يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مبينا له عظمة القرآن : { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } أي : كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد ، وجميع المطالب الإلهية ، والمقاصد الشرعية ، محكما مفصلا { فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } أي : ضيق وشك واشتباه ، بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وأنه أصدق الكلام فلينشرح له صدرك ، ولتطمئن به نفسك ، ولتصدع بأوامره ونواهيه ، ولا تخش لائما ومعارضا .
{ لِتُنْذِرَ بِهِ } الخلق ، فتعظهم وتذكرهم ، فتقوم الحجة على المعاندين .
{ و } ليكون { ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } كما قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } يتذكرون به الصراط المستقيم ، وأعماله الظاهرة والباطنة ، وما يحول بين العبد ، وبين سلوكه .
ثم مدح - سبحانه - الكتاب الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } .
المراد بالكتاب جملة القرآن الكريم ، وقيل : المراد به هنا السورة . وحرج الصدر ضيقه وغمه ، مأخوذ من الحرجة التي هى مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه طريقا يخرج منه .
والمعنى ، هذا كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين ، فبلغ تعاليمه للناس . ولا تحزن أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدوداً عنه ، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب .
ولقد حكى لنا القرآن أن المشركين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه صاحر . أو مجنون ، كما وصفوا القرآن بأنه ليس من عند الله ، فكان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لذلك .
قال تعالى : { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } تقوية قلب النبى صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت فؤاده ، وتسليته عما يتقوله المشركون من أكاذيب وأباطيل ، وإفهام الداعى إلى الله في كل زمان ومكان أن من الواجب عليه أن يكون قوى القلب في تحمل مهمته ، مطمئن البال على حسن عاقبته ، لا يتأثر بالمخالفة ، ولا يضيق صدره بالإنكار .
وقد فسر صاحب الكشاف الحرج بالشك فقال : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى شك منه كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } وسمى الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرجه ، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه . أى : لا تشك في أنه منزل من الله ، ولا تتحرج من تبليغه ، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم . فكان ضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم " .
وعلى أية حال فإن من فسر الحرج بالضيق راعى مدلول الكلمة الأصلى ومن فسره بالشك راعى الاستعمال المجازى ولذا قال الآلوسى :
قوله تعالى - : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى : شك . وأصله الضيق ، واستعماله في الشك مجاز علاقته اللزوم ، فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر ، كما أن المتيقن يعتريه انشرحه وانفساحه " .
ولفظ { كِتَابٌ } يكون مبتدأ إذا جعلنا " ألمص " اسما للسورة ، وإلا كان خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير : هذا كتاب . وتنكيره للتفخيم والتعظيم وجملة { أُنزِلَ إِلَيْكَ } صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل عليه .
وإنما قيل : { أُنزِلَ } ولم يقل أنزله الله وأنزلناه ، للإيذان بأن المنزل مستغن عن التعريف لشرفه وغاية ظهوره .
ثم بين - سبحانه - العلة في إنزال الكتاب فقال : { لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } .
الإنذار : هو الإعلام المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة .
أى : أنزلنا إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس ، وتذكر به أهل الإيمان والطاعة ذكرى نافعة مؤثرة ، لأنهم هم المستعدون لذلك ، وهم المنتفعون بإرشادك .
قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } وقال تعالى : { تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } وقال تعالى : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } قال صاحب الكشاف : فما محل ذكرى ؟ قلت يحتمل الحركات الثلاث . النصب بإضمار فعلها . كأنه قيل : لتنذر به وتذكر تذكيرا ، لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير ، والرفع عطفا على كتاب ، أو لأنه خبر مبتدأ محذوف . والجر للعطف على محل لتنذر ، أى : للإنذار وللذكر " .
( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين ) . .
كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير . . كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون ؛ ولمجابهة عقائد وتقاليد وارتباطات ؛ ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات . فالحرج في طريقه كثير ، والمشقة في الإنذار به قائمة . . لا يدرك ذلك - كما قلنا في التعريف بالسورة - إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف ؛ وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة ؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها ، وفي مظاهرها وفروعها ، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة [ ص ] ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها . .
وهذا الموقف ليس مقصوراً على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك ، وما كان في الأرض من حولها . . إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً ، وقع مرة ، ثم مضى التاريخ وخلفة وراءه ! . . إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة . . وهو يواجهها كما واجهها أول مرة ، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة ! . . إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها - وهذه هي " الرجعية " البائسة المرذولة - وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه " الرجعية " مرة أخرى كذلك ؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة ؛ ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأول [ ص ] وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية ؛ والغيبوبة في ظلامها الطاغي ! ظلام التصورات . وظلام الشهوات . وظلام الطغيان والذل . وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضاً ! ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج ، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية ، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي [ ص ] :
( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) . .
ويعلم - من طبيعة الواقع - من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى ، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار . ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة ، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهاداً كبيراً . .
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله [ ص ] بهذا الكتاب ، مأموراً من ربه أن ينذر به ويذكر ؛ وألا يكون في صدره حرج منه ، وهو يواجه الجاهلية ، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق . .
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين ، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر ، والسطوح والأعماق !
انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء - حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين ، المسلمين لله المخلصين له الدين - فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق . .
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم ، وليقيم عالماً آخر ، يقر فيه سلطان الله وحده ، ويبطل سلطان الطواغيت . عالماً يعبد فيه الله وحده - بمعني " العبادة " الشامل - ولا يعبد معه أحد من العبيد . عالماً يخرج الله فيه - من شاء - من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . عالماً يولد فيه " الإنسان " الحر الكريم النظيف . . المتحرر من شهوته وهواه ، تحرره من العبودية لغير الله .
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة : " أشهد أن لا إله إلا الله " التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري - كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم - وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلولإلا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر ، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء . فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره ، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته . . وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه ؛ ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده . ولا يتلقى الشرائع والقوانين ، والقيم والموازين ، والعقائد والتصورات إلا من الله ، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله .
هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد . . فأين منها البشرية كلها اليوم ؟
إن البشرية تنقسم شيعاً كلها جاهلية .
شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلا وهم الملحدون . . فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان !
وشيعة وثنية تعترف بوجود إله ، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأرباباً كثيرة . كما في الهند ، وفي أواسط إفريقية ، وفي أجزاء متفرقة من العالم .
وشيعة " أهل كتاب " من اليهود والنصارى . وهؤلاء أشركوا قديماً بنسبة الولد إلى الله . كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله - لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع . وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلاً ! . . ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها " الرأسمالية " و " الاشتراكية " . . وما إليها . ويقيمون لأنفسهم أوضاعاً للحكم يسمونها " الديمقراطية " و " الديكتاتورية " . . . وما إليها . ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله ، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم ، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم . وشيعة تسمي نفسها " مسلمة " ! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه - حذوك النعل بالنعل ! - خارجة من دين الله إلى دين العباد . فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه . ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم !
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية ؛ وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية . . شيعها جميعاً لا تتبع دين الله أصلاً . . وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة ، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور . ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع . . وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله [ ص ] وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية ، المستنيمة للمستنقع الآسن ، الضالة في تيه الجاهلية ، المستسلمة لاستهواء الشيطان في التيه ! . . وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة : أشهد أن لا إله إلا الله . وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده ، ولا يعبد معه سواه . وتحقيق ميلاد للإنسان جديد ، يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد ، ومن عبادة هواه !
إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً ، وقع مرة ، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه . . إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة ؛ في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد . . . التي واجهها أول مرة .
إن الجاهلية حالة ووضع ؛ وليست فترة تاريخية زمنية . . والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض ، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع . . إنها تقوم ابتداء على قاعدة : " حاكمية العباد للعباد " ، ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد . . تقوم على أساس أن يكون " هوى الإنسان " في أيةصورة من صوره هو الإله المتحكم ، ورفض أن تكون " شريعة الله " هي القانون المحكم . . ثم تختلف أشكالها ومظاهرها ، وراياتها وشاراتها ، وأسماؤها وأوصافها ، وشيعها ومذاهبها . . غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها . .
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية . وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية . وأن الإسلام اليوم متوقف عن " الوجود " مجرد الوجود ! وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول الله [ ص ] تماماً ؛ ويواجهون ما كان يواجهه [ ص ] تماماً ، وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول الله - سبحانه - له :
( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) . .
ولتوكيد هذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل :
إن المجتمعات البشرية اليوم - بجملتها - مجتمعات جاهلية . وهي من ثم مجتمعات " متخلفة " أو " رجعية " ! بمعنى أنها " رجعت " إلى الجاهلية ، بعد أن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها . والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية ، وقيادتها في طريق التقدم و " الحضارة " بقيمها وموازينها الربانية .
إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع - متمثلة في سيادة شريعته الربانية - تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد . وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة - كما هي في ميزان الله - لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد . ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد . . لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا ؛ وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب ! والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية . فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد . . كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين ! . . ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف . . أو بالاصطلاح الإسلامي : " مجتمع جاهلي مشرك " !
وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة . ويكون هذا كله صادراً من الله ، لا من هوى فرد ، ولا من إرادة عبد . فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متحضراً متقدماً . أو بالاصطلاح الإسلامي : مجتمعاً ربانياً مسلماً . . لأن التجمع حينئذ يكون ممثلاً لأعلى ما في " الإنسان " من خصائص - خصائص الروح والفكر - فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض . . . وما إلى ذلك من الروابط . . فإنه يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً . . أو بالاصطلاح الإسلامي : مجتمعاً جاهلياً مشركاً . . ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض . . . . وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في " الإنسان " . فالإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض . ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر !
ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة - وهي أسمى ما أكرمه الله به - أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه . ولكنه لا يملك أبداً أن يغير جنسه ، ولا لونه ، ولا قومه . لا يملك أن يحدد سلفاً مولده في جنس ولا لون ؛ كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض . . فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها !
وحين تكون " إنسانية الإنسان " هي القيمة العليا في مجتمع ؛ وتكون " الخصائص الإنسانية " فيه موضعالتكريم والرعاية ، يكون هذا المجتمع متحضرا متقدماً . . أو بالاصطلاح الإسلامي : ربانياً مسلماً . . فأما حين تكون " المادة " - في أية صورة من صورها - هي القيمة العليا . . سواء في صورة " النظرية " كما في الماركسية ، أو في صورة " الإنتاج المادي " كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا ، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية - وفي أولها القيم الأخلاقية - فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً . . أو بالاصطلاح الإسلامي : مجتمعاً جاهلياً مشركاً . .
. . إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة ؛ لا في صورة " النظرية " باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه ؛ ولا في صورة " الإنتاج المادي " والاستمتاع به . فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه ؛ والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه - كما سنرى في سياق هذه السورة - ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص " الإنسان " ومقوماته ! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية . . الملحدة أو المشركة . .
وحين تكون القيم " الإنسانية " والأخلاق " الإنسانية " - كما هي في ميزان الله - هي السائدة في مجتمع ، فإن هذا المجتمع يكون متحضراً متقدماً . . أو بالاصطلاح الإسلامي . . ربانياً مسلماً . . والقيم " الإنسانية " والأخلاق " الإنسانية " ليست مسألة غامضة ولا مائعة ؛ وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة لا تستقر على حال - كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين ، فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم . . إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان " خصائص الإنسان " التي ينفرد بها دون الحيوان . وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنساناً . وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان . . وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت ، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها " التطوريون " ! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية . ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية . ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية ! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة ، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها ، وحتمية في نشأتها وتقريرها . . إنما تكون هناك فقط " قيم وأخلاق إنسانية " يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر . " وقيم وأخلاق حيوانية " - إذا صح هذا التعبير - يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف . . أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية ؛ وقيم وأخلاق رجعية جاهلية !
إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية ، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة ، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي ! إن هذا المقياس لا يخطىء في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته .
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان . ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية - ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة - رذيلة أخلاقية ! إن المفهوم " الأخلاقي " ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية - أحياناً في حدود مصلحة الدولة ! - والكتاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان : إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية !
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة - من وجهة النظر " الإنسانية " . وبمقياس خط التقدم الإنساني . . وهي كذلك غير إسلامية . . لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته ، وتنميةخصائصه الإنسانية ، وتغلبها على نزعاته الحيوانية . .
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة ، وإغراقها في الجاهلية . . من العقيدة إلى الخلق . ومن التصور إلى أوضاع الحياة . . ونحسب أن هذه الإشارات المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة . ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين الله . . إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام : عقيدة وخلقاً ونظاماً . . إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول الله [ ص ] وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة . وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه ؛ وربه - سبحانه - يخاطبه :
( كتاب أنزل إليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين ) . .
{ كتاب } خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب ، أو خبر { المص } والمراد به السورة أو القرآن . { أُنزل إليك } صفته { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي شك ، فإن الشك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة أن تكذب فيه ، أو تقصر في القيام بحقه ، وتوجيه النهي إليه للمبالغة كقولهم لا أرينك ها هنا . والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل : إذا نزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك . { لتنذر به } متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه . { وذكرى للمؤمنين } يحتمل النصب بإضمار فعلها أي : لتنذر وتذكر ذكرى فإنها بمعنى التذكير ، والجر عطفا على محل تنذر والرفع عطفا على كتاب أو خبرا لمحذوف .
وقوله تعالى : { كتاب أنزل إليك } الآية ، قال الفراء وغيره { كتاب } رفع على الخبر للحروف ، كأنه قال هذه الحروف كتاب أنزل إليك ، ورد الزجّاج على هذا القول بما لا طائل فيه ، وقال غيره : { كتاب } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب و { أنزل إليك } في موضع الصفة ل { كتاب } ، ثم نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرم أو يستصحب من هذا الكتاب أو بسبب من أسبابه حرجاً ، ولفظ النهي هو للحرج ومعناه للنبي عليه السلام ، وأصل الحرج الضيق ، ومنه الحرجة الشجر الملتف الذي قد تضايق ، و «الحرج » ها هنا يعم الشك والخوف والهم وكل ما يضيق الصدر ، وبحسب سبب الحرج يفسر الحرج ها هنا ، وتفسيره بالشك قلق ، والضمير في { منه } عائد على الكتاب أي بسبب من أسبابه ، و «من » ها هنا لابتداء الغاية ، وقيل يعود على التبليغ الذي يتضمنه معنى الآية ، وقيل على الابتداء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعم الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك .
وقوله تعالى : { فلا يكن في صدرك حرج منه } اعتراض في أثناء الكلام ، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديماً وتأخيراً ، وقوله { لتنذر } اللام متعلقة ب { أنزل } . وقوله { وذكرى } معناه تذكرة وإرشاد ، و { ذكرى } في موضع رفع عطفاً على قوله { كتاب } . فالتقدير هذه الحروف كتاب وذكرى ، وقيل رفعه على جهة العطف على صفة الكتاب فالتقدير هذه الحروف كتاب منزل إليك وذكرى ، فهي عطف على ( منزل ) داخلة في صفة الكتاب ، وقيل { ذكرى } في موضع نصب بفعل مضمر تقديره لتنذر به وتذكر ذكرى للمؤمنين ، وقيل نصبها على المصدر وقيل { ذكرى } في موضع خفض عطفاً على قوله { لتنذر } أي لإنذارك وذكرى .