اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (33)

ولما ذكر ( الله ) من افترى على الله الكذب أو كذب بالحق ذكر مقابلهُ وهو الذي جاء بالصِّدْق وصدَّق به ، وقوله : { والذي جَآءَ بالصدق } لفظ مفرد ، ومعناه جَمْع{[47443]} لأنه أريد به الجنسُ ، وقيل : لأنه قصد به الجزاء وما كان كذلك كثر فيه وقوع : «الذي » موقع «الذين » ولذلك رُوعِيَ معناه فجمع في قوله : { أولئك هُمُ المتقون } كما روعي معنى «مَنْ » في قوله : { لِّلْكَافِرِينَ } فإن «الكافرين » ظاهر واقعٌ مَوْقع المضمر ؛ إذ الأصل مَثْوّى لَهُمْ{[47444]} . وقيل : بل الأصل : والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفاً كقوله : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] وهذا وَهَم ؛ إذٍ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال : والِّذِي جَاءُوا ، كقوله : { كالذي خاضوا }{[47445]} [ التوبة : 69 ] . ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنًّى كقوله :

4300- أَبَنِي كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا . . . قَتَلاَ الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلاَلاَ{[47446]}

ولَجَاء{[47447]} كقوله :

4301- [ و ] إنَّ الِّذِي حَانَتْ بِفلْجٍ دَمَاؤُهُمْ . . . هُمُ القَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ{[47448]}

وقرأ عبد الله : «والَّذِي جَاءُوا بالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ »{[47449]} . وقد تقدم تحقيق نظير هذه الآية في أوائل البقرة وغيرها : وقيل : «الذي » صفة لموصوف محذوف بمعنى{[47450]} الجمع تقديره والفريق أو الفوج ، ولذلك قال : { أولئك هُمُ المتقون } . وقيل : المراد بالذي واحد{[47451]} بعينه وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن لما كان المراد هو وأتباعه اعتبر ذلك فجمع فقال : { أولئك هُمُ } كقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ المؤمنون : 49 ] قاله الزمخشري{[47452]} ، وعبارته : هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرد به إياهُ وَمَنْ تَبِعَهُ كما أراد بموسى إياهُ وَقَوْمَهُ{[47453]} ، وناقشه أبو حيان في إيقاعِ الضمير المنفصل موقع المتصل ، قال : وإصلاحه أن يقول : وأراده به كما أرادهُ بموسى وقومه{[47454]} ، قال شهاب الدين : ولا مناقشة لأنه مع تقديم «به » و «بموسى » لغرض من الأغراض استحال اتِّصال الضمير ، وهذا كالبحث في قَوِلِهِ تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ }{[47455]} [ النساء : 131 ] وقوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] وهو أن بعض الناس زعم أنه يجوز الانفصال مع القدرة على الاتصال . وتقدم الجواب بقريب مما ذكرنا هَهنا ، وتقدم بيان حكمة التقديم ثمة . وقول الزمخشري إن الضمير في : «لعلهُمْ يَهْتَدُونَ » لموسى وقومه فيه نظر بل الظاهر خصوص الضمير بقومه دونه لأنهم هم المطلوب منهم الهداية ، وأما موسى- عليه ( الصلاة و ) السلام- فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية{[47456]} وقال الزمخشري أيضاً : ويجوز أن يريد : والفوج أو الفريقَ الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصحابته الذين صدقوا به{[47457]} . قال أبو حيان : وفيه توزيع للصّلة ، والفوجُ هو الموصول فهو كقولك : «جَاءَ الفَريقُ الَّذي شَرف وشرف » والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى{[47458]} .

وقرأ أبو صَالِح{[47459]} وعكرمةُ بنُ سُلَيْمَانَ{[47460]} ومحمد بن جَحَادَةَ{[47461]} مخففاً{[47462]} بمعنى صدق فيه ولم يغيره بل أداه من غير تحريف ، وقُرِئَ : «وَصُدِّقَ بِهِ » مشدِّداً مبنياً للمفعول{[47463]} .

فصل

المعنى فمن أظلم ممن كذب على الله فزعم أن له ولداً وشريكاً وكذَّب بالصِّدْق بالقرآن ، أو بمحمد إذْ جَاءَهُ ، ثم قال { والذي جَآءَ بالصدق } قال ابن عباس : والَّذِي جاء بالصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصَدَّق به محمد - صلى الله عليه وسلم - تلقّاه بالقبول ، وقال أبو العالية والكلبي : والذي جاء بالصدق : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق به : أبو بكر - رضي الله عنه- وقال قتادة : والذي جاء بالصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق به : هم المؤمنون لقوله : { أولائك هُمُ المؤمنون } [ الأنفال : 4 ] . وقال عطاء والذي جاء بالصدق : الأنبياء وصدق به : الأتباع وحينئذ يكون «الَّذي » بمعنى «الَّذِينَ » كقوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] . وقال الحسن : هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاءوا به في الآخرة{[47464]} ، { أولئك هُمُ المتقون . لهم ما يشاءون عند ربهم } . وهذا لا يفيد{[47465]} العبدية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الإخلاص ، كقوله : { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] .


[47443]:قال أبو زكريا الفراء: "الذي غير مؤقت فكأنه في مذهب جماع في المعنى" الفراء في معانيه 2/419 وانظر: التبيان 1111 والبيان 2/323.
[47444]:هذا معنى كلام أبي حيان في البحر 7/428 وباللفظ من الدر المصون 4/651.
[47445]:أورد هذا الرأي ورده أبو حيان والسمين كل في كتابه الأول في البحر 7/428، والثاني في الدر 4/651.
[47446]:بيت من الكامل للأخطل يفتخر بقومه كعادة أهل الجاهلية والأغلال جمع غل وهو القيد يجعل في عنق الأسير، وشاهده: عود الضمير في "قتلا" و "فككا" على المثنى المحذوف نونه تخفيفا لاستطالة الموصول بالصلة وهذا بخلاف الآية فإن الموصول فيها مفرد وانظر: البحر المحيط 7/428 والدر المصون 4/652 والكتاب 1/186 والمقتضب 4/146 وشرح المفصل 3/154، 155 والخزانة 6/6 وتصريح ابن هشام 1/132 والحجة للفارسي 1/93، 112 والهمع 1/49 والديوان 387.
[47447]:في ب: ونحا بدل "ولجاء".
[47448]:من الطويل للأشهب بن ثور التميمي ويعزى أيضا إلا حريث بن مخفض، و "فلج" موضع في طريق البصرة إلى مكة و "حانت دماؤهم" هلكوا ولم تؤخذ لهم دية أو قصاص. وشاهده كسابقه حيث عاد الضمير الجمعي في دماؤهم على "الذي" وهو مفرد لفظا لكنه حذف منه النون للخفة وأن الأصل "الذين". وانظر البيت في مجمع البيان للطبرسي 7/109 و133 والمقتضب 4/146 والخزانة 6/25، 34 والمحتسب 1/185 وشرح المفصل لابن يعيش 3/154، 155 والمجاز 2/190 والكتاب 1/187 والحجة لأبي علي 1/112 والدر 4/652.
[47449]:انظر: مختصر ابن خالويه 132 وفيه: "والذي جاء وصدقوا" بجمع في الثاني وإفراد في الأول.
[47450]:في ب: يعني. وقد ذكر هذا الرأي الزمخشري في الكشاف 3/398 والسمين في الدر 4/652.
[47451]:المرجعين السابقين أيضا.
[47452]:المرجع السابق.
[47453]:المرجع السابق.
[47454]:البحر المحيط له 7/428.
[47455]:وقد بحث هناك في تلك الآية انفصال الضمير وهو "إياكم" فلم يقل وصيناكم ولكنه أفرد وفصل الضمير لغرض بلاغي. فقوله "من قبلكم" و "إياكم" كقول الزمخشري: أراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه. فلا معنى لتعقب أبي حيان الزمخشري إذن. وهذا يشبه قول الله: {إياك نعبد} بالفصل فلم يقل: نعبدك وذلك لغرض بلاغي وهو التقديم وأن الله له العبادة لا لغيره. وانظر اللباب 2/411 ب.
[47456]:هذا اعتراض أبي حيان وتلميذه شهاب الدين السمين على جار الله الزمخشري. وانظر: البحر المحيط 7/428 والدر المصون 4/653.
[47457]:الكشاف 3/398.
[47458]:البحر المحيط 7/428.
[47459]:هو محمد بن عمير بن الربيع أبو صالح الهمذاني الكوفي القاضي مقرىء عارف بحرف حمزة. توفي في حدود سنة 310 هـ. انظر: غاية النهاية لابن الجزري 2/222.
[47460]:هو عكرمة بن سليمان بن كثير بن عامر أبو القاسم المكي كان إمام أهل مكة في القراءة بعد شبل وأصحابه بقي إلى قبيل المائتين. انظر: طبقات القراء 1/515.
[47461]:الأودي الكوفي عن أنس وأبي حازم. وعنه ابن عون وشريك وآخرون مات سنة 131 هـ. وانظر الخلاصة 320.
[47462]:وانظر هذه القراءة في الكشاف 3/398 والدر المصون 4/653.
[47463]:السابقين. وانظر أيضا المحتسب 2/237 وابن خالويه 132 وهي من الشواذ.
[47464]:وانظر كل ما سبق من أقوال في: تفسيري الإمامين البغوي والخازن معالم التنزيل ولباب التأويل 6/76.
[47465]:قاله الإمام الرازي 26/280.