرفة : «انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى من ذلك » والدليل على أن يوم عرفة مسمى بأنه مشهود قوله تعالى : { وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم } ( ورابعها ) : أن يكون المشهود يوم النحر وذلك لأنه أعظم المشاهد في الدنيا فإنه يجتمع أهل الشرق والغرب في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة وهو عيد المسلمين ، ويكون الغرض من القسم به تعظيم أمر الحج ( وخامسها ) : حمل الآية على يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم النحر جميعا لأنها أيام عظام فأقسم الله بها كما أقسم بالليالي العشر والشفع والوتر ، ولعل الآية عامة لكل يوم عظيم من أيام الدنيا ولكل مقام جليل من مقاماتها وليوم القيامة أيضا لأنه يوم عظيم كما قال : { ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين } وقال : { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } ويدل على صحة هذا التأويل خروج اللفظ في الشاهد والمشهود على النكرة ، فيحتمل أن يكون ذلك على معنى أن القصد لم يقع فيه إلى يوم بعينه فيكون معرفا ( أما الوجه الأول ) : وهو أن يحمل الشاهد على من تثبت الدعوى بقوله ، فقد ذكروا على هذا التقدير وجوها كثيرة ( أحدها ) : أن الشاهد هو الله تعالى لقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو }

وقوله : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } وقوله : { أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } والمشهود هو التوحيد ، لقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } أو النبوة : { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } ( وثانيها ) : أن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود عليه سائر الأنبياء ، لقوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } ولقوله تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا } ( وثالثها ) : أن يكون الشاهد هو الأنبياء ، والمشهود عليه هو الأمم ، لقوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } ، ( ورابعها ) : أن يكون الشاهد هو جميع الممكنات والمحدثات ، والمشهود عليه واجب الوجود ، وهذا احتمال ذكرته أنا وأخذته من قول الأصوليين هذا الاستدلال بالشاهد على الغائب ، وعلى هذا التقدير يكون القسم واقعا بالخلق والخالق ، والصنع والصانع ( وخامسها ) : أن يكون الشاهد هو الملك ، لقوله تعالى : { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } والمشهود عليه هم المكلفون ( وسادسها ) : أن يكون الشاهد هو الملك ، والمشهود عليه هو الإنسان الذي تشهد عليه جوارحه يوم القيامة ، قال : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } وهذا قول عطاء الخراساني . ( وأما الوجه الثالث ) : وهو أقوال مبنية على الروايات لا على الاشتقاق ( فأحدها ) : أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، روى أبو موسى الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام قال : «اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، ويوم الجمعة ذخيرة الله لنا » وعن أبي هريرة مرفوعا قال : «المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له ، ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه منه » وعن سعيد بن المسيب مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد ، والمشهود يوم عرفة » وهذا قول كثير من أهل العلم كعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وأبي هريرة وابن المسيب والحسن البصري والربيع بن أنس ، قال قتادة : شاهد ومشهود ، يومان عظمهما الله من أيام الدنيا ، كما يحدث أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ( وثانيها ) : أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر وذلك لأنهما يومان عظمهما الله وجعلهما من أيام أركان أيام الحج ، فهذان اليومان يشهدان لمن يحضر فيهما بالإيمان واستحقاق الرحمة ، وروي أنه عليه السلام ذبح كبشين ، وقال في أحدهما : «هذا عمن يشهد لي بالبلاغ » فيحتمل لهذا المعنى أن يكون يوم النحر شاهدا لمن حضره بمثل ذلك لهذا الخبر ( وثالثها ) : أن الشاهد هو عيسى لقوله تعالى حكاية عنه : { وكنت عليهم شهيدا } ، ( ورابعها ) : الشاهد هو الله والمشهود هو يوم القيامة ، قال تعالى : { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } وقوله : { ثم ينبئهم بما عملوا } ، ( وخامسها ) : أن الشاهد هو الإنسان ، والمشهود هو التوحيد لقوله تعالى : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ( وسادسها ) : أن الشاهد الإنسان والمشهود هو يوم القيامة ، أما كون الإنسان شاهدا فلقوله تعالى : { قالوا بلى شهدنا } وأما كون يوم القيامة مشهودا فلقوله : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } فهذه هي الوجوه الملخصة ، والله أعلم بحقائق القرآن .