فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ} (3)

{ وشاهد ومشهود } نكرهما دون بقية ما أقسم به لاختصاصهما من بين الأيام بفضيلة ليست لغيرهما فلم يجمع بينهما وبين البقية بلام الجنس . وهذا جواب أيضا عما يقال لم خصصهما بالذكر دون بقية الأيام ؟ وإنما لم يعرفا بلام العهد لأن التنكير أدل على التفخيم والتعظيم بدليل قوله تعالى { وإلهكم إله واحد } والمراد بالشاهد من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق أي يحضر فيه والمراد بالمشهود ما يشاهد في ذلك اليوم من العجائب .

وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الشاهد يوم الجمعة وأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه ، والمشهود يوم عرفة لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج وتحضره الملائكة ، قال الواحدي وهذا قول الأكثر ، قال ابن عباس : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وهو الحج الأكبر .

فيوم الجمعة جعله الله عيدا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته وفضله بها على الخلق أجمعين وهو سيد الأيام عند الله وأحب الأعمال إلى الله ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه ، أخرجه ابن مردويه .

وحكى القشيري عن ابن عمر وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى ، وقال سعيد بن المسيب : الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة ، وقال النخعي : الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر : وقيل الشاهد هو الله سبحانه ، وبه قال الحسن وسعيد بن جبير لقوله { وكفى بالله شهيدا } وقوله { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } .

وقيل الشاهد محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } وقوله { يا أيها الرسول إنا أرسلناك شاهدا } وقوله { ويكون الرسول عليكم شهيدا } وقيل الشاهد جميع الأنبياء لقوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } .

وقيل هو عيسى ابن مريم لقوله { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } .

والمشهود على هذه الأمة الأقوال الثلاثة إما أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أمم الأنبياء أو أمة عيسى .

وقيل الشاهد آدم والمشهود ذريته ، وقال محمد بن كعب : الشاهد الإنسان لقوله { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } وقال مقاتل أعضاؤه لقوله { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } .

وقال الحسين بن الفضل : الساهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم لقوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } وقيل الشاهد الحفظة والمشهود بنو آدم " وقيل الأيام والليالي ، وقيل الشاهد الخلق يشهدون لله عز وجل بالوحدانية والمشهود له بالوحدانية هو الله سبحانه . وسيأتي بيان ما هو الحق .

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة " وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذ منه " أخرجه الترمذي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه .

وعن أبي هريرة رفعه " قال الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود هو الموعود يوم القيامة " أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه{[1706]} .

وعن علي بن أبي طالب اليوم الموعود يوم القيامة والمشهود يوم النحر والشاهد يوم الجمعة .

وعن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة " أخرجه ابن جرير والطبراني وابن مردويه .

وعن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الآية " الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة " أخرجه ابن عساكر وابن مردويه ، وعن أبي هريرة مثله موقوفا .

وعن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد ، والمشهود يوم عرفة " وهذا مرسل من مراسيله أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه .

وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة " أخرجه ابن ماجه والطبراني وابن جرير .

وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال في الآية الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ، وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن رجلا سأله عن قوله { وشاهد ومشهود } قال هل سألت أحدا قبلي قال نعم سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة قال لا ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم قرأ { وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } والمشهود يوم القيامة ، ثم قرأ { ذلك يوم مشهود } وعن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما في الآية قال الشاهد جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمشهود يوم القيامة ثم تلا { إنا أرسلناك شاهدا } { ذلك يوم مشهود } .

وعن ابن عباس قال اليوم الموعود يوم القيامة والشاهد محمد صلى الله عليه وسلم والمشهود يوم القيامة ثم تلا يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود .

وعنه قال الشاهد الله والمشهود يوم القيامة .

قلت وهذه التفاسير عن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفت كما ترى وكذلك اختلفت تفاسير التابعين بعدهم ، واستدل من استدل منهم بآيات ذكر الله فيها أن ذلك الشيء شاهد أو مشهود ، فجعله دليلا على أنه المراد بالشاهد والمشهود في هذه الآية المطلقة ، وليس ذلك بدليل يستدل به على أن الشاهد والمشهود المذكورين في هذا المقام هو ذلك الشاهد والمشهود الذي ذكر في آية أخرى ، وإلا لزم أن يكون قوله هنا وشاهد ومشهود هو جميع ما أطلق عليه في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة أنه يشهد أو أنه مشهود ، وليس بعض ما استدلوا به مع اختلافه بأولى من بعض ، ولم يقل قائل ذلك .

فإن قلت هل في المرفوع الذي ذكرته من حديثي أبي هريرة وحديث أبي مالك الأشعري وحديث جبير بن مطعم ومرسل سعيد بن المسيب ما يعين هذا اليوم الموعود والشاهد والمشهود .

قلت أما اليوم الموعود فلم تختلف هذه الروايات التي ذكر فيها بل اتفقت على أنه يوم القيامة ، وأما الشاهد ففي حديث أبي هريرة الأول أنه يوم الجمعة وفي حديثه الثاني أنه يوم عرفة ويوم الجمعة ، وفي حديث الأشعري أنه يوم الجمعة ، وفي حديث جبير أنه يوم الجمعة وفي مرسل سعيد أنه يوم الجمعة فاتفقت هذه الأحاديث عليه ، ولا تضر زيادة يوم عرفة عليه في حديث أبي هريرة الثاني .

وأما المشهود ففي حديث أبي هريرة الأول أنه يوم عرفة وفي حديثه الثاني أنه يوم القيامة وفي حديث أبي مالك أنه يوم عرفة وفي حديث جبير أنه يوم عرفة ، وكذا في حديث سعيد ، فقد تعين في هذه الروايات أنه يوم عرفة ، وهي أرجح من تلك الرواية التي صرح فيها بأنه يوم القيامة ، فحصل من مجموع هذا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ، وأما اليوم الموعود فقد قدمنا أنه وقع الإجماع على أنه يوم القيامة .


[1706]:رواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وفي سنده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في "التقريب"، وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة: يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه، وقال ابن كثير: وروى هذا الحديث ابن خزيمة من طرق عن موسى بن عبيدة الربدي، وهو ضعيف، وقد روي موقوفا على أبي هريرة، وهو أشبه.