نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (33)

ولما ذكر سبحانه الظالمين بالكذب ذكر أضدادهم الذين يخاصمونهم عند ربهم وهم المحسنون بالصدق فقال : { والذي } أي الفريق الذي { جاء بالصدق } أي الخبر المطابق للواقع ، فصدق على الله ، وتعريفه يدل على كماله ، فيشير إلى أن الإتيان به ديدنه لا يتعمد كذباً { وصدق به } أي بكل صدق سمعه وقام عليه الدليل ، وليس هو بجموده عدو ما لم يعلم ، فهو يكذب بكل ما لم يسمع ، فمن أعدل منه لكونه صدق على الله وصدق بالصدق إذ جاءه واستمر عليه ، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة الموصوف بهذا الوصف من الصدق ، وهذا الفريق هو الرسل وأتباعهم ، ولذلك حصر التقوى فيهم ، فقال مشيراً بالجمع إلى عظمتهم وإن كانوا قليلاً : { أولئك } أي العالو الترتبة { هم } أي خاصة { المتقون * } الذين جانبوا الظلم ، فليس لجهنم عليهم سبيل ، ولا لهم فيها منزل ولا مقيل ، بل الجنة منزلهم ، أليس في الجنة منزل للمتقين ؟ فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً المثوى في جهنم دليلاً على حذف ضده ثانياً ، والاتقاء ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً ، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم من الكفر وسوء الجزاء . وأسرّ ما للمسلم من قصر التقوى عليه ، وذكر أحب جزائه إليه ، والإشارة إلى عراقته في الإحسان ، وفي الآيات احتباك آخر وهو أنه ذكر الكذب والتكذيب أولاً دليلاً على الصدق والتصديق ثانياً ، والاتقاء وجزاءه وما يتبعه ثانياً دليلاً على ضده أولاً ، وسره أنه ذكر في شق المسيء أنكأ ما يكون من الكذب والتكذيب في أقبح مواضعه ، ولا سيما عند العرب ، وأسر ما يكون في شق المحسن من استقامة الطبع وحسن الجزاء .