قوله تعالى : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض } الآية لما بيَّن أنَّ كل من في السَّموات ، والأرض ساجد لله بمعنى كونه خاضعاً له ؟ ، عدل إلى الرَّد على عبدة الأصنام فقال : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله } ولمَّا كان هذا الجواب يقرّ به المسئولُ ويعترف به ، ولا ينكره ، أمره عليه الصلاة والسلام أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتَّة .
قال القشيري : " ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع ، أي : سلهم عن خالق السموات والأرض ؛ فإنه يسهل تقرير الحجة عليهم ويقربُ الأمر من الضرورة ، فإن عجز الجماد ، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات ، والأرض معلوم " ؟
ولما بين الله أنَّه هو الرب لكلِّ الكائنات [ قاله له ] : قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء ، وهي جمادات ، وهي لا تملكُ لأنفسها نفعاً ، ولا ضرًّا ، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [ لأنفسها ، ودفع المضرة عن نفسها ، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة ] لغيرها ، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى ، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث ، والسَّفه ، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها .
فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور } قرأ الأخوان ، وأبو بكر عن عاصم : " يَسْتَوِي " بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التَّأنيث ، فيجوز في فعله التذكير ، والتأنيث ، كنظائر له مرت . وهذه مثل ضربه اللهُ سبحانه وتعالى للكفَّار ؟
قوله : " أمْ هَلْ " هذه أم المنقطعة ، فتقدر ب " بل " ، والهمزة عند الجمهور ، وب " بل " وحدها عند بعضهم ، وقد تقدَّم تحريره ، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها ب " بَلْ " فقط بوقوع : " هَلْ " بعدها ، فلو قدَّرناها ب " بَلْ " والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى ؛ فتقدرها ب " بل " وحدها ، " ولا " تقويةٌ له ، فإن الهمزة قد جامعت : " هَلْ : في اللفظ ، كقوله الشاعر : [ البسيط ]
3173 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أهَلْ رَأوْنَا بِوادِي القُفِّ ذي الأكَمِ
ولقائل أن يقول : لا نسلم إنَّ : " هَلْ " هذه استفهاميَّة ، بل بمعنى : " قَدْ " ، وإليه ذبله جماعةٌ ، وإن لم تجامعها همزة ، كقوله تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] أي : قد أتى ، فههنا أولى ، والسماع قد ورد بوقوع : " هَلْ " بعد : " أم " وبعدمه . فمن الاول هذه الآية ، ومن الثاني : ما بعدها من قوله : " أمْ جَعلُوا " .
وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله : [ البيسط ]
3175 هَلْ مَا عَلمْتَ ومَا اسْتُودعْتَ مكْتومُ *** أمْ حَبْلُهَا إذ نَأتْكَ اليَوْمَ مَصرُومُ
أمْ هَلْ كثيرٌ بَكَى لمْ يَقْضِ عَبرتَهُ *** إثْرَ الأحِبَّة يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ
قوله : { هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } كذلك لايستوي المؤمن ، والكافر : { أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور } اي كما لا تستوي الظلمات والنور ، لايستوي الكفر والإيمان .
قوله : { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } الجملة من قوله : " خَلقُوا " صفة ل : " شُرَكاءَ " ، { فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ } ، أي : اشتبه ماخلقوه بما خلقه الله عزَّ وجلَّ فلا يدرون ما خلق الله ، وما خلق آلهتهم .
والمعنى : أنَّ هذه الأشياء الَّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتَّى يقولوا : إنها تشارك الله في الخالقيَّة ؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيَّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنَّ هذه الأصنام لم يمصدر عنها فعلٌ ، ولا خلق ، ولا أثر ألبتة ، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيَّة محض السَّفه ، و الجهل .
قال ابن الخطيب : " زعمت المعتزلة أنَّ العبد يخلق حركات ، وسكنات مثل الحركات ، والسكنات التي يخلقها الله ، وعلى هذا التقدير : فقد { جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } والله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذَّم ، والإنكارِ ؛ فدلت على أنَّ العبد لا يخلق أفعال نفسه " .
قال القاضي : " نحن وإن قلنا : " إنَّ العبد يخلق إلاَّ أنَّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله ؛ لأن أحداً ما يفعل كقدرة الله ، وإنما يفعل لجلب منفعة ، ودفع مضرة ، والله تعالى منزه عن ذلك ؛ فثبت أنَّ بتقدير كون العبدِ خالقاً إلا أنَّه لا يكون خلقه كخلق الله ، وأيضاً : فهذا الإلزامُ للمجبرة أيضاً ؛ لأنَّهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسبٌ للعبد ، وفعلٌ له ، وهذا عين الشرك ؛ لأنَّ الإله ، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضاً نصيبٌ ، وهو أنه ، تعالى إنَّما ذكر هذا الكلام عيباً للكفَّار أن يقولوا : إنَّ الله تعالى خلق هذا الكفر فينا ؛ فلم يذمنا ، ولم ينسبنا للجهل ، والتقصير ، مع أنه حصل فينا بغير فعلنا ، ولا باختيارنا " .
والجواب عن الأول : هو أنَّ لفظ الخلق عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود ، أو عبارة عن التقديرين ، وعلى الوجهين : فبتقدير أن يكون العبد محدثاُ ، فإنه لا بد أن يكون حادثاً ، أما قوله : والعبد وإن كان خالقاً إلاَّ أنه ليس خلقه كخلق الله تعالى .
قلنا : الخلق عبارةٌ عن الإيجاج التكوين والإخراج من العدم إلى الوجود ، ومعلومٌ أنَّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني ، وحينئذ يصحُّ أن يقال : إنَّ هذا الذي هو مخلوقٌ للعبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى ، ولا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات ، إلاَّ أنَّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في المماثلة من هذا الوجه ، وهذا القدر يكفي في الاستدلال .
وأما قوله : " هذا لازم على المجبرة حيث قالوا : إنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى " .
فنقول : هذا غير لازم ؛ لأنَّ هذه الآية [ دالة ] على أنَّه لا يجوز ِأن يكون العبد مثلاً كخلق الله تعالى ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتَّة ، فكيف يلزمنا ذلك ؟ .
وأما قوله : " لو كان فعل العبد خلقاً لله لما حسن ذمُّ الكفَّار على هذا المذهب " .
قلنا : حاصلة يرجع إلى أنَّه لما حصل الوجود ، وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهنو منقوض ؛ لأنَّه تعالى ذمَّ أبا لهب على كفره مع أنَّه علم منه أنَّه يموت على الكفر ، وخلاف المعلوم محال الوقوع .
قوله : { قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار } وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى ؛ لأنَّ فعل العبد شيء ، فوجب أن يكون خالقه هو الله تعالى وأيضاً : فقوله : { وَهُوَ الواحد القهار } لا يقال فيه : إنه تعالى واحد في أي المعاني ، بل الواحد في الخالقية ؛ لأن المذكور السابق هو الخالقية ، فوجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية ، القهار لكل ما سواه .
زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء .
قال الخطيب : " وهذا الخلاف ليس إلا في اللفظ ، وهو أن اسم الشيء هل يقع عليه أم لا ؟ فزعم قوم أنه لا يقع ، وجوّزه قومٌ " .
واحتج المانعون : بأنه لو كان شيئاً لوجب أن يكون خالقاً لنفسه ، لقوله تعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] وذلك محالٌ ؛ فثبت أنه لا يقع عليه اسم الشيء ، ولا يقال : إنَّ هذا عام دخله التخصيص ؛ لأنَّ العام المخصوص إنَّما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي ، وأحسن منه ، كما يقال : هذه الرُّمَّانة مع أنَّه سقطت حبات ما أكلها ، وههنا ذات الله أعلى الموجودات ، وأشرفها ، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقِّه .
واستدلُُّوا أيضاً بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] والمعنى : ليس مثل مثله شيء ، ومعلوم أن كل حقيقة [ فإنها ] مثل مثل نفسها ، فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نصَّ على أنَّ مثل مثله ليس بشيء ، فهذا تنصيصٌ على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيءِ .
واستدلُّوا أ يضاً بقوله تعالى :
{ وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا } [ الأعراف : 180 ] قالوا : دلَّت على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى ، ولفظ الشيء يتناول أحد الموجودات ، فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن ؛ فوجب ألاَّ يجو دعاء الله بهذا اللفظ .
وتمسك من جوَّز إطلاق هذه التسمية عليه بقوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] .
وأجاب الألولون : بأنَّ هذا سؤال متروك الجواب ، وقوله : { قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله .
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة ، وقالوا : لأنه لو حصل لله تعالى علم ، وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إمَّا أن تحصل يخلق الله تعالى أو لا تحصل بخلق الله والأول باطل ، وإلا لزم التسلسل ، والثاني باطلٌ ؛ لأنََّ قول الله تعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] يتناول الذات ، والصفات حكمنا بدخول التخصيص في ذات الله تعالى ؛ فوجب أن يبقى على عمومه في سائر الأشياء ، والقرآن ليس هو الله ؛ فوجب أن يكون مخلوقاً لدخوله في هذا العموم .
والجواب أن يقال : أقصى ما في الباب أنَّ الصِّيغة عامة ؛ لأن تخصيصها في حق صفات الله تعالى بالدلائل العقليَّة .