المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

18- ألم تعلم - أيها العاقل - أن الله يخضع لتصريفه مَنْ في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب ، وكثير من الناس يؤمن بالله ويخضع لتعاليمه فاسْتَحقُّوا بذلك الجنة ، وكثير منهم لم يؤمن به ولم ينفذ تعاليمه فاستحقوا بذلك العذاب والإهانة ، ومن يطرده الله من رحمته ويهنه لا يقدر أحد على إكرامه ، إن الله قادر على كل شيء ، فهو يفعل ما يريد .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

ثم بين - سبحانه - أن الكون كله يخضع لسلطانه - تعالى - ويسجد لوجهه فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ . . . } .

الاستفهام فى قوله { أَلَمْ تَرَ . . . } للتقرير . والرؤية هنا بمعنى العلم وذلك لأن سجود هذه الكائنات لله - تعالى - آمنا به عن طريق الإخبار دون أن نرى كيفيته .

والسجود فى اللغة : التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وما يشبهه . وخص فى الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة .

والمراد به هنا : دخول الأشياء جميعها تحت قبضة الله - تعالى - وتسخيره وانقيادها لكل ما يريده منا انقيادا تاماً ، وخوضعها له - عز وجل - بكيفية هو الذى يعلمها . فنحن نؤمن بأن هذه الكائنات تسجد لله - تعالى - ونفوض كيفية هذا السجود له - تعالى - .

والمعنى : لقد علمت - أيها العاقل - أن الله - تعالى - يسجد له ، ويخضع لسلطانه جميع من فى السموات وجميع من فى الأرض .

وقوله : { والشمس والقمر والنجوم } عطف خاص على قوله : { مَن فِي السماوات } .

ونص - سبحانه - عليها مفرداً إياها بالذكر ، لشهرتها ، ولاستبعاد بعضهم حدوث السجود منها ، ولأ آخرين كانوا يعبدون هذه الكواكب ، فبين - سبحانه - أنها عابدة وساجدة لله ، وليست معبودة .

وقوله - تعالى - : { والجبال والشجر والدوآب } عطف خاص على { مَن فِي الأرض } ونص - سبحانه - عليها - أيضاً - لأن بعضهم كان يعبدها ، أو يعبد ما يؤخذ منها كالأصنام .

وقوله - تعالى - { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } بيان الذين اهتدوا إلى طريق الحق . أى : ويسجد له - كذلك - كثير من الناس ، وهم الذين خلصت عقولهم من شوائب الشرك والكفر ، وطهرت نفوهسم من الأدناس والأوهام .

وقوله : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } بيان لحال الذين استحبوا العمى على الهدى .

أى : وكثير من الناس حق وثبت عليهم العذاب ، بسبب إصرارهم على الكفر ، وإيثارهم الغى على الرشد .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على نفاذ قدرته ، وعموم مشيئته فقال : { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } . و " من " شرطية ، وجوابها : " فما له من مكرم " ومكرم اسم فاعل من أكرم .

أى : ومن يهنه الله ويخزه ، فما له من مكرم يكرمه ، أو منقذ ينقذه مما هو فيه من شقاء ، إن الله - تعالى - يفعل ما يشاء فعله بدون حسيب يحاسبه ، أو معقب يعقب على حكمه .

قال - تعالى - : { والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، فإنه يسجد{[20056]} لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود [ كل شيء مما ]{[20057]} يختص به ، كما قال : { أَوَلَمْ يَرَوْا{[20058]} إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] . وقال هاهنا : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ } أي : من الملائكة في أقطار السموات ، والحيوانات في جميع الجهات ، من الإنس والجن والدواب والطير ، { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] .

وقوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ } : إنما ذكر هذه على التنصيص ؛ لأنها قد عُبدت من دون الله ، فبين أنها تسجد لخالقها ، وأنها مربوبة مسخرة { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] .

وفي الصحيحين عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟ " . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها : ارجعي من حيث جئت " {[20059]} .

وفي المسند وسنن أبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، في حديث الكسوف : " إن الشمس والقمر خَلْقان من خَلْق الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله عز وجل إذا تَجَلى لشيء من خلقه خشع{[20060]} له " {[20061]} .

وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر ، إلا يقع لله ساجدًا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه .

وأما الجبال والشجر فسجودهما بفَيء ظلالهما{[20062]} عن اليمين والشمائل : وعن ابن عباس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رأيتني الليلة وأنا نائم ، كأني أصلي خلف شجرة ، فسجدتُ فسجَدَت الشجرة لسجودي ، فسمعتُها وهي تقول : اللهم ، اكتب لي بها عندك أجرًا ، وضع عني بها وزرًا ، واجعلها لي عندك ذخرًا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود . قال ابن عباس : فقرأ

النبي{[20063]} صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سَجَد ، فسمعته وهو يقولُ مثلَ ما أخبره الرجل عن قول الشجرة .

رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبّان في صحيحه{[20064]} .

وقوله : { وَالدَّوَابُّ } أي : الحيوانات كلها .

وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب{[20065]}منابر{[20066]} فرب مركوبة خير{[20067]} وأكثر ذكرًا لله من راكبها .

وقوله : { وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } أي : يسجد لله طوعا مختارًا متعبدًا بذلك ، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } أي : ممن امتنع وأبى واستكبر ، { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن شيبان الرملي ، حدثنا القداح ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : قيل لعلي : إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة . فقال له علي : يا عبد الله ، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت{[20068]} ؟ قال : بل كما شاء . قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء . قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء . قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء ؟ قال : بل حيث يشاء . قال : والله لو قلت غير ذلك لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف .

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قرأ ابنُ آدم السجدة اعتزل{[20069]} الشيطان يبكي يقول : يا ويله . أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمِرتُ بالسجود فأبيتُ ، فلي النار " رواه مسلم{[20070]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا مَشْرَح بن هاعان{[20071]} أبو مُصعب المعافري قال : سمعت عقبة بن عامر يقول : قلت يا رسول الله ، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : " نعم ، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما " .

ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث عبد الله بن لهيعة ، به{[20072]} . وقال الترمذي : " ليس بقوي{[20073]} " وفي هذا نظر ؛ فإن ابن لَهِيعة قد صَرح فيه بالسماع ، وأكثر ما نَقَموا عليه تدليسه .

وقد قال أبو داود في المراسيل : حدثنا أحمد بن عمرو بن السَّرح ، أنبأنا ابن وَهْب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن عامر بن جَشِب{[20074]} ، عن خالد بن مَعْدان ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فُضِّلت سورة الحج على القرآن بسجدتين " .

ثم قال أبو داود : وقد أسندَ هذا ، يعني : من غير هذا الوجه ، ولا يصح{[20075]} .

وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا يزيد بن عبد الله ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو ، حدثنا حفص بن عنان ، حدثني نافع ، حدثني أبو الجهم : أن عمر سجد سجدتين في الحج ، وهو بالجابية ، وقال : إن هذه فضلت بسجدتين{[20076]} .

وروى أبو داود وابن ماجه ، من حديث الحارث بن سعيد العُتَقيّ ، عن عبد الله بن مُنَين ، عن عمرو بن العاص ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المُفَصّل ، وفي سورة الحج سجدتان{[20077]} . فهذه{[20078]} شواهد يَشُدّ بعضها بعضا .


[20056]:- في ت : "سجد".
[20057]:- زيادة من ف.
[20058]:- في ت : "يرى".
[20059]:- صحيح البخاري برقم (4803) وصحيح مسلم برقم (159).
[20060]:- في ف ، أ : "خضع".
[20061]:- المسند (4/267) وسنن أبي داود برقم (1177) وسنن النسائي (14113) وسنن ابن ماجه برقم (1262).
[20062]:- في ت : "فسجودها على ظلالها".
[20063]:- في ت : "رسول الله".
[20064]:- سنن الترمذي برقم (579) وسنن ابن ماجه برقم (1053) وقال الترمذي : "هذا حديث غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
[20065]:- في ف ، أ : "الحيوانات".
[20066]:- ورواه أبو داود في السنن برقم (2567) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[20067]:- في ف : "خيرا".
[20068]:- في ت ، ف : "لما يشاء أو لما شئت".
[20069]:- في ف : "فاعتزل".
[20070]:- صحيح مسلم برقم (81).
[20071]:- في أ : "عاهان".
[20072]:- المسند (4/151) وسنن أبي داود برقم (1402) وسنن الترمذي برقم (578).
[20073]:- في ف : "ليس هو بقوي".
[20074]:- في ف ، أ : "جيب".
[20075]:- المراسيل برقم (78).
[20076]:- ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/317) من طريق نافع عن رجل من أهل مصر أنه صلى مع عمر بن الخطاب فذكر مثله.
[20077]:- سنن أبي داود برقم (1401) وسنن ابن ماجه برقم (1057).
[20078]:- في ف : "فهو".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد بقلبك ، فتعلم أن الله يسجد له من في السموات من الملائكة ، ومن في الأرض من الخلق من الجنّ وغيرهم ، والشمس والقمر والنجوم في السماء ، والجبال ، والشجر ، والدوابّ في الأرض وسجود ذلك ظلاله حين تطلع عليه الشمس وحين تزول إذا تحوّل ظلّ كل شيء فهو سجوده . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ والنّجُومُ والجِبالُ والشّجَرُ والدّوَابّ قال : ظلال هذا كله .

وأما سجود الشمس والقمر والنجوم ، فإنه كما :

حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ومحمد بن جعفر ، قالا : حدثنا عوف ، قال : سمعت أبا العالية الرياحي يقول : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين وزاد محمد : حتى يرجع إلى مطلعه .

وقوله : وكَثيرٌ منَ النّاسِ يقول : ويسجد كثير من بني آدم ، وهم المؤمنون بالله . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ قال : المؤمنون .

وقوله : وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ يقول تعالى ذكره : وكثير من بني آدم حق عليه عذاب الله فوجب عليه بكفره به ، وهو مع ذلك يسجد لله ظله . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ وهو يسجد مع ظله .

فعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد ، وقع قوله : وكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ بالعطف على قوله : وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ ويكون داخلاً في عداد من وصفه الله بالسجود له ، ويكون قوله : حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ من صلة «كثير » ، ولو كان «الكثير » الثاني ممن لم يدخل في عداد من وصفه بالسجود كان مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله : حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ وكان معنى الكلام حينئذٍ : وكثير أتى السجود ، لأن قوله : حَقّ عَلَيْهِ العَذَابُ يدلّ على معصية الله وإبائه السجود ، فاستحقّ بذلك العذاب .

يقول تعالى ذكره : ومن يهنه الله من خلقه فَبُشْقِه ، فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بالسعادة يسعده بها لأن الأمور كلها بيد الله ، يوفّق من يشاء لطاعته ويخذل من يشاء ، ويُشقي من أراد ويسعد من أحبّ .

وقوله : إنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ يقول تعالى ذكره : إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته وإكرام من أراد كرامته لأن الخلق خلقه والأمر أمره . لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ . وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه : «فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ » بمعنى : فما من إكرام ، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩} (18)

{ ألم تر } تنبيه رؤية القلب ، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جمع لله وخضوعها ، وذكر في الآية كل ما عبد الناس إذ في المخلوقات أعظم مما قد ذكر كالرياح والهواء ف { من في السماوات } الملائكة ، { ومن في الأرض } من عبد من الشر ، { والشمس } كانت تعبدها حمير وهو قوم بلقيس ، والقمر كانت كنانة تعبده قاله ابن عباس ، وكانت تميم تعبد الدبران ، وكانت لخم تعبد المشتري ، وكانت طيِّىء تعبد الثريا وكانت قريش تعبد الشعري ، وكانت أسد تعبد عطارد ، وكانت ربيعة تعبد المرزم ، { والجبال والشجر } منها النار وأصنام الحجارة والخشب ، { والدواب } فيها البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه ، و «السجود » في هذه الآية هو بالخضوع والانقياد للأمر قال الشاعر «ترى الأكم فيه سجداً للحوافر »{[8327]} . وهذا مما يتعذر فيه السجود والمتعارف ، وقال مجاهد : سجود هذه الأشياء هو بظلالها ، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها . ع : هذا وهو وإنما خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة ، وقوله تعالى : { وكثير حق عليه العذاب } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم ، أي { وكثير حق عليه العذاب } يسجد ، أي كراهية وعلى رغمه ، إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره ونحو ذلك ، قاله مجاهد ، وقال : سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله { وكثير من الناس } لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك { ومن يهن الله } الآية وقرأ جمهور الناس «من مكرِم » بكسر الراء ، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل ، وقرأ الجمهور «والدوابّ » مشددة الباء ، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة : [ البسيط ]

كأن إبريقهم ظبي على شرف . . . مفدم بسبا الكتان ملثوم{[8328]}

أراد بسبائب الكتان وأنشد أبو علي في مثله : [ الكامل ]

حتى إذا ما لم أجد غير الشر . . . كنت أمرأً من مالك بن جعفر{[8329]}

وهذا باب إنما يستعمل في الشعر فلذلك ضعفت هذه القراءة .


[8327]:هذا عجز بيت قاله زيد الخيل، والبيت بتمامه: بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر والبلق: سواد وبياض في الدابة، أو هو ارتفاع التحجيل إلى الفخذين، والحجرات: النواحي، والأكمة: المكان المرتفع، وجمعها أكمات وأكم، وجمع الأكم إكام، وجمع الإكام: أكم، وتخفف هذه فيقال أكم، وسجود الأكم للحوافر كناية عن خضوعها لها لأن السجود بمعناه المتعارف عليه غير ممكن في الأكم. هذا وزيد الخيل شاعر من طيئ، جاهلي وأدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وسماه "زيد الخير" وقال له: (ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون الصفة ليسك".
[8328]:البيت من قصيدة لعلقمة يقدم فيها آراءه وخواطره في الحياة، وهو واحد من أبيات يصف فيها الخمر التي يحبها ويعشقها، والإبريق هنا هو الإناء الذي توضع فيه الخمر لتصب في الكئوس، والشرف: المكان المرتفع، والمفدم: الذي غطي فمه، يقال: فدم الإبريق إذا غطى فمه. و (سبا الكتان) أصلها: سبائب الكتان حذف منها المحذوف على غير قياس للتخفيف، وهي موضع الشاهد هنا، والسبائب جمع سب، وهي شقة كتان رقيقة، وقيل: السبائب واحدها سبيبة وهي الثوب الرقيق يصنع من الحرير. ولثم الإبريق: شد الفدام ـ أي الغطاء ـ على بعض رأسه وترك بعضه للنفس. ويروى: مرثوم ـ بالراء ـ ومعناها: في أنفه بياض، أو أنه مكسور وقد تقطر منه الدم، يريد أن أنف الإبريق فيه بياض، أو أنه مكسور تتقطر منه قطرات الخمر. والشاعر في البيت يشبه الإبريق في انتصابه وبياضه بظبي وقف على مكان مرتفع، ويصور مدى العناية بالخمر إذ يضعونها في الإبريق ويغطون طرفه نسيج رقيق من الكتان الأبيض.
[8329]:البيت في المحتسب، وقد قال عن قراءة الزهري [والدواب] بتخفيف الباء: إنها ضعيفة قياسا وسماعا، ولكن للتخفيف ضرب من العذر، فهم إذا كرهوا تضعيف الحرف فقد يحذفون أحدهما فيقولون في (ظللت): ظلت، وفي (أحسست): أحست، وقد أنشد أبو علي هذا البيت. والشاهد فيه أنه قال: (الشر) فحذف الراء الثانية، وكان المفروض أن يقول: (غير الشر).