75 - فأقسم - حقا - بمساقط النجوم عند غروبها آخر الليل أوقات التهجد والاستغفار ، وإنه لقسم - لو تفكرون في مدلوله - عظيم الخطر بعيد الأثر{[219]} .
{ 75-87 } { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
أقسم تعالى بالنجوم ومواقعها أي : مساقطها في مغاربها ، وما يحدث الله في تلك الأوقات ، من الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده .
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ . . . } .
قال بعض العلماء : ورد القسم على هذا النحو فى القرآن الكريم كثيرا ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق والليل وَمَا وَسَقَ } وقوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس الجوار الكنس . . } وقد جاء على غير هذه الصورة ، أى : من غير لا النافية ، ومن غير الفعل " أقسم " كما فى قوله - تعالى - : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ . . } { وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ . . } وتارة يكون القسم بأشياء مختلفة من خلقه - تعالى - كالصافات ، والطور ، والتين ، والقرآن . والفاء فى قوله - تعالى - : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } للتفريع على ما تقدم من أدلة البعث .
و { لاَ } عند أكثر المفسرين فى هذا التركيب وأمثاله : مزيدة للتأكيد ، كما فى قوله - تعالى - : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب . . } أى ليعلم أهل الكتاب . والمعنى هنا : فأقسم بمواقع النجوم . . .
قالوا : وزيادتها هنا جاءت جريا على سنن العرب من زيادتها قبل القسم ، كما قى قولهم : لا وأبيك ، كأنهم ينفون ما سوى المقسم عليه ، فيفيد الكلام التأكيد .
ويرى بعضهم أن { لاَ } هنا : للنفى فيكون المعنى : فلا أقسم بمواقع النجوم ، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أصلا فضلا عن هذا القسم العظيم .
قال الآلوسى ما ملخصه : { فَلاَ أُقْسِمُ . . . } لا مزيدة للتأكيد مثلها فى قوله - تعالى - : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } أو هى لام القسم - بعينها - أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف أى : فلأقسم .
وقيل إن لا هنا للنفى والرد على ما يقوله الكفار فى القرآن من أنه سحر ، كأنه قيل : فلا صحة لما يقولون فيه ، ثم استؤنف فقيل أقسم . .
وقال بعضهم إن " لا " كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الاستفتاح ، كما فى قوله لا وأليك . .
وقال أبو مسلم وجمع : إن الكلام على ظاهره المتبادر منه . والمعنة : لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم . أى : لا يحتاج إلى قسم أصلا ، فضلا عن هذا القسم العظيم .
والمواقع : جمع موقع ، وموقع الشىء ما يوجد فيه ، وما يسقط من مكان مرتفع .
فالمراد بمواقع النجوم : مساقطها التى تسقط فيها عند غروبها . . . وقيل : مواضعها من بروجها فى السماء ، ومنازلها منها . . وقيل : المراد مواقعها يوم القيامة عدما تنتشر وتتفرق . . وأقسم - سبحانه - بذلك ، للتنويه بشأنها ، ولما فيها من الدلالة على أن لهذا الكون خالقا قادرا حكيمان يسير كواكبه بدقة ونظام بديع ، لا اختلال معه ولا اضطراب . . إذ كل نجم من هذه النجوم المتناثرة فى الفضاء ، له مجاله الذى يغيب فيه ، وله مكانة الذى لا يصطدم فيه بغيره .
قال بعض العلماء : إن هذه النجوم والكواكب ، التى تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن ريته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلا بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحسن به الأجهزة ، دون أن تراه كلها تسبح فى الفلك الغامض ، ولا يوجد أى احتمال أن يقترب مجال مغناطيسى لنجم ، من مجال نجم آخر ، أو يصطدم بكوكب آخر .
ومن العلماء من يرى أن المراد بمواقع النجوم أوقات نزول القرآن نجما نجما ، وطائفة من الآيات تلى طائفة أخرى . .
قال ابن كثير : واختلفوا فى معنى قوله " بمواقع النجوم " فعن ابن عباس أنه يعنى نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر ، من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا بعد ذلك . . .
وعن قتادة : " مواقع النجوم " منازلها . . وقال مجاهد : مطالعها ومشارقها . . . وعن الحسن : انتشارها يوم القيامة . .
ويبدو لنا أن تفسير النجوم هنا ، بنجوم السماء هو الأرجح ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة .
قال جُوَيبر ، عن الضحاك : إن الله لا يقسم بشيء من خلقه ، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه .
وهذا القول ضعيف . والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله عز وجل ، يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته . ثم قال بعض المفسرين : " لا " هاهنا زائدة ، وتقديره : أقسم بمواقع النجوم . ورواه ابن جرير ، عن سعيد بن جُبَيْر . ويكون جوابه : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } .
وقال آخرون : ليست " لا " زائدة لا معنى لها ، بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسمًا به على منفي ، كقول عائشة رضي الله عنها : " لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط " وهكذا هاهنا تقدير الكلام : " لا أقسم بمواقع النجوم ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة ، بل هو قرآن كريم " .
وقال ابن جرير : وقال بعض أهل العربية : معنى قوله : { فَلا أُقْسِمُ } فليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف القسم بعد فقيل : أقسم .
واختلفوا في معنى قوله : { بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } ، فقال حكيم بن جُبَيْر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس يعني : نجوم القرآن ؛ فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مُفَرَّقًا{[28150]} في السنين بعد . ثم قرأ ابن عباس هذه الآية .
وقال الضحاك عن ابن عباس : نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السَّفَرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجَّمَته السَّفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة ، فهو قوله : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } نجوم القرآن .
وكذا قال عِكْرِمَة ، ومجاهد ، والسُّدِّيّ ، وأبو حَزْرَة .
وقال مجاهد أيضًا : { بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } في السماء ، ويقال : مطالعها ومشارقها . وكذا قال الحسن ، وقتادة ، وهو اختيار ابن جرير . وعن قتادة : مواقعها : منازلها . وعن الحسن أيضًا : أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة . وقال الضحاك : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } يعني بذلك : الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مُطِروا ، قالوا : مطرنا بنوء كذا وكذا .
تفريع على جملة { قل إن الأولين والأخرين لمجموعون } [ الواقعة : 49 ، 50 ] يُعرِب عن خطاب من الله تعالى موجه إلى المكذبين بالبعث القائلين : { أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً إنّا لمبعوثون } [ الواقعة : 47 ] ، انتقل به إلى التنويه بالقرآن لأنهم لما كذبوا بالبعث وكان إثباتُ البعث من أهم ما جاء به القرآن وكان مما أغراهُم بتكذيب القرآن اشتمالُه على إثبات البعث الذي عَدُّوه محالاً ، زيادة على تكذيبهم به في غير ذلك مما جاء به من إبطال شركهم وأكاذيبهم ، فلما قامت الحجة على خطئهم في تكذيبهم ، فقد تبين صدق ما أنبأهم به القرآن فثبت صدقه ولذلك تهيّأ المقام للتنويه بشأنه .
والفاء لتفريع القَسم على ما سبق من أدلة وقوع البعث فإن قوله : { قل إن الأولين والأخرين لمجموعون } [ الواقعة : 49 ، 50 ] ، إخبار بيوم البعث وإنذار لهم به وهم قد أنكروه ، ولأجل استحالته في نظرهم القاصر كذبوا القرآن وكذّبوا من جاء به ، ففرع على تحقيق وقوع البعث والإِنذار به تحقيق أن القرآن منزه عن النقائص وأنه تنزيل من الله وأن الذي جاء به مبلغ عن الله .
فتفريع القسم تفريع معنويُّ باعتبار المقسم عليه ، وهو أيضاً تفريع ذِكري باعتبار إنشاء القسم إن قالوا لكم : أقسم بمواقع النجوم .
وقد جاء تفريع القَسم على ما قبله بالفاء تفريعاً في مجرد الذكر في قول زهير :
فأقسمت بالبيت الذي طَافَ حوله *** رجال بَنَوْه من قريش وجُرهم
عقب أبيات النسِيب من معلَّقته ، وليس بين النسيب وبين ما تفرع عنه من القسم مناسبة وإنما أراد أن ما بعد الفاء هو المقصود من القصيد ، وإنما قدم له النسيب تنشيطاً للسامع وبذلك يظهر البَون في النظم بين الآية وبين بيت زهير .
و { لا أقسم } بمعنى : أقسم ، و ( لا ) مزيدة للتوكيد ، وأصلها نافية تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم .
وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم لأن الأمر واضح الثبوت ، ثم كثر هذا الاستعمال فصار مراداً تأكيد الخبر فساوى القسم بدليل قوله عقبه : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } ، وهذا الوجه الثاني هو الأنسب بما وقع من مثله في القرآن .
وعلى الوجهين فهو إدماج للتنويه بشأن ما لو كان مُقسِماً لأقسم به . وعلى الوجه الثاني يكون قوله : { وإنه لقسم } بمعنى : وإن المذكور لشيء عظيم يُقسم به المقسمون ، فإطلاق قسم عليه من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالخلق بمعنى المخلوق .
وعن سعيد بن جبير وبعض المفسرين : أنهم جعلوا ( لا ) حرفاً مستقلاً عن فعل { أقسم } واقعاً جواباً لكلام مقدر يدل عليه بعده من قوله : { إنه لقرآن كريم } ردّاً على أقوالهم في القرآن أنه شعر ، أو سحر ، أو أساطير الأولين ، أو قول كاهن ، وجعلوا قوله : { أقسم } استئنافاً .
وعليه بمعنى الكلام مع فاء التفريع أنه تفرع على ما سَطع من أدلة إمكان البعث ما يبطل قولكم في القرآن فهو ليس كما تزعمون بل هو قرآن كريم الخ .
و { مواقع النجوم } جمع موقع يجوز أن يكون مكان الوقوع ، أي محالُّ وقوعها من ثوابت وسيارة . والوقوع يطلق على السقوط ، أي الهوى ، فمواقع النجوم مواضع غُروبها فيكون في معنى قوله تعالى : { والنجم إذا هوى } [ النجم : 1 ] والقسم بذلك مما شمله قوله تعالى : { فلا أقسم برب المشارق والمغارب } [ المعارج : 40 ] . وجعل { مواقع النجوم } بهذا المعنى مقسماً به لأن تلك المساقط في حال سقوط النجوم عندها تذكِّر بالنظام البديع المجعول لسير الكواكب كلَّ ليلة لا يختل ولا يتخلف ، وتذكِّر بعظمة الكواكب وبتداولها خِلفة بعد أخرى ، وذلك أمر عظيم يحق القسم به الراجع إلى القسم بمُبدعه .
ويطلق الوقوع على الحلول في المكان ، يقال : وقعت الإِبل ، إذا بركت ، ووقعت الغنم في مرابضها ، ومنه جاء اسم الواقعة للحادثة كما تقدم ، فالمواقع : محالُّ وقوعها وخطوط سيرها فيكون قريباً من قوله : { والسماء ذات البروج } [ البروج : 1 ] .
والمواقع هي : أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء ، وكذلك بروجها ومنازلها .
وذكر ( مواقع النجوم ) على كلا المعنيين تنويه بها وتعظيم لأمرها لدلالة أحوالها على دقائق حكمة الله تعالى في نظام سيرها وبدائع قدرته على تسخيرها .
ويجوز أن يكون ( مواقع ) جمع موقع المصدر الميمي للوقوع .
ومن المفسرين من تأول النجوم أنها جمع نجم وهو القِسط الشيء من مال وغيره كما يقال : نجومُ الديات والغرامات وجعلوا النجوم ، أي الطوائف من الآيات التي تنزل من القرآن وهو عن ابن عباس وعكرمة فيؤول إلى القسم بالقرآن على حقيقته على نحو ما تقدم في قوله تعالى : { والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً } [ الزخرف : 2 ، 3 ] .