اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ} (58)

[ الضَّمير في " اتَّخَذُوها " يجُوزُ ]{[12123]} أن يعودُ على الصَّلاة وهو الظَّاهِر ، ويجُوز أن يَعُود على المَصْدَرِ المفهُوم من الفِعْل ، أي : اتَّخَذُوا المُنَاداة ، ذكره الزَّمَخْشَرِي ، وفيه بُعْدٌ ؛ إذ لا حاجة مع التَّصْريح بما يَصْلُح أن يَعُود عليه الضَّمِير ، بخلافِ قوله تعالى : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] .

فصل

قال الكلبي : كان مُنَادِي رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، إذا نَادَى إلى الصَّلاة وقام المُسْلِمُون إليها ، قالت اليَهُود : قاموا لا قَامُوا ، وصلُّوا لا صلُّوا على طريق الاسْتهْزَاء وضَحِكوا ، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الشَّرِيفة{[12124]} ، وقال السُّدِّي : نزلت في رَجُلٍ من النَّصَارى بالمدِينة ، كان إذا سَمِعَ المُؤذِّن يقول : أشْهَدُ أن محمَّداً رسُول الله - قال : حُرق الكَاذِبُ ، فدخل [ خادمه ] ذاتَ لَيْلَة بنارٍ وهو وأهْله نِيَام فتطايَرَتْ منها شَرارة ، فاحْتَرَق البَيْتُ وأهْلُه{[12125]} .

وقال آخَرُون{[12126]} : إن الكُفَّار لما سَمِعُوا الأذَان حَسَدُوا المُسْلِمين ، فَدَخلُوا على رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وقالُوا : يا محمَّد : لقد ابتدَعْتَ شَيْئاً لم يُسْمَع به فيما مَضَى من الأمَمِ ، فإن كنت تَدَّعي النُّبُوة فقد خَالَفْت فيما أحْدَثَت الأنبياء قَبْلَك ، ولو كان فيه خَيْراً لكان أولى النَّاس به الأنبياء ، فمن أين لك صياحٌ كصياحِ العير ، فما أقبح من صوت ، وما أسْمَج من أمْر ، فأنْزَل الله هذه الآية ، ونزل : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ } [ فصلت : 33 ] قالوا : دلَّت هذه الآيةُ على ثُبُوت الأذَان بِنَصِّ الكِتَاب لا بالْمَنام وحْدَه .

قال القُرْطُبِي{[12127]} : قال العُلَمُاء - رضي الله عنهم - ولم يكن الأذَانُ بمكَّة قَبْل الهِجْرة ، وإنما كانوا يُنَادُون " الصَّلاة جَامِعَة " ، فلما هَاجَر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وصُرفت القِبْلَة إلى الكَعْبَة أمِرَ بالأذَان ، وبقي " الصَّلاة جَامِعَة " للأمر ، وكانَ النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قَدْ أهمَّه أمر الأذانِ حتى أُرِيَهُ عبد الله بن زَيْد ، وعُمر بن الخطاب وأبُو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنهم - وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - سمع الأذَان ليلة الإسْرَاء إلى السَّمَاء ، وأما رُؤيا عبد اللَّه بن زَيْد وعمر - رضي الله عنهما - فمشهورة ، وأمر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - بلالاً فأذَّن بالصَّلاة أذانَ اليَوْم ، وزَادَ بلالٌ في الصُّبْح " الصَّلاة خَيْرٌ من النَّوْمِ " ، فأقرَّها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وليست فيما رَآه الأنْصَاري ، ذكره ابن سعْد عن بن عمر - رضي الله عنهما - ، ثمَّ ذكر الدَّارَقُطْنِيُّ ؛ أن الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أري الأذان ، وأنَّه أخبر النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، وأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أمر بِلالاً بالأذَانِ قَبْل أن يُخْبِرَه عَبد الله بن زَيْد ، ذكره الدَّارقُطْنِي في كتاب " المدبج " لَهُ في حَدِيث النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن أبِي بَكْر الصِّدِّيق - رضي الله عنه{[12128]} .

قوله تعالى : " ذَلِكَ بأنَّهُم " مُبْتَدأ وخبر ، أي : ذَلِك الاسْتِهْزَاء مُسْتِقِرٌّ ؛ بسبب عدم عَقْلِهِم .


[12123]:سقط في أ.
[12124]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (6/146) عن الكلبي وأخرجه البيهقي في "الدلائل" (6/275) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
[12125]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/631) عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/521) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[12126]:ينظر: تفسير الرازي 2/48.
[12127]:ينظر: تفسير القرطبي 6/146.
[12128]:ينظر: القرطبي 6/146.