16- أمر الله نبيه أن يجادل المشركين هادياً مبيناً ، فقال له : قل لهم - أيها النبي - : مَنْ الذي خلق السماوات والأرض ، وهو الحافظ لهما ، والمسير لما فيهما ؟ ثم بين لهم الجواب الصحيح الذي لا يحارون فيه ، فقل لهم : هو الله المعبود بحق دون سواه ، فكان حقا عليكم أن تعبدوه - وحده - ثم قل لهم : أفترون الأدلة المثبتة لإنشائه - وحده - كل شيء . وتتخذون مع ذلك أوثاناً تعتبرونها آلهة من غير أن تقروا بوحدانيته ، وهذه الأوثان لا تملك لذاتها نفعاً ولا ضراً ، فكيف تسوونها بالخالق المدبر ، إنكم تسوون بين الخالق لكل شيء ومن لا يملك شيئاً ! فكنتم كمن يسوي بين المتضادين ، فهل يستوي من يبصر ومن لا يبصر ؟ وهل تستوي الظلمة المتكاثفة الحالكة والنور المبين ؟ أيسوغون تلك التسوية ؟ أم ذهب بهم فرط ضلالهم إلي زعم أن أوثانهم شركاء له في الخلق والتدبير ، فتشابه عليهم أمر الخلق ، كما ضلوا العبادة ، قل لهم ، أيها النبي : الله - وحده - هو الخالق لكل ما في الوجود ، وهو المتفرد بالخلق والعبادة ، الغالب علي كل شيء .
{ 16 } { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
أي : قل لهؤلاء المشركين به أوثانا وأندادا يحبونها كما يحبون الله ، ويبذلون لها أنواع التقربات والعبادات : أفتاهت عقولكم حتى اتخذتم من دونه أولياء تتولونهم بالعبادة وليسوا بأهل لذلك ؟
فإنهم { لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا } وتتركون ولاية من هو كامل الأسماء والصفات ، المالك للأحياء والأموات ، الذي بيده الخلق والتدبير والنفع والضر ؟
فما تستوي عبادة الله وحده ، وعبادة المشركين به ، كما لا يستوي الأعمى والبصير ، وكما لا تستوي الظلمات والنور .
فإن كان عندهم شك واشتباه ، وجعلوا له شركاء زعموا أنهم خلقوا كخلقه وفعلوا كفعله ، فأزلْ عنهم هذا الاشتباه واللبس بالبرهان الدال على توحد الإله بالوحدانية ، فقل لهم : { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } فإنه من المحال أن يخلق شيء من الأشياء نفسه .
ومن المحال أيضا أن يوجد من دون خالق ، فتعين أن لها إلها خالقا لا شريك له في خلقه لأنه الواحد القهار ، فإنه لا توجد الوحدة والقهر إلا لله وحده ، فالمخلوقات وكل مخلوق فوقه مخلوق يقهره ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه ، حتى ينتهي القهر للواحد القهار ، فالقهر والتوحيد متلازمان متعينان لله وحده ، فتبين بالدليل العقلي القاهر ، أن ما يدعى من دون الله ليس له شيء من خلق المخلوقات وبذلك كانت عبادته باطلة .
وبين لهم حسن عاقبة المستجيبين لدعوة الحق ، وسوء عاقبة المعرضين عنها فقال - تعالى - :
{ قُلْ مَن رَّبُّ السماوات . . . } .
قال الفخر الرازى : " اعلم أنه - تعالى - لما بين أن كل من في السموات والأرض ساجد له ، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله } .
ولما كانهذا الجواب جوابا يقر به المسئول ويعترف به ولا ينكره ، أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهها على أنهم لا ينكرونه البتة . . . " .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين ، من رب هذه الأجرام العظيمة العلوية والسفلية ؟
فإذا ما أبوا الرد عليك عنادا وصلفا ، فجابههم بالحقيقة التي لا يستطيعون إنكارها ، وهى أن الله وحده هو رب هذه الأجرام ، لأنه هو خالقها وموجدها على غير مثال سابق .
وقوله - سبحانه - { قُلْ أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أمر ثالث منه - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم لإفحامهم وتبكيتهم .
فالهمزة للاستفهام التوبيخى ، والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزة .
والمعنى : أعلمتم حق العلم أن الله - تعالى - هو الخالق للسموات والأرض ، فتركتم عبادته - سبحانه - واتخذتم من دونه " أولياء " أى نصراء عاجزين ، لا يملكون لأنفسهم - فضلا عن أن يملكوا لغيرهم - نفعا يجلبونه لها ، ولا ضرا يدفعون عنها .
وجملة { لاَ يَمْلِكُونَ } صفة لأولياء ، والمقصود بها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة ، فإنهم إن أحسنوا التفكير في هؤلاء الأولياء ، أيقنوا أنهم أحقر من أن يلتفت إليهم ، فضلا عن أن يطلبوا منهم شيئا .
ثم أمره - سبحانه - للمرة الرابعة أن يبرهن لهم على بطلان معتقداتهم عن طريق ما هو مشاهد بالحواس فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور } .
أى : قل لهم - أيضا - أيها الرسول الكريم : كما أنه لا يستوى في عرف كل عاقل الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، فكذلك لا يستوى الكفر والإِيمان ، فإن الكفر انطماس في البصيرة ، وظلمات في القلب ، أما الإِيمان فهو نور في القلب وإشراق في النفس .
فالمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن ، كما ان المراد بالظلمات الكفر وبالنور الإِيمان .
وعبر القرآن الكريم في جانب الظلمات بصيغة الجمع ، وفى جانب النور بصيغة الإِفراد ، لأن النور واحد ومن نتائجه الشكف والظهور . وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته .
أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها ، فهناك ظلمة الليل ، وهناك ظلمة السجون ، وهناك ظلمة القبور ، وهناك ظلمة العقول التي كان من نتائجها تعدد أنواع الكفر والضلال ، كما هو الحال في شأن اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الذين انحرفوا عن طريق الحق .
ثم انتقل - سبحانه - إلى التهكم بهم عن طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم ، وإهمالا لشأنهم فقال - تعالى - : { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ . . } .
وأم هنا بمعنى بل ، والاستفهام للإِنكار .
أى : إنهم ما اتخذوا لله - تعالى - شركاء يخلقون مثل خلق الله - تعالى - حتى نقول إن ما خلقوه تشابه مع خلقه - تعالى - فنلتمس لهم شيئا من العذر ، ولكنهم اتخذوا معه - سبحانه - آلهة أخرى : لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . . . " .
فالجملة الكريمة تنعى عليهم جهلهم . حيث عبدوا من دون الله مخلوقا مثلهم ، وتنفى أى عذر يعتذرون به يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم .
وقوله : { كخلقه } في معنى المفعول المطلق . أى : خلقوا خلقا شبيها بما خلقه الله - تعالى - . وجملة { فتشابه } معطوفة على جملة { خلقوا }
ثم أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - للمرة الخامسة بأن يقذفهم بالحق الذي يدفع باطلهم فقال - تعالى - { قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار } .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - : الله - تعالى - هو الخالق لكل شئ في هذا الكون ، وهو - سبحانه - الواحد الأحد الفرد الصمد ، القهار لكل ما سواه ، والغالب لكل من غالبه .
وفي جو هذا المشهد العجيب يتوجه إليهم بالأسئلة التهكمية . فما يجدر بالمشرك بالله في مثل هذا الجو إلا التهكم ، وما يستحق إلا السخرية والاستهزاء :
( قل : من رب السماوات والأرض ? قل : الله . قل : أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? قل : هل يستوي الأعمى والبصير ? أم هل تستوي الظلمات والنور ? أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ? قل : الله خالق كل شيء ، وهو الواحد القهار ) . .
سلهم - وكل من في السماوات والأرض مأخوذ بقدرة الله وإرادته - رضي أم كره - : ( من رب السماوات والأرض ? ) . . وهو سؤال لا ليجيبوا عنه ، فقد أجاب السياق من قبل . إنما ليسمعوا الجواب ملفوظا وقد رأوه مشهودا : قل : الله . . ثم سلهم : ( أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ? ) . . سلهم للاستنكار فهم بالفعل قد اتخذوا أولئك الأولياء . سلهم والقضية واضحة ، والفرق بين الحق والباطل واضح : وضوح الفارق بين الأعمى والبصير ، وبين الظلمات والنور . وفي ذكر الأعمى والبصير إشارة إليهم وإلى المؤمنين ؛ فالعمى وحده هو الذي يصدهم عن رؤية الحق الواضح الجاهر الذي يحس بأثره كل من في السماوات والأرض . وفي ذكر الظلمات والنور إشارة إلى حالهم وحال المؤمنين ، فالظلمات التي تحجب الرؤية هي التي تلفهم وتكفهم عن الإدراك للحق المبين .
أم ترى هؤلاء الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله ، خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله . فتشابهت على القوم هذه المخلوقات وتلك ، فلم يدروا أيها من خلق الله وأيها من خلق الشركاء ? فهم معذورون إذن إن كان الأمر كذلك ، في اتخاذ الشركاء ، فلهم من صفات الله تلك القدرة على الخلق ، التي بها يستحق المعبود العبادة ؛ وبدونها لا تقوم شبهة في عدم استحقاقه !
وهو التهكم المر على القوم يرون كل شيء من خلق الله ، ويرون هذه الآلهة المدعاة لم تخلق شيئا ، وما هي بخالقة شيئا ، إنما هي مخلوقة . وبعد هذا كله يعبدونها ويدينون لها في غير شبهة . وذلك أسخف وأحط ما تصل العقول إلى دركه من التفكير . .
والتعقيب على هذا التهكم اللاذع ، حيث لا معارضة ولا جدال ، بعد هذا السؤال :
( قل : الله خالق كل شيء . وهو الواحد القهار ) . .
فهي الوحدانية في الخلق ، وهي الوحدانية في القهر - أقصى درجات السلطان - وهكذا تحاط قضية الشركاء في مطلعها بسجود من في السماوات والأرض وظلالهم طوعا وكرها لله ؛ وفي ختامها بالقهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض أو في السماء . . وقد سبقته من قبل بروق ورعود وصواعق وتسبيح وتحميد عن خوف أو طمع . . فأين القلب الذي يصمد لهذا الهول ، إلا أن يكون أعمى مطموسا يعيش في الظلمات ، حتى يأخذه الهلاك ? !
وقبل أن نغادر هذا الوادي نشير إلى التقابلات الملحوظة في طريقة الأداء . بين ( خوفا وطمعا ) وبين البرق الخاطف والسحاب الثقال - و( الثقال ) هنا ، بعد إشارتها إلى الماء ، تشارك في صفة التقابل مع البرق الخفيف الخاطف - وبين تسبيح الرعد بحمده وتسبيح الملائكة من خيفته . وبين دعوة الحق ودعوة الجهد الضائع . وبين السماوات والأرض ، وسجود من فيهن طوعا وكرها . وبين الشخوص والظلال . وبين الغدو والآصال . وبين الأعمى والبصير . وبين الظلمات والنور . وبين الخالق القاهر والشركاء الذين لا يخلقون شيئا ، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا . . . وهكذا يمضي السياق على نهجه في دقة ملحوظة ولألاء باهر وتنسيق عجيب .
وقوله : { قل : من رب السماوات } الآية ، جاء السؤال والجواب في هذه الآية من ناحية واحدة ، إذ كان السؤال والتقرير على أمر واضح لا مدافعة لأحد فيه ملزم للحجة ، فكان السبق إلى الجواب أفصح في الاحتجاج وأسرع في قطعهم من انتظار الجواب منهم ، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقع البدار إليه{[6949]} ، وقال مكي : جهلوا الجواب وطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل ، فلما تقيد من هذا كله أن الله تعالى هو { رب السماوات والأرض } وقع التوبيخ على اتخاذهم { من دونه أولياء } متصفين بأنهم لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها ، وهذه غاية العجز ، وفي ضمن هذا الكلام : وتركتموه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء ، ولفظة : { من دونه } تقتضي ذلك .
ثم مثل الكفار والمؤمنين بعد هذا بقوله : { قل هل يستوي الأعمى والبصير } .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : «تستوي الظلمات » بالتاء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : «يستوي » بالياء ، فالتأنيث حسن لأنه مؤنث لم يفصل بينه وبين عامله شيء . والتذكير شائع لأنه تأنيث غير حقيقي ، والفعل مقدم{[6950]} .
وشبهت هذه الآية الكافر ب { الأعمى } . والكفر ب { الظلمات } وشبهت المؤمن ب { البصير } والأيمان ب { النور } : ثم وقفهم بعد : هل رأوا خلقاً لغير الله فحملهم ذلك واشتباهه بما خلق الله على أن جعلوا إلهاً غير الله ؟ ثم أمر محمداً عليه السلام بالإفصاح بصفات الله تعالى في أنه { خالق كل شيء } وهذا عموم في اللفظ يراد به الخصوص في كل ما هو خلق الله تعالى . قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما من الأصوليين : ويخرج عن ذلك صفات ذاته - لا رب غيره - والقرآن ، ووصف نفسه ب { الواحد القهار } من حيث لا موجود إلا به ، وهو في وجوده مستغن عن الموجودات لا إله إلا هو العلي العظيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} يا محمد لكفار مكة: {من رب السماوات والأرض قل الله}، في قراءة أبي بن كعب، وابن مسعود:"قالوا الله"، {قل أفاتخذتم من دونه} الله {أولياء} تعبدونهم، يعني: الأصنام، {لا يملكون لأنفسهم}، يعني الأصنام لا يقدرون لأنفسهم {نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى} عن الهدى، {والبصير} بالهدى، يعني: الكافر والمؤمن، {أم هل تستوي الظلمات}، يعني: الشرك، {والنور}، يعني: الإيمان، ولا يستوي من كان في ظلمة كمن كان في النور، ثم قال يعنيهم: {أم جعلوا}، يعني وصفوا {لله شركاء} من الآلهة، {خلقوا كخلقه}، يقول: خلقوا كما خلق الله، {فتشابه الخلق عليهم}، يقول: فتشابه ما خلقت الآلهة والأصنام وما خلق الله عليهم، فإنهم لا يقدرون أن يخلقوا، فكيف يعبدون ما لا يخلق شيئا، ولا يملك، ولا يفعل كفعل الله عز وجل؟ {قل} لهم يا محمد: {الله خالق كل شيء وهو الواحد}، لا شريك له، {القهار} والآلهة مقهورة وذليلة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله:"مَنْ ربّ السموات والأرض" ومدبرها، فإنهم سيقولون الله. وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: "الله"، فقال له: قل يا محمد: رَبّها الذي خلقها وأنشأها، هو الذي لا تصلح العبادة إلاّ له، وهو الله. ثم قال: فإذا أجابوك بذلك فقل لهم: أفاتخذتم من دون ربّ السموات والأرض أولياء لا تملك لأنفسها نفعا تجلبه إلى نفسها، ولا ضرّا تدفعه عنها، وهي إذ لم تملك ذلك لأنفسها، فمن ملكه لغيرها أبعد، فعبدتموها وتركتم عبادة من بيده النفع والضرّ والحياة والموت وتدبير الأشياء كلها، ثم ضرب لهم جلّ ثناؤه مثلاً، فقال: "قُلْ هَلْ يَسْتَوي الأعْمَى والبَصِيرُ".
"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُماتُ والنّورُ أم جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كخَلْقِهِ فَتَشابَه الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهّارُ":
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا من دون الله الذي بيده نفعهم وضرّهم ما لا ينفع ولا يضرّ: "هل يستوي الأعمى "الذي لا يبصر شيئا ولا يهتدي لِمَحَجّة يسلكها إلاّ بأن يُهْدَى، "والبصير" الذي يَهدِي الأعمى لمحجة الطريق الذي لا يبصر؟ إنهما لا شكّ لَغَير مستويين يقول: فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر الحقّ فيتبعه ويعرف الهدى فيسلكه وأنتم أيها المشركون الذين لا تعرفون حقّا ولا تبصرون رشدا.
وقوله: "أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُماتُ والنّورُ" يقول تعالى ذكره: وهل تستوي الظلمات التي لا تُرَى فيها المَحَجّة فتُسْلك ولا يُرى فيها السبيلُ فيركب، والنور الذي يُبصَرُ به الأشياء ويجلو ضوءُه الظلام؟ يقول: إن هذين لا شكّ لَغير مستويين، فكذلك الكفر بالله، إنما صاحبه منه في حَيْرة يضرب أبدا في غمْرة لا يرجع منه إلى حقيقة، والإيمان بالله صاحبه منه في ضياء يعمل على علم بربه ومعرفة منه بأن له مثيبا يثيبه على إحسانه ومعاقبا يعاقبه على إساءته ورازقا يرزقه ونافعا ينفعه...
وقوله: "أمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخلق أوثانكم التي اتخذتموها أولياء من دون الله كخلق الله، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلَقت وخلق الله فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك، أم إنما بكم الجهل والذهاب عن الصواب؟ فإنه لا يشكل على ذي عقل أن عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع من الفعل جهل، وأن العبادة إنما تصلح للذي يُرجَى نفعه ويخشى ضُرّه، كما أن ذلك غير مُشكل خطؤه وجهل فاعله، كذلك لا يُشكل جهل من أشرك في عبادة من يرزقه ويكفله ويَمونُه من لا يقدر له على ضرر ولا نفع...
وقوله: "قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين إذا أقرّوا لك أن أوثانهم التي أشركوها في عبادة الله لا تخلق شيئا، فالله خالقكم وخالق أوثانكم وخلق كلّ شيء، فما وجه إشراككم ما لا يخلق ولا يضرّ.
وقوله: "وَهُوَ الوَاحِدُ القَهّارُ" يقول: وهو الفرد الذي لا ثاني له، القهار الذي يستحقّ الألوهة والعبادة، لا الأصنام والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، يأمره بأن يقول لهؤلاء الكفار "من رب السماوات والأرض "أي من مدبرهما ومصرفهما على ما فيهما من العجائب، فإنهم لا يمكنهم أن يدعوا أن مدبر السماوات والأرض الأصنام التي يعبدونها، فإذا لم يمكنهم ذلك، فقل لهم: رب السماوات والأرض وما بينهما من أنواع الحيوان والنبات والجماد "الله" تعالى، فإذا أقروا بذلك، فقل لهم على وجه التبكيت لهم والتوبيخ لفعلهم: أفاتخذتم من دون الله أولياء توجهون عبادتكم إليهم؟! فالصورة صورة الاستفهام والمراد به التقريع والتوبيخ. ثم بيَّن أن هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من الأصنام والأوثان لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ومن لا يملك لنفسه ذلك فإنه بأن لا يملك لغيره أولى وأحرى، ومن كان كذلك كيف يستحق العبادة، ثم قال لهم: "هل يستوى الأعمى والبصير" أم هل يتساوى الأعمى عن طريق الحق والعادل عنه إلى الضلال، والبصير الذي اهتدى إلى الحق، فإنهما لا يتساويان أبدا، كما لا يتساوى الظلمات والنور. ثم قال هل جعلوا يعني هؤلاء الكفار لله شركاء في العبادة خلقوا أفعالا مثل خلق الله، من خلق الأجسام والألوان والطعوم والأراييح، والموت والحياة، والشهوة والنفار، وغير ذلك من الأفعال التي مختص تعالى بالقدرة عليها فاشتبه ذلك عليهم، فظنوا أنها تستحق العبادة، لأن أفعالها مثل أفعال الله. فإذا لم يكن ذلك شبيها بل كان معلوما لهم أن جميع ذلك ليست من جهة الأصنام، فقل لهم الله خالق كل شيء أي هو خالق جميع ذلك يعني ما تقدم من الأفعال التي يستحق بها العبادة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سَلْهُمْ -يا محمد- مَنْ موجِدُ السماوات والأرض ومُقَدِّرُها، ومُخْتَرعُ ما يحدث فيها ومدبِّرها؟ فإِنْ أَسْكَتهُمْ عن الجواب ما استكَنَّ في قلوبهم مِنَ الجهلِ فقُلْ الله منشيها ومجريها. ثم قال: {أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}: يعني الأصنام، وهي جمادات لا تملك لنفسها نَفْعَاً ولاَ ضَرَّاً، ويلتحق في المعنى بها كلُّ مَنْ هو موسومٌ برقم الحدوث، فَمَنْ علَّقَ قلبَه بالحدثان ساوَى- مِنْ وجهٍ -مَنْ عَبَدَ الأصنام، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف:106]. قوله جلّ ذكره: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ والنُّورُ}. الأعمى مَنْ على بصيرته غشاوة وحجبة، والبصيرُ مَنْ كَحَّلَ الحقُّ بصيرة سِرِّه بنور التوحيد.. لا يستويان! ثم هل تستوي ظلماتُ الشِّرك وأنوارُ التوحيد؟ ومن جملة النور الخروجُ إلى ضياء شهود التقدير. قوله جلّ ذكره: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ}. أي لو كان له شريك لَوَجَبَ أن يكون له نِدٌّ مُضاهٍ، وفي جميع الأحكام له موازٍ، ولم يجدِ حينئذٍ التمييزُ بين فِعْلَيْهِما. وكذلك لو كان له ندٌّ.. فإنَّ إثباتَهما شيئين اثنين يوجِب اشتراكَهما في استحقاق كل وصف، وأن يكون أحدهما كصاحبه أيضاً مستحقاً له، وهذا يؤدي إلى ألا يُعْرَفَ المَحَلُّ... وذلك محال. {وَكُلُّ شيء} تدخل فيه المخلوقات بصفاتها وأفعالها، والمخاطِبُ لا يدخل في الخطاب. {وَهُوَ الوَاحِدُ}: الذي لا خَلَفَ عنه ولا بَدَل، الواحد الذي في فضله منزه عن فضل كل أحد، فهو الكافي لكلِّ أحد، ويستعين به كل أحد. و {الْقَهَّارُ}: الذي لا يجري بخلاف حُكْمِه- في مُلْكِه -نَفَسٌ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قُلِ الله} حكاية لاعترافهم وتأكيد له عليهم؛ لأنه إذا قال لهم: من رب السموات والأرض، لم يكن لهم بدّ من أن يقولوا الله. كقوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86] وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك؟ فإذا قال: هذا قولي قال: هذا قولك، فيحكي إقراره تقريراً له عليه واستيثاقاً منه، ثم يقول له: فيلزمك على هذا القول كيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقيناً، أي: إن كعوا عن الجواب فلقنهم، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه. {أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك.
{لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا} لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا عنها ضرراً، فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب، فما أبين ضلالتكم.
{أَمْ جَعَلُواْ}: بل أجعلوا. ومعنى الهمزة الإنكار. و {خَلَقُواْ} صفة لشركاء، يعني أنهم لم يتخذوا لله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله {فَتَشَابَهَ} عليهم خلق الله وخلقهم، حتى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، فاستحقوا العبادة، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد، إذ لا فرق بين خالق وخالق؛ ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق.
{قُلِ الله خالق كُلّ شيء} لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة.
{وَهُوَ الواحد} المتوحد بالربوبية {القهار} لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{قل: من رب السماوات...}، جاء السؤال والجواب في هذه الآية من ناحية واحدة، إذ كان السؤال والتقرير على أمر واضح لا مدافعة لأحد فيه ملزم للحجة، فكان السبق إلى الجواب أفصح في الاحتجاج وأسرع في قطعهم من انتظار الجواب منهم، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقع البدار إليه...
اعلم أنه تعالى لما بين أن كل من في السموات والأرض ساجد له بمعنى كونه خاضعا له، عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال: {قل من رب السموات والأرض قل الله} ولما كان هذا الجواب جوابا يقر به المسؤول ويعترف به ولا ينكره، أمره صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب، تنبيها على أنهم لا ينكرونه البتة، ولما بين أنه سبحانه هو الرب لكل الكائنات قال: قل لهم فلم اتخذتم من دون الله أولياء وهي جمادات وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة لأنفسها ودفع المضرة عن أنفسها، فبأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة لغيرها ودفع المضرة عن غيرها كان ذلك أولى، فإذا لم تكن قادرة على ذلك كانت عبادتها محض العبث والسفه، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أن الجاهل بمثل هذه الحجة يكون كالأعمى والعالم بها كالبصير، والجهل بمثل هذه الحجة كالظلمات، والعلم بها كالنور، وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي العالم بها... ثم أكد هذا البيان فقال: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} يعني هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا: إنها تشارك الله في الخالقية، فوجب أن تشاركه في الإلهية، بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل البتة، ولا خلق ولا أثر، وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهية محض السفه والجهل...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... ثم انتقل من خطابهم إلى الإخبار عنهم غائباً إعراضاً عنهم، وتنبيهاً على توبيخهم في جعل شركاء لله، وتعجيباً منهم، وإنكاراً عليهم. وتضمن هذا الاستفهام التهكم بهم، لأنّهُ معلوم بالضرورة أن هذه الأصنام لا تقدر على خلق ذرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما تبين قطعاً أنه سبحانه المدبر للسماوات والأرض القاهر لمن فيهما، تبين قطعاً أنه المختص بربوبيتهما فأمره تعالى أن يوجه السؤال نحوهم عن ذلك -ردّاً على عبدة الأصنام وغيرهم من الملحدين- بقوله: {قل} أي بعد أن أقمت هذه الأدلة القاطعة، مقرراً لهم {من رب} أي موجد ومدبر {السماوات والأرض} أي وكل ما فيهما.
ولما مضى في غير آية أنهم معترفون بربوبيته مقرون بخلقه ورزقه ثم لم يزعهم ذلك عن الإشراك، جعلوا هنا كأنهم منكرون لذلك عناداً، فلم ينتظر جوابهم بل أمره أن يجيبهم بما يجيبون به، إشارة إلى أنهم لا يتحاشون من التناقض في اتباع الهوى ولا تصونهم عقولهم الجليلة وآراؤهم الأصيلة -بزعمهم- عن التساقط في مهاوي الردى، فقال: {قل الله} أي الذي له الأمر كله، فثبت حينئذ أن لا ولي إلا هو، فتسبب عن ذلك توجه الإنكار عليهم في اعتماد غيره، فأمره بالإنكار في قوله: {قل أفاتخذتم} أي فتسببتم عن انفراده بربوبيتكم أن أوجدتم الأخذ بغاية الرغبة، فتسببتم الإشراك عما يجب أن يكون سبب التوحيد، وبين سفول رتبتهم بقوله: {من دونه أولياء} لا يساوونكم في التسبب في الضر والنفع، بل {لا يملكون لأنفسهم} فكيف بغيرهم {نفعاً} ونكره ليعم، وقدمه لأن السياق لطلبهم منهم، والإنسان إنما يطلب ما ينفعه.
ولما كان من المعلوم أنه لا قدرة لأحد على أن يؤثر في آخره أثراً لا يقدر على مثله في نفسه قال: {ولا ضرّاً} فثبت أن من سواهم بالله أضل الضالين، لأنه يلزمه أن يسوي بين المتضادات، فكان معنى قوله: {قل هل يستوي} والاستواء: استمرار الشيء في جهة واحدة {الأعمى} في عينه أو في قلبه {والبصير} كذلك {أم هل تستوي} بوجه من الوجوه {الظلمات والنور}: هل أدتهم عقولهم إلى أن سووا بين هذه المتضادات الشديدة الظهور لغباوة أو عناد حتى سووا من يخلق بمن لا يخلق، فجعلوا له شريكاً كذلك لغباوة أو عناد {أم جعلوا لله} أي الذي له مجامع العظمة {شركاء} ثم بين ما يمكن أن يكون به الشركة، فقال واصفاً لهم: {خلقوا كخلقه} وسبب عن ذلك قوله: {فتشابه} والتشابه: التشاكل بما يلتبس حتى لا يفصل فيه بين أحد الشيئين والآخر {الخلق عليهم} فكان ذلك الخلق الذي خلقه الشركاء سبب عروض شبهة لهم، وساق ذلك في أسلوب الغيبة إعلاماً بأنهم أهل للإعراض عنهم، لكونهم في عداد البهائم لقولهم ما لا يعقل بوجه من الوجوه، وهذا قريب مما يأتي قريباً في قوله: {أم بظاهر من القول} [الرعد:33]. أي بشبهة يكون فيها نوع ظهور لبعض الأذهان.
ولما كان من المعلوم قطعاً أن جوابهم أن الخلق كله لله.
ولم يمنعهم ذلك من تأله سواه، أمره أن يجيبهم معرضاً عن جوابهم فقال {قل الله} أي الملك الأعلى {خالق كل شيء} إشارة إلى أنهم في أحوالهم كالمنكر لذلك عناداً أو خرقاً لسياج الحياء وهتكاً لجلباب الصيانة، وإذ قد ثبت أنه المنفرد بالخلق وجب أن يفرد بالتأله فقال: {وهو الواحد} الذي لا يجانسه شيء، وكل ما سواه لا يخلو عن مجانس يماثله، وأين رتبة من يماثل من رتبة من لا مثل له {القهار} الذي كل شيء تحت قهره بأنفسهم وظلالهم، وهو القادر بما لا يمكن أن يغلبه غالب وهو لكل شيء غالب، وهذا إشارة -كما مضى في مثله غير مرة في سورة يوسف وغيرها- إلى برهان التمانع، فإن أربابهم متعددون، فلو كانت لهم حياة وكانوا متصرفين في الملك لأمكن بينهم تمانع وكان كل منهم معرضاً لأن يكون مقهوراً، فكيف وهم جماد! فثبت قطعاً أنه لا شيء منهم يصلح للإلهية على تقدير من التقادير...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... (قل: الله خالق كل شيء. وهو الواحد القهار).. فهي الوحدانية في الخلق، وهي الوحدانية في القهر -أقصى درجات السلطان- وهكذا تحاط قضية الشركاء في مطلعها بسجود من في السماوات والأرض وظلالهم طوعا وكرها لله؛ وفي ختامها بالقهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض أو في السماء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والارض قُلِ الله قُلْ أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا}. لما نهضت الأدلة الصريحة بمظاهر الموجودات المتنوعة على انفراده بالإلهية من قوله: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [سورة الرعد: 2] وقوله: {وهو الذي مدّ الأرض} [سورة الرعد: 3] وقوله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} [سورة الرعد: 8] وقوله: {هو الذي يريكم البرق} [سورة الرعد: 12] الآيات، وبما فيها من دلالة رمزية دقيقة من قوله: {له دعوة الحق} [سورة الرعد: 14] وقوله: {ولله يسجد من في السماوات} [سورة الرعد: 15] إلى آخرها لا جرم تهيّأ المقام لتقرير المشركين تقريراً لا يجدون معه عن الإقرار مندوحة، ثم لتقريعهم على الإشراك تقريعاً لا يسعهم إلاّ تجرّع مرارته، لذلك استؤنف الكلام وافتتح بالأمر بالقول تنويهاً بوضوح الحجة. ولكون الاستفهام غير حقيقي جاء جوابه من قِبَل المستفِهم. وهذا كثير في القرآن وهو من بديع أساليبه، كقوله: {عم يتساءلون عن النبأ العظيم} [سورة النبأ: 1 2]. وتقدم عند قوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة} في سورة الأنعام (12). وإعادة فعل الأمر بالقول في {قل أفاتخذتم من دونه أولياء} الذي هو تفريع على الإقرار بأن الله ربّ السماوات والأرض لقصد الاهتمام بذلك التفريع لما فيه من الحجة الواضحة. فالاستفهام تقرير وتوبيخ وتسفيه لرأيهم بناءً على الإقرار المسلّم... وجملة {لا يملكون} صفة ل {أولياء}، والمقصود منها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة فإنهم إن تدبروا علموها وعلموا أن من كانت تلك صفته فليس بأهل لأن يعبد. ومعنى الملك هنا القدرة كما في قوله تعالى: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً} في سورة العقود (76)... وعطف الضر على النفع استقصاء في عجزهم لأن شأن الضرّ أنه أقرب للاستطاعة وأسهل. {قُلْ هَلْ يستوي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور} إعادة الأمر بالقول للاهتمام الخاصّ بهذا الكلام لأن ما قبله إبطال لاستحقاق آلهتهم العبادة. وهذا إظهار لمزية المؤمنين بالله على أهل الشرك، ذلك أن قوله: {قل من رب السماوات والأرض قل الله} تضمّن أن الرسول عليه السلام دعا إلى إفراد الله بالربوبية وأن المخاطبين أثبتوا الربوبية للأصنام فكان حالهم وحاله كحال الأعمى والبصير وحال الظلمات والنور. ونفي التسوية بين الحالين يتضمن تشبيهاً بالحالين وهذا من صيغ التشبيه البليغ. و {أم} للإضراب الانتقالي في التشبيه. فهي لتشبيه آخر بمنزلة {أو} في قول لبيد: أوْ رَجْعُ واشمة أسف نؤورها وقوله تعالى: {أو كصيب من السماء}. وأظهر حرف {هل} بعد {أم} لأن فيه إفادة تحقيق الاستفهام. وذلك ليس مما تغني فيه دلالة {أم} على أصل الاستفهام ولذلك لا تظهر الهمزة بعد {أم} اكتفاء بدلالة {أم} على تقدير استفهام. وجمع الظلمات وإفراد النور تقدم عند قوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} في أول سورة الأنعام (1). واختير التشبيه في المتقابلات العَمَى والبصر، والظلمة والنور، لتمام المناسبة لأن حال المشركين أصحاب العمى كحال الظلمة في انعدام إدراك المبصرات، وحال المؤمنين كحال البصر في العلم وكحال النور في الإفاضة والإرشاد... {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} {أم} للإضراب الانتقال في الاستفهام مقابل قوله: {أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً}، فالكلام بعد (أم) استفهام حذفت أداته لدلالة (أم) عليها. والتقدير؛ {أم جعلوا لله شركاء}. والتُفت عن الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم لما مضى من ذكر ضلالهم. والاستفهام مستعمل في التهكم والتغليط. فالمعنى: لو جعلوا لله شركاء يخلقون كما يَخلق الله لكانت لهم شبهة في الاغترار واتخاذهم آلهة، أي فلا عذر لهم في عبادتهم، فجملة {خلقوا} صفة ل {شركاء}. وشِبْه جملة {كخلقه} في معنى المفعول المطلق، أي خلقوا خلقاً مثل مَا خلق الله. والخلق في الموضعين مصدر. وجملة {فتشابه} عطف على جملة {خلقوا كخلقه} فهي صفة ثانية ل {شركاء}، والرابط اللام في قوله: {الخلق} لأنها عوض عن الضمير المضاف إليه. والتقدير: فتشابه خلقهم عليهم. والوصفان هما مصب التهكم والتغليط. وجملة {قل الله خالق كل شيء} فذلكة لما تقدم ونتيجة له، فإنه لما جاء الاستفهام التوبيخي في {أفاتخذتم من دونه أولياء} [سورة الرعد: 16] وفي {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه} كان بحيث ينتج أن أولئك الذين اتخذوهم شركاء لله والذين تبين قصورهم عن أن يملكوا لأنفسهم نفعاً أو ضراً، وأنهم لا يخلقون كخلق الله إن هم إلا مخلوقات لله تعالى، وأن الله خالق كل شيء، وما أولئك الأصنام إلا أشياء داخلة في عموم {كل شيء}؛ وأن الله هو المتوحد بالخلق، القهّار لكل شيء دونه. ولتعين موضوع الوحدة ومتعلق القهر حذف متعلقهما. والتقدير: الواحد بالخلق القهّار للموجودات. والقهر: الغلبة، وتقدم عند قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} في سورة الأنعام (18)...