إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا ، وذلك لعدم عقلهم ولجهلهم العظيم ، وإلا فلو كان لهم عقول لخضعوا لها ، ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس .
فإذا علمتم -أيها المؤمنون- حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم ، فمن لم يعادهم بعد هذا دل على أن الإسلام عنده رخيص ، وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلال ، وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء .
فكيف تدعي لنفسك دينا قيما ، وأنه الدين الحق وما سواه باطل ، وترضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا ، وسخر به وبأهله ، من أهل الجهل والحمق ؟ ! وهذا فيه من التهييج على عداوتهم ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم .
ثم ذكر - سبحانه - بعض مظاهر استهزاء أولئك الضالين بالدين وشعائره ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً } .
والمراد بالنداء للصلاة : الإِعلام بها عن طريق الأذن .
قال القرطبي : كان إذا أذن وقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود : قاموا لا قاموا ، وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا .
وقالوا في حق الأذان : لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم . فمن أين لك صياح مثل صياح العير ؟ فما أقبحه من صوت ، وما أسمحه من أمر .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً } قال : كان رجل من النصارى بالمدينة ، إذا سمع المنادي ينادي : أشهد أن محمدا رسول الله . قال : حرف الكاذب . فدخل خادمه ليلا من الليالي بنار ، وهو نائم وأهله نيام ، فسقطت شرارة فأحرقت البيت . فاحترق هو وأهله .
وقيل : كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس منها .
أي : وإذا ناديتم - أيها المؤمنون - بعضكم بعضا إلى الصلاة عن طريق الأذان ، اتخذ هؤلاء الضالون الصلاة والمناداة بها موضعا لسخريتهم وعبثهم وتهكمهم .
واسم الإِشارة في قوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } يعود إلى ما كان منهم من استهزاء وسخرية .
أي : ذلك الذي صدر عنهم من استهزاء وعبث سببه أنهم قوم سفهاء جهلاء ، لا يدركون الأمور على وجهها الصحيح ، ولا يستجيبون للحق الذي ظهر لهم بسبب عنادهم وأحقادهم .
قال ابن كثير : هذا تنفير من موالاة أعداء الإِسلام من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون وهي شرائع الإِسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دينوي وأخروي ، يتخذونها هزوا يستهزئون بها ، ولعبا يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد ، وفكرهم البارد ، كما قال القائل .
وقوله [ تعالى ]{[9993]} { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا } أي : وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب { اتَّخَذُوهَا } أيضًا { هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } مَعَانِي عبادة الله وشرائعه ، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي " إذا سمع الأذان أدبر وله حُصَاص ، أي : ضراط حتى لا يسمع التأذين ، فإذا قضي التأذين أقبل ، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر ، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه ، فيقول : اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر ، حتى يظل الرجل إن يدري{[9994]} كم صلَّى ، فإذا وجد أحدكم ذلك ، فليسجد سجدتين قبل السلام " . متفق عليه .
وقال الزهري : قد ذكر الله [ تعالى ]{[9995]} التأذين في كتابه فقال : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } رواه ابن أبي حاتم .
وقال أسباط ، عن السُّدِّي ، في قوله : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا } قال : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي : " أشهد أن محمدًا رسول الله " قال : حُرّق الكاذب ! فدخلت خادمة{[9996]} ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام ، فسقطت شرارة فأحرقت البيت ، فاحترق هو وأهله . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ، ومعه بلال ، فأمره أن يؤذن ، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب بن أسيد : لقد أكرم الله أسيدًا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه . وقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته . فقال أبو سفيان : لا أقول شيئًا لو تكلمتُ لأخبرت عني هذه الحصى . فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قد علمت الذي قلتم " ثم ذكر ذلك لهم ، فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله ، [ والله ]{[9997]} ما اطلع على هذا أحد كان معنا ، فنقول أخبرك . {[9998]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح بن عبادة ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرنا عبد العزير بن عبد الملك بن أبي محذورة ؛ أن عبد الله بن مُحَيريز أخبره - وكان يتيمًا في حجر أبي محذورة - قال : قلت لأبي محذورة : يا عم ، إني خارج إلى الشام ، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك . فأخبرني أن أبا محذورة قال له : نعم خرجت في نفر ، وكنا{[9999]} ببعض طريق حنين ، مقفل{[10000]} رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنَيْن ، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون{[10001]} فصرخنا نحكيه ونستهزئ به ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت ، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم الذي سمعتُ صوته قد ارتفع ؟ " فأشار القوم كلهم إليّ ، وصدقوا ، فأرسل كلَّهم وحبسني . وقال{[10002]} " قم فأذّن بالصلاة " . فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه ، قال : " قل الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدًا رسول الله ، أشهد أن محمدًا رسول الله ، " ثم قال لي : " ارجع فامدد من صوتك " . ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله " . ثم دعاني حين قضيت التأذين ، فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فضة ، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ، ثم أمرّها على وجهه ، ثم بين ثدييه{[10003]} ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله سرة أبي محذورة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بارك الله فيك وبارك عليك " . فقلت : يا رسول الله ، مُرْني بالتأذين بمكة . فقال قد " أمرتك به " . وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهة ، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة ، على نحو ما أخبرني عبد الله بن مُحَيريز .
هكذا رواه الإمام أحمد ، وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، وأهل السنن الأربعة من طريق{[10004]} عن عبد الله بن محيريز ، عن أبي محذورة{[10005]} - واسمه : سَمُرَة بن مِعْيرَ بن لوذان - أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة ، وهو مؤذن أهل مكة ، وامتدت أيامه ، رضي الله عنه وأرضاه .
{ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا } أي اتخذوا الصلاة ، أو المنادة وفيه دليل على أن الأذان مشروع للصلاة . روي : أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله ، قال أحرق الله الكاذب ، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شررها في البيت فأحرقه وأهله . { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق والهزؤ به ، والعقل يمنع منه .