{ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ } من جاهل خاطبهم به ، { قَالُوا } مقالة عباد الرحمن أولي الألباب : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي : كُلٌّ سَيُجازَى بعمله الذي عمله وحده ، ليس عليه من وزر غيره شيء . ولزم من ذلك ، أنهم يتبرءون مما عليه الجاهلون ، من اللغو والباطل ، والكلام الذي لا فائدة فيه .
{ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي لا تسمعون منا إلا الخير ، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم ، فإنكم وإن رضيتم لأنفسكم هذا المرتع اللئيم ، فإننا ننزه أنفسنا عنه ، ونصونها عن الخوض فيه ، { لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } من كل وجه .
{ وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } أى : وإذا سمعوا الكلام الساقط الذى لا خير فيه . انصرفوا عنه تكرما وتنزها .
{ وَقَالُواْ } لمن تطاول عليهم وآذاهم ، لنا أعمالنا ، التى سيحاسبنا الله - تعالى - عليها { وَلَكُمْ } - أيضا - أعمالكم ، التى سيحاسبكم الله - تعالى - عليها .
{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } أى : سلام متاركة منا عليكم ، وإعراض عن سفاهتكم ، فليس المراد بالسلام هنا : سلام التحية ، وإنما المقصود به سلام المتاركة والإعراض .
{ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } أى : إن ديننا ينهانا عن طلب صحبة الجاهلين ، وعن المجادلة معهم .
قال ابن كثير ما ملخصه : لما انتهى وفد أهل الكتاب من لقائه مع النبى صلى الله عليه وسلم ، وآمنوا به ، وقاموا عنه ، اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تكد تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم ، وصدقتموه فيما قاله ، ما نعلم وفدا أحمق منكم . . . فقالوا لهم : سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه .
وقوله : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ } أي : لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم ، بل كما قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } [ 0الفرقان : 72 ] .
{ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } أي : إذا سَفه عليهم سَفيه ، وكلمهم بما لا يَليقُ بهم الجوابُ عنه ، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح ، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب . ولهذا قال عنهم : إنهم قالوا : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } أي : لا نُريد طَريق الجاهلين ولا نُحبّها .
قال محمد بن إسحاق في السيرة : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك ، من النصارى ، حين{[22352]} بلغهم خبره من الحبشة . فوجدوه في المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه - ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة - فلما فرغوا من مساءلة رسول الله عما أرادوا ، دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش ، فقالوا{[22353]} لهم : خَيَّبَكُم الله مِنْ ركب . بعثكم مَنْ وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم{[22354]} بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ؛ ما نعلم ركبًا أحمق منكم . أو كما قالوا لهم . فقالوا [ لهم ]{[22355]} سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نَألُ أنفسَنا خيرًا{[22356]} .
قال : ويقال : إن النفر النصارى من أهل نجران ، فالله أعلم أيّ ذلك كان{[22357]} .
قال : ويقال - والله أعلم - إن فيهم نزلت هذه الآيات : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ } إلى قوله : { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } .
قال : وقد سألت الزهري عن هذه الآيات فيمن أنزلْن{[22358]} ، قال : ما زلتُ أسمع من علمائنا أنهن أنزلهن{[22359]} في النجاشي وأصحابه ، رضي الله عنهم ، والآيات التي{[22360]} في سورة المائدة : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } إلى قوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 82 ، 83 ]
ومعنى { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } أن أعمالنا مستحقة لنا كناية عن ملازمتهم إياها وأما قولهم { ولكم أعمالكم } فهو تتميم على حد { لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون : 6 ] .
والمقصود من السلام أنه سلام المتاركة المكنى بها عن الموادعة أن لا نعود لمخاطبتكم قال الحسن : كلمة : السلام عليكم ، تحية بين المؤمنين ، وعلامة الاحتمال من الجاهلين . ولعل القرآن غير مقالتهم بالتقديم والتأخير لتكون مشتملة على الخصوصية المناسبة للإعجاز لأن تأخير الكلام الذي فيه المتاركة إلى آخر الخطاب أولى ليكون فيه براعة المقطع .
وحذف القرآن قولهم : لم نأل أنفسنا رشداً ، للاستغناء عنه بقولهم { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } .
السابعة : ما أفصح عنه قولهم { لا نبتغي الجاهلين } من أن ذلك خلقهم أنهم يتطلبون العلم ومكارم الأخلاق . والجملة تعليل للمتاركة ، أي لأنا لا نحب مخالطة أهل الجهالة بالله وبدين الحق وأهل خُلق الجهل الذي هو ضد الحلم ، فاستعمل الجهل في معنييه المشترك فيها ولعله تعريض بكنية أبي جهل الذي بذا عليهم بلسانه .
والظاهر أن هذه الكلمة يقولونها بين أنفسهم ولم يجهروا بها لأبي جهل وأصحابه بقرينة قوله { ويدرأون بالحسنة السيئة } وقوله { سلام عليكم } وبذلك يكون القول المحكي قولين : قول وجهوه لأبي جهل وصحبه ، وقول دار بين أهل الوفد .