التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ لَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعٗا وَلَا ضَرّٗاۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِي ٱلظُّلُمَٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَيۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّـٰرُ} (16)

قوله تعالى : { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } .

المشركون مقرون بوجود الله سبحانه ، وأنه الخالق ، فإذا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم { مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } فما لهم بد من أن يقولوا { الله } وإذا لم يقولوها ، بادرهم النبي صلى الله عليه وسلم الجواب { الله } تنفيذا لأمر الله له { قل الله } أي إذا لم يجيبوا فلقنهم يا محمد الجواب ؛ فإنه لا جواب غيره .

لقد كانت مشكلة الكافرين الكبرى قبل ظهور الإسلام ولدى ظهوره أنهم كانوا مولعين بحب الأصنام وتقديسها . لقد كانت هذه الحجارة الصماء ، وهذه الآلهة المصطنعة البلهاء مستحوذة على قلوبهم ومشاعرهم أيما استحواذ ، لكنهم مع ذلك ما كانوا ينكرون وجود الله الخالق البارئ . ما كانت لوثة الإلحاد الأسود لتطغى على فطرتهم وأذهانهم كما طغت على أمم ضالة جاءت حديثا وعقب الجاهلين الغابرين . هذه الأمم التي استشرت فيها نزغات الشياطين العتاة فأفسدت فيها الفطرة شر إفساد ، ومسخت طبائعها الآدمية وخصائصها الذهنية والنفسية والروحية أفظع مسخ . وألئك الذين انقلبوا على أعقابهم مرتكسين جاحدين بعد أن أغواهم دهاقنة الفكر الشيطاني الظلوم من أمثال ماركس وسارتر وفرود ونظائرهم من الشياطين الذين عاثوا في الدنيا تخريبا وإفسادا ، والذين قلبوا المعايير الفطرية رأسا على عقب فمضوا بالبشرية إلى حيث البهيمية الوضعية ؛ فانتكسوا بها إلى الهاوية من الدركات في أسفل سافلين ، وعندها تمحي منها كل ظواهر الإنسان المميز الراقي .

قوله : { قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا } بهذا على أن المشركون حينئذ كانوا معترفين بأن اله حق وإنه الخالق ؛ أي ما دمتم قد اعترفتم بأن الله حق فلم تعبدون غيره من الأنداد والشركاء الذين لا ينفعون ولا يضرون ولا يردون عن أحد كيدا ولا ينصرون ؟ ! . فهم ليسوا غير أشباح موهومة تصطف اصطفاف الحجارة الصامتة الخرساء .

قوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } هذه واحدة من البدهيات المقررة المحققة وهي أن الأعمى والبصير لا يستويان . وذلك مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فإنهما لا يستويان ، لأن الأول مهتد مستنير ، والثاني ضال مضطرب متلجلج . المؤمن قد اهتدى للمحجة المستقيمة البيضاء ، لكن الثاني سادر في الظلام ، يمضي ثائها مضللا متعثرا .

قوله : { أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ } وهذا مثال آخر في الظلام البهيم ، والنور المشرق الوضاء . ومثل ذلك شأن الكفر بما يقتضيه من معاندة ومكابرة وجحود ، وبما يزجي غليه من هوى فاسد جامح لجوج . إن هذا الكفر بكل ضروبه وأشكاله ليس إلا الظلام الذي يتيه فيه العصاة والعتاة والمتمردون ، الذين يحادون الله ويكذبون أنبياءه ورسالاته ويجحدون دينه ومنهجه الذي ارتضاه لأهل الأرض .

وفي مقابل ذلك ، النور ، ويراد به الإيمان ، أو عقيدة الحق ، عقيدة الإسلام العظيم ، العقيدة السمحة الراسخة الودود التي تنبثق عنها خير شريعة عرفتها البشرية ، الشريعة الميسرة المعتدلة ، الوسط ، التي تتجلى فيها كل خصائص الصلاح والسعادة للإنسان .

قوله : { أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } { أم } ، المنقطعة بمعنى بل والهمزة . والاستفهام للإنكاري ؛ أي بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه . وقيل : معناه : أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق فالتبس عليهم خلق الله وخلق الشركاء ؟ وليس الأمر مثل ذلك من الاشتباه عليهم والالتباس ؛ بل إن الأمر بالغ الوضوح والاستبانة ، كامل اليقين والظهور ؛ فإن ما يعبده هؤلاء الضالون السفهاء لا يعي ولا يعقل ولا يريم أو يتبصر ؛ بل إن ما يعبدونهم ليسوا غير حطام مركوم من الأصنام الجوامد الصم . ولئن عبدوا فريقا من جبابرة الحكام أو طواغيت البشر ؛ فإن هؤلاء الطغاة المعبودين لا ينفعونهم بل يضرونهم ويستخفون أيما استخفاف ويستخسرون منهم استسخارا فيتخذون منهم الخدم والخول والعبيد والأراذل .

قوله : { قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } هذه يقينية كونية كبرى تتجلى في حقيقة الألوهية العظيمة ؛ بل إنها واحدة من صفات الله الواحد البارئ ، وهي الخلق . فما من موجود في هذا الوجود إلا هو مخلقو لله . ويستوي في المخاليق كل الأشياء ، ما كان منها غيبيا غير مشهود كالجن والملائكة والأرواح . أو كان حسيا مشهودا متناولا لكل الخلائق من بحار وأشجار وأنجم وأصنام وساسة وملوك ، كل أولئك قد خلقهم الله وحده . وليس له في هذه الخصيصة كفيء{[2337]} أو نديد { وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } أي الله هو الفرد الذي ليس معه ثان ؛ بل هو المتفرد بالألوهية . وهو القهار الذي يغلب ما سواه . فما من شيء سواه إلا هو مربوب له ومقهور{[2338]} .


[2337]:الكفيء: النظير، أو الكفء، أو الكفؤ، من الكفاءة. انظر مختار الصحاح ص 572.
[2338]:فتح القدير جـ 3 ص 74 وتفسير القرطبي جـ 9 ص 303.