{ 51 - 55 } { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }
هذا القرآن نذارة للخلق كلهم ، ولكن إنما ينتفع به { الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } فهم متيقنون للانتقال ، من هذه الدار ، إلى دار القرار ، فلذلك يستصحبون ما ينفعهم ويدَعُون ما يضرهم . { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ } أي : لا من دون الله { وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } أي : من يتولى أمرهم فيحصّل لهم المطلوب ، ويدفع عنهم المحذور ، ولا من يشفع لهم ، لأن الخلق كلهم ، ليس لهم من الأمر شيء . { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الله ، بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإن الإنذار موجب لذلك ، وسبب من أسبابه .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجتهد فى إنذار قوم يتوقع منهم الصلاح والاستجابة للحق ، بعد أن أمره قبل ذلك بتوجيه دعوته إلى الناس كافة فقال تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
والمعنى : عظ وخوف يا محمد بهذا القرآن أولئك الذين يخافون شدة الحساب والعقاب ، وتعتريهم الرهبة عندما يتذكرون أهوال يوم القيامة لأنهم يعلمون أنه يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة ، فهؤلاء هم الذين ترجى هدايتهم لرقة قلوبهم وتأثرهم بالعظات والعبر .
فالمراد بهم المؤمنون العصاة الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ولذا قال ابن كثير : { وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ } أى وأنذر بهذا القرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، والذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب أى : يوم القيامة ، { لَيْسَ لَهُمْ } يومئذ ( من دون الله ولى ولا شفيع ) أى : لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيعملون فى هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ويضاعف لهم الجزيل من ثوابه ) .
وقوله : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : وأنذر بهذا القرآن يا محمد { الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } [ المؤمنون : 57 ] والذين { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } [ الرعد : 21 ] .
{ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } أي : يوم القيامة . { لَيْسَ لَهُمْ } أي : يومئذ { مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم ، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله ، عَزَّ وجل { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه .
و { أنذر } عطف على { قل } ، والنبي عليه السلام مأمور بإنذار جميع الخلائق ، وإنما وقع التخصيص هنا بحسب المعنى الذي قصد ، وذلك أن فيما تقدم من الآيات نوعاً من اليائس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة الذين قد قال فيهم أيضاً { أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }{[4924]} فكأنه قيل له هنا : قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا ، ودعهم ورأيهم لأنفسهم وأنذر بالقرآن هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل للانتفاع ، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم ، بل الإنذار العام ثابت مستقر{[4925]} ، والضمير في { به } عائد على { ما يوحى } «ويخافون » على بابها في الخوف أي الذين يخافون ما تحققوه من أن يحشروا ويستعدون لذلك ، ورب متحقق لشيء مخوف وهو لقلة النظر والحزم لا يخافه ولا يستعد له .
قال القاضي ابو محمد : وقال الطبري : وقيل { يخافون } هنا بمعنى يعلمون ، وهذا غير لازم ، وقوله { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } يعم بنفس اللفظ كل مؤمن بالبعث من مسلم ويهودي ونصراني ، وقوله { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } يحتمل معنيين فإن جعلناه داخلاً في الخوف في موضع نصب على الحال أي يخافون أن يحشروا في حال من لا ولي له ولا شفيع ، فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين ولأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل ، وإن جعلنا قوله : { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } إخباراً من الله تعالى عن صفة الحال يؤمئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب و { لعلهم يتقون } ترجٍّ على حسب ما يرى البشر ويعطيه نظرهم .
الأظهر أنَّه عطف على قوله : { قل هل يستوي الأعمى والبصير } [ الأنعام : 50 ] لأنّ ذلك مقدّمة لذكر مَن مثّلت حالهم بحال البصير وهم المؤمنون .
وضمير { به } عائد إلى { ما يوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] وهو القرآن وما يُوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غير مراد به الإعجاز .
و { والذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } هم المؤمنون الممثّلون بحال البصير . وعُرّفوا بالموصول لما تدلّ عليه الصلة من المدح ، ومن التعليل بتوجيه إنذاره إليهم دون غيرهم ، لأنّ الإنذار للذين يخافون أن يحشروا إنذار نافع ، خلافاً لحال الذين ينكرون الحشر ، فلا يخافونه فضلاً عن الاحتياج إلى شفعاء .
و { أن يحشروا } مفعول { يخافون } ، أي يخافون الحشر إلى ربِّهم فهم يقدّمون الأعمال الصالحة وينتهون عمَّا نهاهم خيفة أن يَلقَوا الله وهو غير راض عنهم . وخوفُ الحشر يقتضي الإيمان بوقوعه . ففي الكلام تعريض بأنّ المشركين لا ينجع فيهم الإنذار لأنَّهم لا يؤمنون بالحشر فكيف يخافونه . . ولذلك قال فيهم { إنّ الذين كفروا سواء عليهم ءَأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [ البقرة : 6 ] .
وجملة : { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } حال من ضمير { أن يحشروا } ، أي يحشروا في هذه الحالة ، فهذه الحال داخلة في حيّز الخوف . فمضمون الحال معتقد لهم ، أي ليسوا ممَّن يزعمون أنّ لهم شفعاء عند الله لا تردّ شفاعتهم ، فهم بخلاف المشركين الذين زعموا أصنامهم شفعاء لهم عند الله .
وقوله { من دونه } حال من { ولي } و { شفيع } ، والعامل في الحال فعل { يخافون } ، أي ليس لهم ولي دون الله ولا شفيع دون الله ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا . وهو تعريض بالمشركين الذين اتَّخذوا شفعاء وأولياء غير الله .
وفي الآية دليل على ثبوت الشفاعة بإذن الله كما قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه } [ البقرة : 255 ] . ولصاحب « الكشاف » هنا تكلّفات في معنى { يخافون أن يحشروا } وفي جعل الحال من ضمير { يحشروا } حالاً لازمة ، ولعلّه يرمي بذلك إلى أصل مذهبه في إنكار الشفاعة .
وقوله : { لعلّهم يتَّقون } رجاء مسوق مساق التعليل للأمر بإنذار المؤمنين لأنَّهم يرجى تقواهم ، بخلاف من لا يؤمنون بالبعث .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأنْذِرْ يا محمد بالقرآن الذي أنزلناه إليك القوم "الّذِينَ يَخافُون أنْ يحْشَروا إلى رَبّهِمْ "علما منهم بأن ذلك كائن فهم مصدّقون بوعد الله ووعيده، عاملون بما يرضي الله، دائمون في السعي فيما ينقذهم في معادهم من عذاب الله. "لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونهِ وَليّ" أي: ليس لهم من عذاب الله إن عذّبهم وليّ ينصرهم فيستنقذهم منه، "وَلا شَفِيعٌ" يشفع لهم عند الله تعالى فيخلصهم من عقابه. "لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ" يقول: أنذرهم كي يتقوا الله في أنفسهم، فيطيعوا ربهم ويعملوا لمعادهم، ويحذروا سخطه باجتناب معاصيه. وقيل: "وأنْذِرْ بِهِ الّذِينَ يَخافُونَ أنْ يُحْشَروا" ومعناه: يعلمون أنهم يحْشَرونَ، فوضعت «المخافة» موضع «العلم» لأن خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شكّ منهم في ذلك. وهذا أمر من الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه ما أنزل الله إليه من وحيه وتذكيرهم والإقبال عليهم بالإنذار، وصدّه عن المشركين به بعد الإعذار إليهم وبعد إقامة الحجة عليهم، حتى يكون الله هو الحاكم في أمرهم بما يشاء من الحكم فيهم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَأَنذِرْ} خوّف {بِهِ} بالقرآن. قال الضحّاك: به أي باللّه {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ} يبعثوا ويحيوا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله تعالى نبيه (ع) أن ينذر بهذه الآيات أي يخوف بها من هو مقر بالبعث والنشور من المؤمنين، ومن يقر بذلك من الكفار ويعتقد أنه لا معونة عند الشركاء يومئذ، لأن الأمر هناك له تعالى وحده. وقد كان خلق من مشركي العرب يعتقدون ذلك، فأمر الله أن يخص هؤلاء بالإنذار، لأن الحجة لهم ألزم وإن كانت لازمة للجميع. والهاء في قوله "به "قال الزجاج: راجعة إلى القرآن. وقال الجبائي: راجعة إلى العذاب. وقال البلخي: راجعة إلى الإنذار.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإنذارُ: إعلامٌ بمواضع الخوف، وإنما خص الخائفين بالإنذار كما خصَّ المتقين بإضافة الهدى إليهم حيث قال: {هُدًى لِلمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] لأن الانتفاع والاتِّباع بالتقوى، والإنذار اختص بهم. ويقال: الخوف ها هنا العلم، وإنما يخاف من علم، فأمَّا القلوب التي هي تحت غطاء الجهل فلا تباشرها طوارقُ الخوف. قوله: {مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} [السجدة: 4] يعني كما أنه لا ناصر لهم من الأغيار فلا معتمدَ لهم من أفعالهم، ولا مستندَ من أحوالهم، ولا يؤمنون شيئاً سوى صرف العناية وخصائص الرحمة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ} إمّا قوم داخلون في الإسلام مقرّون بالبعث إلاّ أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما يوحي إليه. {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين. وإمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث. وإمّا ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار، دون المتمردّين منهم، فأمر أن ينذر هؤلاء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {أنذر} عطف على {قل}، والنبي عليه السلام مأمور بإنذار جميع الخلائق، وإنما وقع التخصيص هنا بحسب المعنى الذي قصد، وذلك أن فيما تقدم من الآيات نوعاً من اليأس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة الذين قد قال فيهم أيضاً {أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فكأنه قيل له هنا: قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا، ودعهم ورأيهم لأنفسهم، وأنذر بالقرآن هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل للانتفاع، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم، بل الإنذار العام ثابت مستقر،
..وقوله {به} قال ابن عباس والزجاج بالقرآن. والدليل عليه قوله تعالى قبل هذه الآية {إن أتبع إلا ما يوحى إلى}. وقال الضحاك {وأنذر به} أي بالله، والأول أولى، لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وبالكلام لا بذات الله تعالى. أما قوله {الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} ففيه أقوال: الأول: أنهم الكافرون الذين تقدم ذكرهم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم من عذاب الآخرة، وقد كان بعضهم يتأثر من ذلك التخويف، ويقع في قلبه أنه ربما كان الذي يقوله محمد حقا، فثبت أن هذا الكلام لائق بهؤلاء، لا يجوز حمله على المؤمنين؛ لأن المؤمنين يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم، والعلم خلاف الخوف والظن. والقول الثاني: أن المراد منه المؤمنون، لأنهم هم الذين يقرون بصحة الحشر والنشر والبعث والقيامة فهم الذين يخافون من عذاب ذلك اليوم. والقول الثالث: أنه يتناول الكل لأن لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر، سواء قطع بحصوله أو كان شاكا فيه؛ لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة، فكان هذا الخوف قائما في حق الكل ولأنه عليه السلام كان مبعوثا إلى الكل، وكان مأمورا بالتبليغ إلى الكل، وخص في هذه الآية الذين يخافون الحشر، لأن انتفاعهم بذلك الإنذار أكمل، بسبب أن خوفهم يحملهم على إعداد الزاد ليوم المعاد.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا القرآن نذارة للخلق كلهم، ولكن إنما ينتفع به {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} فهم متيقنون للانتقال، من هذه الدار، إلى دار القرار، فلذلك يستصحبون ما ينفعهم ويدَعُون ما يضرهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها عزة هذه العقيدة، واستعلاؤها على قيم الأرض الزائفة، وتخلصها من الاعتبارات البشرية الصغيرة..
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدمها للناس دون زخرف ولا طلاء؛ ودون إطماع في شيء من قيم الأرض ولا إغراء.. كذلك أمر أن يوجه عنايته إلى من يرجى منهم الانتفاع بالدعوة، وأن يؤوي إليه الذين يتلقونها مخلصين؛ ويتجهون بقلوبهم إلى الله وحده يريدون وجهه؛ وألا يقيم وزنا بعد ذلك لشيء من قيم المجتمع الجاهلي الزائفة؛ ولا لشيء من اعتبارات البشر الصغيرة:
(وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، لعلهم يتقون)..
أنذر به هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، حالة أن ليس من دونه ولي ينصرهم ولا شفيع يخلصهم. ذلك أنه ما من شفيع يشفع عند الله إلا بإذنه، وهو لا يشفع يومئذ -بعد الإذن- إلا لمن ارتضى الله أن يتشفع عند الله فيهم.. فهؤلاء الذين تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم الذي ليس فيه -من دون الله- ولي ولا شفيع، أحق بالإنذار، وأسمع له، وأكثر انتفاعا به.. لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا وما يعرضهم لعذاب الله في الآخرة. فالإنذار بيان كاشف كما أنه مؤثر موح. بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه، ومؤثر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر؛ فلا يقعون فيما نهوا عنه بعدما تبين لهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الكلام السابق في المشركين وإعراضهم عن الآيات وختم الله تعالى على قلوبهم مع توالي الآيات والنذر عليهم وإعراضهم وقد يتوهم متوهم أن الإنذار لا جدوى منه ولكن ليس الناس جميعا كذلك، بل فيهم من تؤثر فيه الموعظة ويجدى فيه الإنذار والحق أن الناس قسمان: قسم تعتريه الرهبة من الغيب، ويخاف الحشر ان ذكر به، فلم يكن فيه اغترار يقسو به قلبه ويصرفه عن المنذرات والاستماع إلى داعي الحق وصنف غلبت عليه شقوته لا تجدى فيه موعظة، ولا يرهب الغيب وما فيه لأنه يعمه في غيه وهم في غفلتهم ساهون وهؤلاء لا يجدى فيهم النذير، وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم غشاوة وقد ذكر الزمخشري أن الذين يخافون أن يحشروا منهم المسلمون الذين يؤمنون بالبعث والنشور ولكن تتقاصر أعمالهم فيجديهم النذير ومنهم أهل الكتاب الذين لم يفسدهم الغرور ومنهم بعض المشركين الذين لم يطمس على قلوبهم بل لا يزال في قلوبهم نافذة ينفذ منها الندم، فإن علموا بالحشر خافوه فآمنوا ومن المشركين من يؤمنون بالحشر ولكن يظنون أن الشركاء الذين يبتدعونهم يشفعون لهم، فإذا أعلموا الحق فيه اتبعوه وما ذكرناه في تقسيمنا يعم هذه الأنواع وغيرها.
والضمير في به يعود إلى ما يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم وقد ذكرنا ضروب الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ويلاحظ بعض أمور:
أولها أن الإنذار للجميع فلا يختص الذين يخافون دون غيرهم ولكن الذين ينتفعون به هم الذين يخافون الحشر، وما وراءه من حساب وعقاب.
ثانيها أن العنصر المميز بين أهل الخير وغيرهم هو الخوف والخشية من الله فأولئك يكون فيهم رأفة ومع الرأفة يتفتح القلب للهداية ويدخله النور، ومع الغلظة يكون الظلام وكأن الغلظة حجارة قوية تجعل ما وراءها في ظلام دامس.
ثالثها أن الغرور باعتقاد شفيع أو ولى يناصر من دون الله تعالى يسد مسالك النور والهداية فلا بد أن يكون كل الإحساس لله سبحانه وتعالى.
رابعها أن الإنذار في هذه الحال يجعل للتقوى مكانا فيكون الرجاء فيها، وهو من العبد لا من الرب ولذا قال: (لعلهم يتقون).