{ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فلو افتديتم بمثل الأرض ذهبا ومثله معه ، لما تقبل منكم ، { مَأْوَاكُمُ النَّارُ } أي : مستقركم ، { هِيَ مَوْلَاكُمْ } التي تتولاكم وتضمكم إليها ، { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } النار .
[ قال تعالى : ] { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ }
{ فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ } أيها المنافقون { فِدْيَةٌ } وهى ما يبذل من أجل افتداء النفس من العذاب .
{ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } أى : ولا يؤخذ - أيضا - من الذين كفروا ظاهرا وباطنا فداء .
{ مَأْوَاكُمُ } جميعا { النار } . أى : المكان الذى تستقرون فيه ، هو النار .
{ هِيَ مَوْلاَكُمْ } أى : هذه النار هى أولى بكم من غيرها .
والأصل هى مكانكم الذى يقال فيه أولى بكم .
ويجوز أن يكون المعنى : هذه النار : هى ناصركم ، من باب التهكم بهم ، على حد قول الشاعر : تحية بينهم ضرب وجيع . . . أى : لا ناصر لكم إلا النار .
والمراد نفى الناصر لهم على سبيل القطع ، بعد نفى أخذ الفدية منهم .
قال صاحب الكشاف : قوله : { هِيَ مَوْلاَكُمْ } قيل : هى أولى بكم . . . وحقيقة مولاكم ، أى : مكانكم الذى يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم ، أى مكان لقول القائل إنه لكريم .
ويجوز أن يراد : هى ناصركم . أى ، لا ناصر لكم غيرها . والمراد : نفى الناصر على البتات ، ونحوه قولهم أصيب فلان بكذا فاستنصر بالجزع . ومنه قوله - تعالى - { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل } وقيل : هى مولاكم ، أى تتولاكم كما توليتم فى الدنيا أعمال أهل النار .
وعطف - سبحانه - الذين كفروا على المنافقين فى عدم قبول الفدية ، لاتحادهم فى التكذيب بيوم الدين ، وفى الاستهزاء بالحق الذى جاءهم من عند الله - تعالى - .
والمخصوص بالذم فى قوله - تعالى - : { وَبِئْسَ المصير } محذوف والتقدير : وبئس المصير جهنم التى هى المكان الذى تصيرون إليه .
فأنت ترى أن المؤمنين قد بينوا للمنافقين ، أنهم يوافقونهم على أنهم كانوا معهم فى الدنيا .
ولكن الذى أدى بهؤلاء المنافقين إلى هذا المصير الليم هو : فتنة أنفسهم ، والتربص بالمؤمنين ، والارتياب فى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاغترار بخداع الشيطان . . . فما نزل بهم من عذاب إنما هو بسبب أفعالهم القبيحة .
{ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا }أي : لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهبًا ومثله معه ليفتدى به من عذاب الله ، ما قبل منه .
وقوله : { مَأْوَاكُمُ النَّارُ } أي : هي مصيركم وإليها منقلبكم .
وقوله : { هِيَ مَوْلاكُمْ } أي : هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم ، وبئس المصير .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمنين لأهل النفاق ، بعد أن ميز بينهم في القيامة فالْيَوْمَ أيها المنافقون لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ يعني : عوضا وبدلاً يقول : لا يؤخذ ذلك منكم بدلاً من عقابكم وعذابكم ، فيخلصكم من عذاب الله وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا يقول : ولا تؤخذ الفدية أيضا من الذين كفروا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين ، ولا من الذين كفروا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ من المنافقين وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا معكم مأوَاكُمُ النّارُ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ فقرأت ذلك عامة القرّاء بالياء يُؤْخَذُ ، وقرأه أبو جعفر القارىء بالتاء .
وأولى القراءتين بالصواب الياء وإن كانت الأخرى جائزة .
وقوله : مأْوَاكُمُ النّارُ يقول : مثواكم ومسكنكم الذي تسكنونه يوم القيامة النار .
وقوله : هِيَ مَوْلاكُمْ يقول : النار أولى بكم .
وقوله : وَبِئْسَ المَصِيرُ يقول : وبئس مصير من صار إلى النار .
فاليوم لا يؤخذ منكم فدية فداء وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتاء ولا من الذين كفروا ظاهرا وباطنا مأواكم النار هي مولاكم هي أولى بكم كقول لبيد فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها وحقيقته مجراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كقولك هو مئنة الكرم أي مكان قول القائل إنه لكريم أو مكانكم عما قريب من الولي وهو القرب أو ناصركم على طريقة قوله تحية بينهم ضرب وجيع أو متوليكم يتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا وبئس المصير النار .
قوله تعالى : { فاليوم لا يؤخذ } استمرار في مخاطبة المنافقين . قاله قتادة وغيره : وروي في معنى قوله : { ولا من الذين كفروا } حديث ، وهو أن الله تعالى يقرر الكافرين فيقول له : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟ فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تعالى : قد سألتك ما هو أيسر من هذا وأنت في صلب أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك{[10974]} .
وقرأ جمهور القراء والناس : «يؤخذ » بالياء من تحت . وقرأ أبو جعفر القارئ : «تؤخذ » بالتاء من فوق ، وهي قراءة ابن عامر في رواية هشام عنه ، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج
وقوله : { هي مولاكم } قال المفسرون معناه : هي أولى بكم ، وهذا تفسير بالمعنى ، وإنما هي استعارة ، لأنها من حيث تضمنهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى ، وهذا نحو قول الشاعر [ عمرو بن معد يكرب ] : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . تحية بينهم ضرب وجميع{[10975]}
يجوز أن يكون هذا الكلام من تتمة خطاب المؤمنين للمنافقين استمراراً في التوبيخ والتنديم . وهذا ما جرى عليه المفسرون ، فموقع فاء التفريع بينّ والعلم للمؤمنين بأن لا تؤخذ فدية من المنافقين والذين كفروا حاصل مما يسمعون في ذلك اليوم من الأقضية الإِلهية بين الخلق بحيث صار معلوماً لأهل المحشر ، أو هو علم متقرر في نفوسهم مما علموه في الدنيا من أخبار القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك موجب عطف { ولا من الذين كفروا } تعبيراً عما علموه بأسره وهو عطف معترض جَرَّته المناسبة .
ويجوز أن يكون كلاماً صادراً من جانب الله تعالى للمنافقين تأييساً لهم من الطمع في نوال حظ من نور المؤمنين ، فيكون الفاء من عطف التلقين عاطفة كلام أحد على كلام غيره لأجل اتحاد مكان المخاطبة على نحو قوله تعالى قال : { ومن ذريتي } [ إبراهيم : 40 ] .
ويكون عطف { ولا من الذين كفروا } جمعاً للفريقين في توبيخ وتنديم واحد لاتحادهما في الكفر .
وإقحام كلمة { فاليوم } لتذكيرهم بما كانوا يضمرونه في الدنيا حين ينفقون مع المؤمنين ريَاء وتقيّة . وهو ما حكاه الله عنهم بقوله : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر } [ التوبة : 98 ] .
وقرأ الجمهور { لا يؤخذ } بياء الغائب المذكر لأن تأنيث { فدية } غير حقيقي ، وقد فُصل بين الفعل وفاعله بالظرف فحصل مسوغان لترك اقتران الفعل بعلامة المؤنث . وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بمثناة فوقية جرياً على تأنيث الفاعل في اللفظ ، والقراءتان سواء .
وكني بنفي أخذ الفدية عن تحقق جزائهم على الكفر ، وإلا فإنهم لم يبذلوا فدية ، ولا كان النفاق من أنواع الفدية ولكن الكلام جرى على الكناية لما هو مشهور من أن الأسير والجاني قد يتخلصان من المؤاخذة بفدية تبذل عنهما .
فعطف { ولا من الذين كفروا } قُصد منه تعليل أن لا محيص لهم من عذاب الكفر ، مثل الذين كفروا ، أي الذين أعلنوا الكفر حتى كان حالةً يعرفون بها . وهذا يقتضي أن المنافقين كانوا هم والكافرون في صعيد واحد عندَ أبواببِ جهنم ، ففيه احتراس من أن يتوهم الكافرون الصرحاء من ضمير { لا يؤخذ منكم فدية } أن ذلك حكم خاص بالمنافقين تعلقاً بأقل طمع ، فليس ذكر { ولا من الذين كفروا } مجرد استطراد .
والمأوى : المكان الذي يُؤَوى إليه ، أي يصَار إليه ويُرجع ، وكني به عن الاستمرار والخلود .
وأكد ذلك بالصريح بجملة { مأواكم النار هي مولاكم } أي ترجعون إليها كما يرجع المستنصر إلى مولاه لينصره أو يفادي عنه ، فاستعير المولى للمَقَرَّ على طريقة التهكم .
ويجوز مع ذلك أن يجعل المولى اسم مكان الوَلْي ، وهو القرب والدنوّ ، أي مقركم ، كقول لبيد :
فغدتْ كلا الفرجينْ تحسب أنه *** مَولَى المخافة خلْفُها وأمَامُها
و { بئس المصير } تذييل يشمل جميع ما يصيرون إليه من العذاب . وقد يحصل العلم للمؤمنين بما أجابوا به أهل النفاق لأنهم صاروا إلى دار الحقائق .