ولما ذكر الكاذب المكذب وجنايته وعقوبته ، ذكر الصادق المصدق وثوابه ، فقال : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } في قوله وعمله ، فدخل في ذلك الأنبياء ومن قام مقامهم ، ممن صدق فيما قاله عن خبر اللّه وأحكامه ، وفيما فعله من خصال الصدق .
{ وَصَدَّقَ بِهِ } أي : بالصدق لأنه قد يجيء الإنسان بالصدق ، ولكن قد لا يصدق به ، بسبب استكباره ، أو احتقاره لمن قاله وأتى به ، فلا بد في المدح من الصدق والتصديق ، فصدقه يدل على علمه وعدله ، وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره .
{ أُولَئِكَ } أي : الذين وفقوا للجمع بين الأمرين { هُمُ الْمُتَّقُونَ } فإن جميع خصال التقوى ترجع إلى الصدق بالحق والتصديق به .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة أهل الصدق والإِيمان فقال : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أولئك هُمُ المتقون } .
والمراد بالذى جاء بالصدق : رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بالذى صدق به : ما يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم ويشمل كل من آمن به واتبعه فيما جاء به ، كأبى بكر الصديق وغيره من الصحابة .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } الموصول عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس . . . والمؤمنون داخلون بدلالة السياق وحكم التبعية ، دخول الجند فى قولك : نزل الأمير موضع كذا . .
والجمع فى قوله - تعالى - : { أولئك هُمُ المتقون } باعتبار دخول الأتباع تباعا : ومراتب التقوى متفاوتة ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلاها . . .
هذا طرف من الخصومة فأما الطرف الآخر فهو الذي جاء بالصدق من عند الله . وصدق به فبلغه عن عقيدة واقتناع . ويشترك مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في هذه الصفة كل الرسل قبله . كما يشاركه فيها كل
من دعا إلى هذا الصدق وهو مقتنع به مؤمن بأنه الحق ، يشارك قلبه لسانه فيما يدعو إليه . . ( أولئك هم المتقون ) . .
ثم قال : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } قال مجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وابن{[25128]} زيد : { الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } هو الرسول . وقال السدي : هو جبريل عليه السلام ، { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } قال : من جاء بلا إله إلا الله ، { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقرأ الربيع بن أنس : " الذين جاءوا{[25129]} بالصدق " يعني : الأنبياء ، " وصدقوا به " يعني : الأتباع .
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } قال : أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة ، فيقولون : هذا ما أعطيتمونا ، فعملنا فيه بما أمرتمونا .
وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين ، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به ، والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير ، فإنه جاء بالصدق{[25130]} ، وصدق المرسلين ، وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } هو رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَصَدَّقَ بِهِ } المسلمون{[25131]} .
{ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } قال ابن عباس : اتقوا الشرك .
{ والذي جاء بالصدق وصدق به } اللام للجنس ليتناول الرسل والمؤمنين لقوله : { أولئك هم المتقون } وقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو ومن تبعه كما في قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون } وقيل الجائي هو الرسول والمصدق أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك يقتضي إضمار الذي هو غير جائز . وقرئ " وصدق به " بالتخفيف أي صدق به الناس فأداه إليهم كما نزل من غير تحريف ، أو صار صادقا بسببه لأنه معجز يدل على صدقه " وصدق به " على البناء للمفعول .
قوله تعالى : { والذي جاء بالصدق } معادل لقوله : { فمن أظلم ممن كذب } [ الزمر : 32 ] { فمن } [ الزمر : 32 ] هنالك للجميع والعموم ، فكذلك هاهنا هي للجنس أيضاً ، كأنه قال : والفريق الذي جاء بعضه بالصدق وصدق بعضه ، ويستقيم المعنى واللفظ على هذا الترتيب . وفي قراءة ابن مسعود : والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به . و «الصدق » هنا : القرآن وأنباؤه والشرع بجملته . وقالت فرقة : { الذي } يراد به الذين ، وحذفت النون لطول الكلام ، وهذا غير جيد ، وتركيب جاء عليه يرد ذلك ، وليس هذا كقول الفرزدق :
إن عميَّ اللذا *** قتلا الملوك . . . {[9894]}
ونظير الآية قول الشاعر [ أشهب بن رملية ] : [ الطويل ]
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم . . . هُم القوم كل القوم يا أم خالد{[9895]}
وقال ابن عباس : { والذي جاء بالصدق } هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي صدق به ، وقالت فرقة من المفسرين : «الذي جاء » هو جبريل ، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم . وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي وجماعة «الذي جاء » هو محمد عليه السلام ، والذي صدق هو أبو بكر . وقال أبو الأسود وجماعة منهم مجاهد : الذي صدق هو علي بن أبي طالب وقال قتادة وابن زيد : «الذي جاء » هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي صدق به هم المؤمنون . قال مجاهد هم أهل القرآن . وقالت فرقة : بالعموم الذي ذكرناه أولاً ، وهو أصوب الأقوال .
وقرأ أبو صالح{[9896]} ومحمد بن جحادة{[9897]} وعكرمة بن سليمان : «وصدَق به » بتخفيف الدال ، بمعنى استحق به اسم الصدق ، فعلى هذه القراءة يكون إسناد الأفعال كلها إلى محمد عليه السلام ، وكأن أمته في ضمن القول ، وهو الذي يحسن { أولئك هم المتقون } قال ابن عباس : اتقوا الشرك .