{ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } وهي جميع النفوس الخيرة والفاجرة ، سميت { لوامة } لكثرة ترددها وتلومها وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها ، ولأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما عملت{[1290]} ، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا على ما حصل منه ، من تفريط أو تقصير في حق من الحقوق ، أو غفلة ، فجمع بين الإقسام بالجزاء ، وعلى الجزاء ، وبين مستحق الجزاء .
افتتح الله - تعالى - هذه السورة الكريمة بقوله - تعالى - : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } .
وللعلماء فى مثل هذا التركيب أقوال منها : أن حرف " لا " هنا جئ به ، لقصد المبالغة فى تأكيد القسم ، كما فى قولهم : لا والله .
قال الآلوسى : إدخال " لا " النافية صورة على فعل القسم ، مستفيض فى كلامهم وأشعارهم .
ومنه قول امرئ القيس : لا وأبيك يا بنة العامرى . . يعنى : وأبيك .
ثم قال : وملخص ما ذهب إليه جار الله فى ذلك ، أن " لا " هذه ، إذا وقعت فى خلال الكلام كقوله - تعالى - { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } فهى صلة تزاد لتأكيد القسم ، مثلها فى قوله - تعالى - : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } لتأكيد العلم . .
ومنها : أن " لا " هنا ، جئ بها لنفى ورد كلام المشركين المنكرين ليوم القيامة فكأنه - تعالى - يقول : لا ، ليس الأمر كما زعموا ، ثم قال : أقسم بيوم القيامة الذى يبعث فيه الخلق للجزاء .
قال القرطبى : وذلك كقولهم : لا والله لا أفعل . فلا هنا رد لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروها . .
ومنها : أن " لا " فى هذا التركيب وأمثاله على حقيقتها للنفى ، والمعنى لا أقسم بيوم القيامة ولا بغيره ، على أن البعث حق ، فإن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى قسم .
وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال : وصيغة لا أقسم ، صيغة قسم ، أدخل حرف النفى على فعل " أقسم " لقصد المبالغة فى تحقيق حرمة المقسم به ، بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ، ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول : لا أقسم به ، أى : ولا أقسم بأعز منه عندى . وذلك كنانية عن تأكيد القسم .
والمراد بالنفس اللوامة : النفس التقية المستقيمة التى تلوم ذاتها على ما فات منها ، فهى - مهما أكثرت من فعل الخير - تتمنى أن لو ازدادت من ذلك ، ومهما قللت من فعل الشر ، تمنت - أيضا - أن لو ازدادت من هذا التقليل .
قال ابن كثير : عن الحسن البصرى فى هذه الآية : إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه ، يقول : ما أردت بكلمتى ؟ ما أردت بأكلتى ؟ . . وإن الفاجر قدما ما يعاتب نفسه .
وفى رواية عن الحسن - أيضا - ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة .
فأما النفس اللوامة ففي التفسيرات المأثورة أقوال متنوعة عنها . . فعن الحسن البصري : إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ? ما أردت بأكلتي ? ما أردت بحديث نفسي ? وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه . . وعن الحسن : ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة . . وعن عكرمة : تلوم على الخير والشر : لو فعلت كذا وكذا ! كذلك عن سعيد بن جبير . . وعن ابن عباس : هي النفس اللؤوم . وعنه أيضا : اللوامة المذمومة . وعن مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه . . وعن قتادة : الفاجرة . . وقال جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات .
ونحن نختار في معنى ( النفس اللوامة )قول الحسن البصري : " إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ? ما أردت بأكلتي ? ما أردت بحديث نفسي ? وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه " . .
فهذه النفس اللوامة المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها ، وتتلفت حولها ، وتتبين حقيقة هواها ، وتحذر خداع ذاتها هي النفس الكريمة على الله ، حتى ليذكرها مع القيامة . ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة . نفس الإنسان الذي يريد أن يفجر ويمضي قدما في الفجور ، والذي يكذب ويتولى ويذهب إلى أهله يتمطى دون حساب لنفسه ودون تلوم ولا تحرج ولا مبالاة !
ولا أقسم بالنفس اللوامة بالنفس المتقية التي تلوم النفوس المقصرة في التقوى يوم القيامة على تقصيرها أو التي تلوم نفسها أبدا وإن اجتهدت في الطاعة أو النفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة أو بالجنس لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزدد وإن عملت شرا قالت يا ليتني كنت قصرت أو نفس آدم فإنها لم تزل تتلوم على ما خرجت به من الجنة وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها .
وقوله تعالى : «ولا أقسم بالنفس اللوامة » القول في «لا » على نحو ما تقدم ، وأما القراءة الثانية فتحتمل أمرين ، إما أن تكون اللام دخلت على فعل الحال ، التقدير لأنا أقسم فلا تلحق لأن النون نون التوكيد إنما تدخل في الأكثر لتفرق بين فعل الحال والفعل المستقبل فهي تلزم المستقبل في الأكثر ، وإما أن يكون الفعل خالصاً للاستقبال فكأن الوجه والأكثر أن تلحق النون إما الخفيفة وإما الثقيلة ، لكن قد ذكر سيبويه أن النون قد تسقط مع إرادة الاستقبال وتغني اللام عنها كما تسقط اللام وتغني النون عنها وذلك في قول الشاعر : [ الكامل ]
وقتيل مرة أثأرن فإنه*** فرغ وإن قتيلهم لم يثأر{[11463]}
المراد لأثارن ، وأما قوله «ولا أقسم بالنفس اللوامة » فقيل «لا » نافية ، وإن الله تعالى أقسم بيوم القيامة ، ونفى أن يقسم بالنفس اللوامة نص عليه الحسن ، وقد ذهب هذا المذهب قوم ممن قرأ «لا أقسم ولأقسم » ، وذلك قلق وهو في القراءة الثانية أمكن وجمهور المتأولين على أن الله تعالى أقسم بالأمرين ، واختلف الناس في { النفس اللوامة } ما معناه ، فقال الحسن هي { اللوامة } لصاحبها في ترك الطاعة ونحوه ، فهي على هذا ممدوحة ، ولذلك أقسم الله تعالى بها ، وقال ابن عباس : هي الفاجرة الجشعة { اللوامة } لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأعراضها فهي على هذا ذميمة وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها والنفس في الآية اسم جنس لنفوس البشر ، وقال ابن جبير ما معناه : إن القسم بها هي اسم الجنس لأنها تلوم على الخير وعلى الشر ، وقيل المراد نفس آدم لأنها لم تزل اللائمة له على فعله الذي أخرجه من الجنة .
قال القاضي أبو محمد : وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء ، فإنها لوامة في الطرفين مرة تلوم على ترك الطاعة ، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنت خلصت وصفت .