مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (33)

قوله تعالى : { والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ، لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ، ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ، أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ، ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام }

اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكاذبين والمكذبين للصادقين ذكر عقيبه وعد الصادقين ووعد المصدقين ، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { والذي جاء بالصدق وصدق به } تقديره : والذي جاء بالصدق والذي صدق به ، وفيه قولان الأول : أن المراد شخص واحد فالذي جاء بالصدق محمد ، والذي صدق به هو أبو بكر ، وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وجماعة من المفسرين رضي الله عنهم والثاني : أن المراد منه كل من جاء بالصدق ، فالذي جاء بالصدق الأنبياء ، والذي صدق به الأتباع ، واحتج القائلون بهذا القول بأن الذي جاء بالصدق جماعة وإلا لم يجز أن يقال : { أولئك هم المتقون } .

المسألة الثانية : أن الرسالة لا تتم إلا بأركان أربعة : المرسل والمرسل والرسالة والمرسل إليه ، والمقصود من الإرسال إقدام المرسل إليه على القبول والتصديق ، فأول شخص أتى بالتصديق هو الذي يتم به الإرسال ، وسمعت بعض القاصين من الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " دعوا أبا بكر فإنه من تتمة النبوة " . واعلم أنا سواء قلنا المراد بالذي صدق به شخص معين ، أو قلنا المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة ، فإن أبا بكر داخل فيه .

أما على التقدير الأول : فدخول أبي بكر فيه ظاهر ، وذلك لأن هذا يتناول أسبق الناس إلى التصديق ، وأجمعوا على أن الأسبق الأفضل إما أبو بكر وإما علي ، وحمل هذا اللفظ على أبي بكر أولى ، لأن عليا عليه السلام كان وقت البعثة صغيرا ، فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت ، ومعلوم أن إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوة وشوكة . أما أبو بكر فإنه كان رجلا كبيرا في السن كبيرا في المنصب ، فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوة وشوكة في الإسلام ، فكان حمل هذا اللفظ إلى أبي بكر أولى .

وأما على التقدير الثاني : فهو أن يكون المراد كل من كان موصوفا بهذه الصفة ، وعلى هذا التقدير يكون أبو بكر داخلا فيه .

المسألة الثالثة : قال صاحب «الكشاف » قرئ وصدق بالتخفيف أي صدق به الناس ، ولم يكذبهم يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف ، وقيل صار صادقا به أي بسببه ، لأن القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح فيصير المدعي للرسالة صادقا بسبب تلك المعجزة وقرئ وصدق .

واعلم أنه تعالى أثبت للذي جاء بالصدق وصدق به أحكاما كثيرة .

فالحكم الأول : قوله : { أولئك هم المتقون } وتقريره أن التوحيد والشرك ضدان ، وكلما كان أحد الضدين أشرف وأكمل كان الضد الثاني أخس وأرذل ، ولما كان التوحيد أشرف الأسماء كان الشرك أخس الأشياء ، والآتي بأحد الضدين يكون تاركا للضد الثاني ، فالآتي بالتوحيد الذي هو أفضل الأشياء يكون تاركا للشرك الذي هو أخس الأشياء وأرذلها ، فلهذا المعنى وصف المصدقين بكونهم متقين .