البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦٓ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (33)

{ والذي جاء بالصدق } معادله لقوله : { فمن أظلم } .

{ وصدّق به } مقابل لقوله : { وكذب بالصدق } .

والذي جنس ، كأنه قال : والفريق الذي جاء بالصدق ، ويدل عليه : { أولئك هم المتقون } ، فجمع .

كما أن المراد بقوله : { فمن أظلم } ، يراد به جمع ، ولذلك قال { مثوى للكافرين } .

وفي قراءة عبد الله : والذي جاؤا بالصدق وصدقوا به .

وقيل : أراد والذين ، فحذفت منه النون ، وهذا ليس بصحيح ، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون ، لكان الضمير مجموعاً كقوله :

وإن الذي حانت بفلح دماؤهم . . .

ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى ؟ كقوله :

أبني كليب أن عميّ اللذا *** قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وقيل : الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال عليّ ، وأبو العالية ، والكلبي ، وجماعة : الذي جاء بالصدق هو الرسول ، والذي صدق به هو أبو بكر .

وقال أبو الأسود ، ومجاهد ، وجماعة : الذي صدق به وهو عليّ بن أبي طالب .

وقال الزمخشري : والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

جاء بالصدق وآمن به ، وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله : { ولقد آيتنا موسى الكتاب لعلهم يهتدون } ولذلك قال : { أولئك هم المتقون } ، إلا أن هذا في الصفة ، وذلك في الاسم .

ويجوز أن يريد : والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به ، وهو الرسول الذي جاء بالصدق ، وصحابته الذين صدقوا به . انتهى .

وقوله : وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه .

استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه ، وإنما هو متصل ، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه ، كما أراده بموسى وقومه : أي لعل قومه يهتدون ، إذ موسى عليه السلام مهتدٍ .

فالمترجى هداية قومه ، لا هدايته ، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقوداً لا موجوداً .

وقوله : ويجوز إلخ ، فيه توزيع الصلة ، والفوج هو الموصول ، فهو كقوله : جاء الفريق الذي شرف وشرّف .

والأظهر عدم التوزيع ، بل المعطوف على الصلة ، صلة لمن له الصلة الأولى .

وقرأ الجمهور : { وصدق } مشدداً ؛ وأبو صالح ، وعكرمة بن سليمان ، ومحمد بن جحازة : مخففاً .

قال أبو صالح : وعمل به .

وقيل : استحق به اسم الصدق .

قال ابن عطية : فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن أمته في ضمن القول ، وهو الذي يحسن { أولئك هم المتقون } . انتهى .

وقال الزمخشري : أي صدق به الناس ، ولم يكذبهم به ، يعني : أداه إليهم ، كما نزل عليه من غير تحريف .

وقيل : معناه : وصار صادقاً به ، أي بسببه ، لأن القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه ، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق ، فيصير لذلك صادقاً بالمعجزة .

وقرىء : وصدق به .

انتهى ، يعني : مبنياً للمفعول مشدداً .

وقال صاحب اللوامح : جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله ، أي في قوله ، أو في مجيئه ، فاجتمع له الصفتان من الصدق : من صدقه من عند الله ، وصدقه بنفسه ، وذلك مبالغة في المدح . انتهى .