{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ } أي : أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم وتعبوا فيها ، { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } أي باطلا مضمحلا قد خسروه وحرموا أجره وعوقبوا عليه وذلك لفقده الإيمان وصدوره عن مكذب لله ورسله ، فالعمل الذي يقبله الله ، ما صدر عن المؤمن المخلص المصدق للرسل المتبع لهم فيه .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك وعيدا آخر لهؤلاء الكافرين فقال : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } .
والهباء : الشيء الدقيق الذى يخرج من النافذة مع ضوء الشمس شبيها بالغبار .
والمنثور : المتفرق فى الجو بحيث لا يتأتى جمعه أو حصره .
أي وقدمنا : وقصدنا وعمدنا - بإرادتنا وحكمتنا إلى ما عمله هؤلاء الكافرون من عمل صالح فى الدنيا - كالإحسان إلى الفقراء ، والإنفاق فى وجوه الخير - فجعلناه باطلا ضائعا ، ممزقا كل ممزق ، لأنهم فقدوا شرط قبوله عندنا ، وهو إخلاص العبادة لنا .
فقد شبه - سبحانه - أعمالهم الصالحة فى الدنيا فى عدم انتفاعهم بها يوم القيامة - بالهباء المنثور ، الذى تفرق وتبدد وصار لا يرجى خير من ورائه لحقارته وتفاهته .
وقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } ، وهذا يوم القيامة ، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر ، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال - التي ظنوا أنها منجاة لهم - شيء ؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي ، إما الإخلاص فيها ، وإما المتابعة لشرع الله . فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية ، فهو باطل . فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين ، وقد تجمعهما معا ، فتكون أبعد من القبول حينئذ ؛ ولهذا قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } .
قال مجاهد ، والثوري : { وَقَدِمْنَا } أي : عمدنا .
وقال السدي : ( قدمنا ) : عَمَدنا . وبعضهم يقول : أتينا عليه .
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ، في قوله : { [ فَجَعَلْنَاهُ ]{[21458]} هَبَاءً مَنْثُورًا } ، قال : شعاع الشمس إذا دخل في الكوَّة . وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي . ورُوي مثله عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، والسُّدِّي ، والضحاك ، وغيرهم . وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدهم{[21459]} ، ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : هو الماء المهراق .
وقال أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : الهباء رَهْج{[21460]} الدواب . ورُوي مثله عن ابن عباس أيضا ، والضحاك ، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال قتادة في قوله : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : أما رأيت يَبِيس الشجر إذا ذرته{[21461]} الريح ؟ فهو ذلك الورق .
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عاصم بن حكيم ، عن أبي سريع الطائي ، عن يعلى بن عبيد{[21462]} قال : وإن الهباء الرماد .
وحاصل هذه الأقوال التنبيهُ على مضمون الآية ، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء ، فلما عرضت على الملك الحكيم{[21463]} العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا ، إذا إنها لا شيء بالكلية . وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق ، الذي لا يقدر منه صاحبه على شيء بالكلية ، كما قال الله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } [ إبراهيم : 18 ] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا } [ البقرة : 264 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [ النور : 39 ] وتقدم الكلام على تفسير ذلك ، ولله الحمد والمنة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إِلَىَ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُوراً * أَصْحَابُ الْجَنّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : وَقَدِمْنَا وعمدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون مِنْ عَمَلٍ ومنه قول الراجز :
وَقَدِمَ الخَوَارِجُ الضلاّلُ *** إلى عِبادِ رَبّهمْ وَقالُوا
*** إنّ دِماءَكُمْ لَنا حَلالُ ***
يعني بقوله : قدم : عمد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَقَدِمْنَا قال : عَمَدنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله وقوله : فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورا يقول : فجعلناه باطلاً ، لأنهم لم يعملوه لله وإنما عملوه للشيطان . والهباء : هو الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوّة يحسبه الناظر غبارا ليس بشيء تقبض عليه الأيدي ولا تمسه ، ولا يرى ذلك في الظلّ .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرِمة أنه قال في هذه الاَية هَباءً مَنْثُورا قال : الغبار الذي يكون في الشمس .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورا قال : الشعاع في كوّة أحدهم إن ذهب يقبض عليه لم يستطع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : هَباءً مَنْثُورا قال : شعاع الشمس من الكوّة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثنى حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله هَباءً مَنْثورا قال : ما رأيت شيئا يدخل البيت من الشمس تدخله من الكوّة ، فهو الهباء .
وقال آخرون : بل هو ما تسفيه الرياح من التراب ، وتذروه من حطام الأشجار ، ونحو ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله : هَباءً مَنْثُورا قال : ما تسفي الريح وتَبُثّهُ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عن قَتادة هَباءً مَنْثُورا قال : هو ما تذرو الريح من حطام هذا الشجر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن يزيد ، في قوله : هَباءً مَنْثُورا قال : الهباء : الغبار .
وقال آخرون : هو الماء المُهراق . ذكر من قال ذلك :
19975حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : هَباءً مَنْثُورا يقال : الماء المهراق .
ثم أخبر تعالى عما يأتي عليه قضاؤه وفعله فقال حكاية عن يوم القيامة { وقدمنا } أي قصد حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة ، وقيل هو قدوم الملائكة أسنده إليه لأنه عن أمره ، وحسنت لفظة { قدمنا } لأن القادم على شيء مكروه لم يقدره ولا أمر به مغير له مذهب ، وأما قول الراجز :
وقدم الخوارج الضلال . . . إلى عباد ربنا فقالوا :
إن دماءكم لنا حلال . . . {[8809]} فالقدوم فيه على بابه ، ومعنى الآية وقصدنا إلى أعمالهم التي هي في الحقيقة لا تزن شيئاً إذ لا نية معها فجعلناها على ما تستحق لا تعد شيئاً وصيرناها { هباء منثوراً } أي شيئاً لا تحصيل له ، والهباء هي الأجرام المستدقة الشائعة في الهواء التي لا يدركها حس إلا حين تدخل الشمس على مكان ضيق يحيط به الظل كالكوة أو نحوها ، فيظهر حينئذ فيما قابل الشمس أشياء تغيب وتظهر فذلك هو الهباء ، ووصفه في هذه الآية ب { منثور } ، ووصفه في غيرها ب «منبث »{[8810]} ، فقالت فرقة هما سواء ، وقالت فرقة المنبث أرق وأدق من المنثور لأن المنثور يقتضي أن غيره نثره كسنابك الخيل والريح أو هدم حائط أو كنس ونحو ذلك ، والمنبث كأنه هو انبث من دقته ، وقال ابن عباس{[8811]} الهباء المنثور ، ما تسفي به الرياح وتبثه ، وروي عنه أنه قال أيضاً الهباء الماء المهراق والأول أصح والعرب تقول أهبات الغبار والتراب ونحوه إذا بثثته وقال الشاعر { الحارث بن حلزة اليشكري ] : [ الخفيف ]
وترى خلفها من الربع والوق . . . ع منيناً كأنه أهباء{[8812]}
كانوا في الجاهلية يعدّون الأعمال الصالحة مَجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذ كانوا لا يؤمنون بالبعث ، وقد قالت خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم حين تحيّر في أمر ما بدأه من الوحي وقالَ لها : « لقد خشِيتُ على نفسي » ، فقالت : « والله لا يخزيك الله أبداً . إنك لتصل الرحم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق » . فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم : لئن كان البعث حقّاً لنجدنّ أعمالاً عملناها من البرّ تكون سبباً لنجاتنا ، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذٍ .
والقدوم مستعمل في معنى العَمْد والإرادة ، وأفعال المشي والمجيء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعَزم والشروع مثل : قَام يفعل ، وذَهب يقول ، وأقبل ، ونحوها . وأصل ذلك ناشىء عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يَمشي إليه ، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول : وعَمَدْنا أو أردنا إلى ما عملوا .
و { مِن } في قوله : { من عمل } بيانية لإبهام { ما } وتنكير { عمل } للنوعية ، والمراد به عمل الخير ، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير .
والهباء : كائنات جسمية دقيقة لا تُرى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوّة ونحوها ، تلوح كأنها سَابحة في الهواء وهي أدق من الغبار ، أي فجعلناه كهباء منثور ، وهو تشبيه لأعمالهم في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة بالهَباء في عدم إمساكه مع كونه موجوداً ، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق . ونظيره قوله تعالى : { وبُسّت الجبالُ بسّاً فكانت هباءً منبثاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] .
والمنثور : غير المنتظم ، وهو وصف كاشِف لأن الهباء لا يكون إلاّ منثوراً ، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق .