اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ لَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعٗا وَلَا ضَرّٗاۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِي ٱلظُّلُمَٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَيۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّـٰرُ} (16)

قوله تعالى : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض } الآية لما بيَّن أنَّ كل من في السَّموات ، والأرض ساجد لله بمعنى كونه خاضعاً له ؟ ، عدل إلى الرَّد على عبدة الأصنام فقال : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله } ولمَّا كان هذا الجواب يقرّ به المسئولُ ويعترف به ، ولا ينكره ، أمره عليه الصلاة والسلام أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتَّة .

قال القشيري : " ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع ، أي : سلهم عن خالق السموات والأرض ؛ فإنه يسهل تقرير الحجة عليهم ويقربُ الأمر من الضرورة ، فإن عجز الجماد ، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات ، والأرض معلوم " ؟

ولما بين الله أنَّه هو الرب لكلِّ الكائنات [ قاله له ] : قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء ، وهي جمادات ، وهي لا تملكُ لأنفسها نفعاً ، ولا ضرًّا ، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [ لأنفسها ، ودفع المضرة عن نفسها ، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة ] لغيرها ، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى ، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث ، والسَّفه ، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها .

فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور } قرأ الأخوان ، وأبو بكر عن عاصم : " يَسْتَوِي " بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التَّأنيث ، فيجوز في فعله التذكير ، والتأنيث ، كنظائر له مرت . وهذه مثل ضربه اللهُ سبحانه وتعالى للكفَّار ؟

قوله : " أمْ هَلْ " هذه أم المنقطعة ، فتقدر ب " بل " ، والهمزة عند الجمهور ، وب " بل " وحدها عند بعضهم ، وقد تقدَّم تحريره ، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها ب " بَلْ " فقط بوقوع : " هَلْ " بعدها ، فلو قدَّرناها ب " بَلْ " والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى ؛ فتقدرها ب " بل " وحدها ، " ولا " تقويةٌ له ، فإن الهمزة قد جامعت : " هَلْ : في اللفظ ، كقوله الشاعر : [ البسيط ]

3173 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أهَلْ رَأوْنَا بِوادِي القُفِّ ذي الأكَمِ

فأولى أن يجامعها تقديراً .

ولقائل أن يقول : لا نسلم إنَّ : " هَلْ " هذه استفهاميَّة ، بل بمعنى : " قَدْ " ، وإليه ذبله جماعةٌ ، وإن لم تجامعها همزة ، كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] أي : قد أتى ، فههنا أولى ، والسماع قد ورد بوقوع : " هَلْ " بعد : " أم " وبعدمه . فمن الاول هذه الآية ، ومن الثاني : ما بعدها من قوله : " أمْ جَعلُوا " .

وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله : [ البيسط ]

3175 هَلْ مَا عَلمْتَ ومَا اسْتُودعْتَ مكْتومُ *** أمْ حَبْلُهَا إذ نَأتْكَ اليَوْمَ مَصرُومُ

أمْ هَلْ كثيرٌ بَكَى لمْ يَقْضِ عَبرتَهُ *** إثْرَ الأحِبَّة يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ

فصل

قوله : { هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } كذلك لايستوي المؤمن ، والكافر : { أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور } اي كما لا تستوي الظلمات والنور ، لايستوي الكفر والإيمان .

قوله : { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } الجملة من قوله : " خَلقُوا " صفة ل : " شُرَكاءَ " ، { فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ } ، أي : اشتبه ماخلقوه بما خلقه الله عزَّ وجلَّ فلا يدرون ما خلق الله ، وما خلق آلهتهم .

والمعنى : أنَّ هذه الأشياء الَّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتَّى يقولوا : إنها تشارك الله في الخالقيَّة ؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيَّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنَّ هذه الأصنام لم يمصدر عنها فعلٌ ، ولا خلق ، ولا أثر ألبتة ، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيَّة محض السَّفه ، و الجهل .

فصل

قال ابن الخطيب : " زعمت المعتزلة أنَّ العبد يخلق حركات ، وسكنات مثل الحركات ، والسكنات التي يخلقها الله ، وعلى هذا التقدير : فقد { جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } والله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذَّم ، والإنكارِ ؛ فدلت على أنَّ العبد لا يخلق أفعال نفسه " .

قال القاضي : " نحن وإن قلنا : " إنَّ العبد يخلق إلاَّ أنَّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله ؛ لأن أحداً ما يفعل كقدرة الله ، وإنما يفعل لجلب منفعة ، ودفع مضرة ، والله تعالى منزه عن ذلك ؛ فثبت أنَّ بتقدير كون العبدِ خالقاً إلا أنَّه لا يكون خلقه كخلق الله ، وأيضاً : فهذا الإلزامُ للمجبرة أيضاً ؛ لأنَّهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسبٌ للعبد ، وفعلٌ له ، وهذا عين الشرك ؛ لأنَّ الإله ، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضاً نصيبٌ ، وهو أنه ، تعالى إنَّما ذكر هذا الكلام عيباً للكفَّار أن يقولوا : إنَّ الله تعالى خلق هذا الكفر فينا ؛ فلم يذمنا ، ولم ينسبنا للجهل ، والتقصير ، مع أنه حصل فينا بغير فعلنا ، ولا باختيارنا " .

والجواب عن الأول : هو أنَّ لفظ الخلق عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود ، أو عبارة عن التقديرين ، وعلى الوجهين : فبتقدير أن يكون العبد محدثاُ ، فإنه لا بد أن يكون حادثاً ، أما قوله : والعبد وإن كان خالقاً إلاَّ أنه ليس خلقه كخلق الله تعالى .

قلنا : الخلق عبارةٌ عن الإيجاج التكوين والإخراج من العدم إلى الوجود ، ومعلومٌ أنَّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني ، وحينئذ يصحُّ أن يقال : إنَّ هذا الذي هو مخلوقٌ للعبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى ، ولا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات ، إلاَّ أنَّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في المماثلة من هذا الوجه ، وهذا القدر يكفي في الاستدلال .

وأما قوله : " هذا لازم على المجبرة حيث قالوا : إنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى " .

فنقول : هذا غير لازم ؛ لأنَّ هذه الآية [ دالة ] على أنَّه لا يجوز ِأن يكون العبد مثلاً كخلق الله تعالى ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتَّة ، فكيف يلزمنا ذلك ؟ .

وأما قوله : " لو كان فعل العبد خلقاً لله لما حسن ذمُّ الكفَّار على هذا المذهب " .

قلنا : حاصلة يرجع إلى أنَّه لما حصل الوجود ، وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهنو منقوض ؛ لأنَّه تعالى ذمَّ أبا لهب على كفره مع أنَّه علم منه أنَّه يموت على الكفر ، وخلاف المعلوم محال الوقوع .

قوله : { قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار } وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى ؛ لأنَّ فعل العبد شيء ، فوجب أن يكون خالقه هو الله تعالى وأيضاً : فقوله : { وَهُوَ الواحد القهار } لا يقال فيه : إنه تعالى واحد في أي المعاني ، بل الواحد في الخالقية ؛ لأن المذكور السابق هو الخالقية ، فوجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية ، القهار لكل ما سواه .

فصل

زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء .

قال الخطيب : " وهذا الخلاف ليس إلا في اللفظ ، وهو أن اسم الشيء هل يقع عليه أم لا ؟ فزعم قوم أنه لا يقع ، وجوّزه قومٌ " .

واحتج المانعون : بأنه لو كان شيئاً لوجب أن يكون خالقاً لنفسه ، لقوله تعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] وذلك محالٌ ؛ فثبت أنه لا يقع عليه اسم الشيء ، ولا يقال : إنَّ هذا عام دخله التخصيص ؛ لأنَّ العام المخصوص إنَّما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي ، وأحسن منه ، كما يقال : هذه الرُّمَّانة مع أنَّه سقطت حبات ما أكلها ، وههنا ذات الله أعلى الموجودات ، وأشرفها ، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقِّه .

واستدلُُّوا أيضاً بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] والمعنى : ليس مثل مثله شيء ، ومعلوم أن كل حقيقة [ فإنها ] مثل مثل نفسها ، فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نصَّ على أنَّ مثل مثله ليس بشيء ، فهذا تنصيصٌ على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيءِ .

واستدلُّوا أ يضاً بقوله تعالى :

{ وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا } [ الأعراف : 180 ] قالوا : دلَّت على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى ، ولفظ الشيء يتناول أحد الموجودات ، فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن ؛ فوجب ألاَّ يجو دعاء الله بهذا اللفظ .

وتمسك من جوَّز إطلاق هذه التسمية عليه بقوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] .

وأجاب الألولون : بأنَّ هذا سؤال متروك الجواب ، وقوله : { قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله .

فصل

تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة ، وقالوا : لأنه لو حصل لله تعالى علم ، وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إمَّا أن تحصل يخلق الله تعالى أو لا تحصل بخلق الله والأول باطل ، وإلا لزم التسلسل ، والثاني باطلٌ ؛ لأنََّ قول الله تعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] يتناول الذات ، والصفات حكمنا بدخول التخصيص في ذات الله تعالى ؛ فوجب أن يبقى على عمومه في سائر الأشياء ، والقرآن ليس هو الله ؛ فوجب أن يكون مخلوقاً لدخوله في هذا العموم .

والجواب أن يقال : أقصى ما في الباب أنَّ الصِّيغة عامة ؛ لأن تخصيصها في حق صفات الله تعالى بالدلائل العقليَّة .