95- يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وقد نويتم الحج والعمرة وتقومون بأعمالهما ، ومن قتله منكم قاصداً ، فعليه أن يؤدي نظير الصيد الذي قتله ، يخرجه من الإبل والبقر والغنم . ويعرف النظير بتقدير رجلين عادلين منكم يحكمان به ، ويهديه إلى الفقراء عند الكعبة ، أو يدفع بدله إليهم ، أو يخرج بقيمة المثل طعاماً للفقراء ، لكل فقير ما يكفيه يومه ، ليكون ذلك مسقطاً لذنب تعديه على الصيد ، أو يصوم أياماً بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقون الطعام لو أخرجه . وقد شرع ذلك ليحس المعتدى بنتائج جرمه وسوء عاقبته . عفا الله عما سبق لكم من المخالفة قبل تحريمها ، ومن رجع إلى التعدي بعد العلم بتحريمه ، فإن الله يعاقبه بما ارتكب ، وهو غالب لا يُغْلَب ، شديد العقاب لمن يصر على الذنب .
ثم حرج بالنهي عن قتل الصيد في حال الإحرام ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي : محرمون في الحج والعمرة ، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل ، وعن المشاركة في القتل ، والدلالة عليه ، والإعانة على قتله ، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن أكل ما قُتل أو صيد لأجله ، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم ، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام .
وقوله : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } أي : قتل صيدا عمدا { ف } عليه { جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } أي : الإبل ، أو البقر ، أو الغنم ، فينظر ما يشبه شيئا من ذلك ، فيجب عليه مثله ، يذبحه ويتصدق به . والاعتبار بالمماثلة أن { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : عدلان يعرفان الحكم ، ووجه الشبه ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ، حيث قضوا بالحمامة شاة ، وفي النعامة بدنة ، وفي بقر الوحش -على اختلاف أنواعه- بقرة ، وهكذا كل ما يشبه شيئا من النعم ، ففيه مثله ، فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته ، كما هو القاعدة في المتلفات ، وذلك الهدي لا بد أن يكون { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : يذبح في الحرم .
{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } أي : كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين ، أي : يجعل مقابلة المثل من النعم ، طعام يطعم المساكين .
قال كثير من العلماء : يقوم الجزاء ، فيشترى بقيمته طعام ، فيطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاع من غيره . { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ } الطعام { صِيَامًا } أي : يصوم عن إطعام كل مسكين يوما . { لِيَذُوقَ } بإيجاب الجزاء المذكور عليه { وَبَالَ أَمْرِهِ } { وَمَنْ عَادَ } بعد ذلك { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد ، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطيء ، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة ، فإنه يضمنها على أي حال كان ، إذا كان إتلافه بغير حق ، لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام ، وهذا للمتعمد . وأما المخطئ فليس عليه عقوبة ، إنما عليه الجزاء ، [ هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله . وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية . والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه لله ، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم ]{[278]}
ثم نهى - سبحانه - المؤمنين نهيا صريحا عن قتل الصيد وهم حرم وبين ما يجب على القاتل وكرر تحذيره وتهديده لمن يتعدى حدوده فقال - تعالى :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }
قال القرطبي : قوله - تعالى - { ياأيها الذين } خطاب عام لكل مسلم ، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد } . . الآية وروى أن أبا اليسر - واسمه عمرو بن مالك الأنصاري - كان محرماً عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت هذه الآية .
والمراد بالصيد هنا المصيد ، لأنه هو الذي يقع عليه القتل .
وقوله { حرم } جمع حرام . وهذا اللفظ المحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما وإن كان في الحل ، كما يتناول من كان في الحرم وإن كان حلالا .
قال ابن جرير : والحرم جمع حرام ، يقال : هذا رجل حرام ، وهذه أمرأة حرام ، فإذا قيل محرم ، قيل للمرأة محرمة والإِحرام : هو الدخول فيه . يقال : أحرم القوم : إذا دخلوا في الشهر الحرام أو في الحرم ، فتأويل الكلام : " لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون " .
والصيد المهي عن قتله هنا : صيد البر ، لأن صيد البحر قد أحله الله بعد ذلك بقوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ } الآية .
والنهى كما يتناول قتل صيد البر بإزهاق روحه بأي طريق من طرق الإِزهاق ، يتناول - أيضاً - قتله بطريق التسبب كالإِشارة إليه مثلا . ويتناول كذلك حظر الصيد نفسه ، لقوله - تعالى - في مطلع هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ولقوله - تعالى - بعد هذه الآية التي معنا : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } فالنهي في قوله - تعالى - { لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يتناول القتل عن طريق المباشرة أو التسبب كما يتناول أي عمل يؤدي إلى صيد الحيوان .
وإنما كان النهي في الآية منصبا على القتل ، لأنه هو المقصود الأعظم من وراء مباشرة عملية الصيد إذ الصائد يريد قتل المصيد لكي يأكله في الغالب .
هذا ، وقد اختلف الفقهاء في المصيد الذي يحرم صيده على المحرم .
فذهب بعضهم إلى أن المراد به ما يصاد مطلقاً سواء أكان مأكولا أم غير مأكول ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء النص باستثنائه ، وذلك لأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول .
وبهذا الرأي قال الأحناف ومن وافقهم من الفقهاء .
ويرى الشافعية أن المراد به المأكول فقط ، لأن الصيد إنما يطلق على ما يحل أكله فحسب .
وقد انبنى على هذا الخلاف أن من قتل وهو محرم سبعاً ، فالأحناف يرون أنه يجب عليه الجزاء الذي فصلته الآية . والشافعية يرون أنه لا يجب عليه ذلك .
قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - { لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
هذا تحريم منه - تعالى - لقتل الصيد في حال الإِحرام ، ونهي عن تعاطيه فيه . وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول ولو ما تولد منه ومن غيره ، فأما غير المأكول من حيوانات البر ، فعند الشافعي يجوز قتلها ، والجمهور على تحريم قتلها أيضاً ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأت والعقرب والفأرة والكلب والعقور " - وفي وراية الحية بدل العقرب - ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور : " الذئب والسبع والنمر والفهد ، لأنها أشد ضررا منه " .
وقوله : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } بيان لما يجب على المحرم في حال قتله للصيد .
قال الآلوسي ما ملخصه : والمعنى { وَمَن قَتَلَهُ } كائنا { منكم } حال كونه { متعمدا } أي : ذاكرا لإِحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله ، ومثله من قتله خطأ .
والفاء في قوله { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } جزائية إذا اعتبرنا { من } شرطية وهو الظاهر ، وإذا اعتبرناها موصولة تكون زائدة لشبه المبتدأ بالشرط .
وقد خرجت هذه القراءة بتخريجات منها : أن تعتبر الإِضافة بيانية أي : جزاء هو مثل ما قتل .
وظاهر الآية يفيد ترتيب الجزاء على القتل العمد ، إلا أنهم اختلفوا هنا على أقوال ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه :
قوله - تعالى - { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } ذكر - سبحانه - المتعمد ولم يذكر المخخطئ ولا الناسي ، والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإِحرام . والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا . والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه . واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال :
الأول : ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال : إنما التكفير في العمد ، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا .
الثاني : أن قوله { متعمدا } خرج على الغالب ، فألحق به النادر كأصول الشريعة .
الثالث : أنه لا شيء على المخطئ والناسي به قال الطبري وأحمد - في إحدى روايته - وطاووس وداود وأبو ثور .
الرابع : أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم .
قال الزهري : وجب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسنة . فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضيع فقال : " هي صيد " وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، ولم يقل عمدا ولا خطأ .
الخامس : أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإِحرامه - وهو قول مجاهد - ، لقوله - تعالى - بعد ذلك { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } قال : ولو كان ذاكرا لإِحرامه لوجبت عليه العقوبة الأول مرة .
قال : فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإِحرامه .
ويبدو لنا أن القول الرابع الذي قال به الأئمة أبو حنيفة والشافعي ، ومالك أقرب إلى الصواب ، لأن تخصيص العمد بالذكر في الآية ، لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود ، لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك دون الخطأ ، ولأن جزاء الخطأ معروف من الأدلة التي قررت التسوية في ضمان المتلفات ، إذ من المعروف أن من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم فعليه جزاؤه ، فهذا حكم عام في جميع المتلفات وما دام الأمر كذلك كان الجزاء ثابتا على المحرم متى قتل الصيد سواء أكان قتله له عمدا أم خطأ .
وقد اختلف العلماء - أيضا في المراد بالمثل في قوله - تعالى - { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } .
فجمهور الفقهاء يرون أن المراد بالمثل النظير . أي أن الجزاء يكون بالمماثلة بين الصيد المتقول وبين حيوان يقاربه في الحجم والمنظر من النعم وهي الإِبل والبقر والغنم .
ومن حججهم أن الله أوجب مثل المصيد المقتول مقيد بكونه من النعم ، فلابد أن يكون الجزاء مثلا من النعم ، وعليه فلا تصح القيمة لأنها ليست من النعم .
قال ابن كثير : وفي قوله - تعالى - : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإِنسي ، خلافا لأبي حنيفة حيث أوجب القيمة سواء أكان الصيد المقتول مثليا أو غير مثلى . قال : وهو خير إن شاء تصدق بثمنه . وإن شاء اشترى به هديا .
والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع ، فإنهم حكموا في النعامة ببدنه ، وفي بقرة الوحش ببقرة ، وفي الغزال بعنز . وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمن يحمل إلى مكة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك طريق معرفة الجزاء ، ومآله ، وأنواعه ، فقال - تعالى - { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } .
والضمير في قوله { به } يعود على الجزاء المماثل للمصيد المقتول .
وقوله : { هديا } حال من جزاء ، أو منصوب على المصدرية . أي يهديه هدياً .
والهدى : اسم لما يذبح في الحج لاهدائه إلى فقراء مكة .
وقوله : { بَالِغَ الكعبة } صفة لقوله { هدياً } لأنه إضافته لفظية :
وقوله : { أو كفارة } معطوف على جزاء . وأو للتخيير ، وكذلك في قوله { أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } .
والعدل - بالفتح - ما عادل الشيء من غير جنسه . وأما بالكسر فما عادله من جنسه . وقيل هما سيان ومعناهما المثل مطلقا .
والمعنى الإِجمالي للآية الكريمة : يأيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، لا تقتلو الصيد وأنتم محرمون ، ومن قتل منكم الصيد وهو بهذه الصفة فعلية جزاء من النعم مماثل الصيد المقتول ومقارب له في الخلقة والمنظر ، أو في القيمة ، وهذا الجزاء المماثل للصيد المقتول يحكم به رجلان منكم تتوافر فيهما العدالة والخبرة حتى يكون حكمهما أقرب إلى الحق والصواب ، ويكون هذا الجزاء الواجب على قاتل الصيد { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } أي : يصل إلى الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه ، أو يكون على قاتل الصيد { كَفَّارَةٌ } هي { طَعَامُ مَسَاكِينَ } بأن يطعمهم من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة هذا الجزاء المماثل للصيد المقتول بحيث يعطي لكل مسكين نصف صاغ من بر أو صاعا من غيره ، أو يكون عليه ما يعادل هذا الطعام صياما ، بأن يصوم عن طعام كل مسكين يوما ، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما كاملا .
وإذا لم يجد للصيد المقتول مماثلا كالعصفور وما يشبهه فعليه قيمته ، يشتري بها طعاما لكل مسكين مد ، أو يصوم عن كل مد يوما .
وبهذا نرى أن المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاء من النعم مماثل للصيد المقتول في الخلقة والمنظر أو عليه ما يساوي قيمة هذا الجزاء طعاما ، أو عليه ما يعادل هذا الطعام صياما . وهذا ما يقول به جمهور الفقهاء أما أبو حنيفة فيرى - كما سبق أن أشرنا - أن المماثلة إنما تعتبر ابتداء بحسب القيمة ، فيقوم الصيد المقتول من حيث هو ، فإن بلغت قيمته هدى يخير الجاني بين أن يشتري بها هديا يهدي إلى الكعبة ويذبح في الحرم ويتصدق بلحمه على الفقراء ، وبين أن يشتري بها طعاماً للمساكين . وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما .
والمراد من الكعبة هنا الحرم ؛ وإن خصت بالذكر تعظيما لها .
قال بعض العلماء : ولا شك أن التخيير هنا ليس على حقيقته ، إنما هو ترتيب مراتب على حسب القدرة على كل رتبة ، فالأصل بلا ريب شراء هدى وذبحه في الحرام ، فإن تعذر ذلك كان الطعام ، فإن تعذر كان الصيام .
هذا هو الظاهر عند الحنفية ، وروى عنهم أنهم قالوا بالتخيير إذا عرفت القيمة بين الذبح عند الكعبة وبين إطعام المساكين ، وبين الصوم .
وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح وذلك هو رأى أحمد وزفر .
والمذاهب الأخرى تتلقى في الجملة مع الذهب الحنفي بيد أنها تعتبر المماثلة في الأوصاف .
وعندي أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقاً ، وأدق في تعرف المثل وقد اضطروا إليه عند استبدال الطعام بالذبح ، إذ لا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة .
هذا ، وقوله - تعالى - { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } تعليل لأيجاب الجزاء السابق على المحرم القاتل للصيد عن تعمد .
وقوله { ليذوق } من الذوق وهو إدراك المطعومات باللسان لمعرفة ما فيها من حلاوة أو مرارة أو غير ذلك .
والمراد به هنا : إدراك ألم العذاب على سبيل الاستعارة .
والوبال في الأصل : الثقل والشدة والوخامة . ومنه طعام وبيل إذا كان ثقيلا على المعدة .
ومرعى وبيل وهو الذي يتأذى به بعد أكله .
والمراد به هنا : سوء عاقبة فعله .
والمعنى : شرعنا ما شعرنا من جزاء على المحرم في حالة قتله للصيد ، ليدرك سوء عاقبة قتله وفعله السيء ، وليعلم أن مخالفته لأمر الله تؤدي إلى الخسارة في الدنيا والآخرة .
قال الإِمام الرازي : وإنما سمي الله - تعالى - ذلك وبالا ، لأنه خيره بيبن ثلاثة أشياء : اثنان منها توجب تنقيص المال - وهو ثقيل على الطبع - وهما : الجزاء بالمثل والإِطعام . والثالث : يوجب إيلام البدن وهو الصوم ، وذلك أيضا ثقيل على الطبع .
والمعنى أنه - تعالى - أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإِحرام .
وقوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله بعباده ولطفه بهم ، لأنه - سبحانه - لم يؤاخذهم على قتلهم للصيد وهم محرمون قبل تحريمها والنهي عنها .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بتهديد شديد لمن تتكرر منه المخالفة لأوامر الله ونواهيه فقال : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
أي : ومن عاد وهو محرم إلى قتل الصيد بعد ورود النهي عن ذلك فإن الله - تعالى - ينتقم منه ويعاقبه عقابا شديدا فهو - سبحانه - العزيز الذي لا يغالب ولا يقاوم ، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه بأي وسيلة من الوسائل .
هذا وجمهور العلماء على أن المحرم يتكرر الجزاء عليه في قتل الصيد بتكرر وأن عقوبة الآخرة - وهي انتقام الله من الجاني - لا تمنع وجوب الجزاء عليه في الدنيا .
قال ابن كثير . ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد .
وقال علي بن طلحة عن ابن عباس قال : من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم يحكم عليه فيه كلما قتله . فإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة . فإن عاد يقال له ينتقم الله منك .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين من التعرض للصيد في حالة إحرامهم ، وبينت الجزاء المترتب على من يفعل ذلك ، وهددت من يستهين بحدود الله بالعذاب الشديد .
بعد هذا يجيء تفصيل كفارة المخالفة مبدوءا بالنهي مختوما بالتهديد مرة أخرى :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره . عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) . .
إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمدا . فأما إذا قتله خطأ فلا إثم عليه ولا كفارة . . فإذا كان القتل عمدا فكفارته أن يذبح بهيمة من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله . فالغزالة مثلا تجزى ء فيها نعجة أو عنزة . والأيل تجزى ء فيه بقرة . والنعامة والزرافة وما إليها تجزى ء فيها بدنة . . والأرنب والقط وأمثالها يجزى ء فيه أرنب ، وما لا مقابل له من البهيمة يجزى ء عنه ما يوازي قيمته . .
ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل . فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هديا حتى تبلغ الكعبة ، تذبح هناك وتطعم للمساكين . أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين ؛ بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد [ خلاف فقهي ] . فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة . مقدرا ثمن الصيد أو البهيمة ، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن ؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين . . أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي . ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال .
وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة :
ففي الكفارة معنى العقوبة ، لأن الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديدا كبيرا : لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف :
( عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) .
فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد ، الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان ، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام !
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ، ونهي عن تعاطيه فيه . وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره ، فأما غير المأكول من حيوانات البر ، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها . والجمهور على تحريم قتلها أيضًا ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة أم المؤمنين ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فَواسِق يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم{[10374]} الغُراب والحدأة ، والعَقْرب ، والفأرة ، والكلب العَقُور " . {[10375]}
وقال مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جُنَاح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور " . أخرجاه . {[10376]}
ورواه أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مثله . قال أيوب ، قلت لنافع : فالحية ؟ قال : الحية لا شك فيها ، ولا يختلف في قتلها . {[10377]}
ومن العلماء - كمالك وأحمد - من ألحق بالكلب العقور الذئب ، والسَّبْعُ ، والنِّمْر ، والفَهْد ؛ لأنها أشد ضررًا منه فالله أعلم . وقال سفيان بن عيينة وزيد بن أسلم : الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلّها . واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة{[10378]} بن أبي لهب قال : " اللهم سَلِّط عليه{[10379]} كلبك بالشام " {[10380]} فأكله السبع بالزرقاء ، قالوا : فإن قتل ما عداهن فَدَاها كالضبع والثعلب وهر البر ونحو ذلك .
قال مالك : وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها ، وصغار الملحق بها من السباع العوادي .
وقال الشافعي [ رحمه الله ]{[10381]} يجوز للمحرم قتل كل ما لا يؤكل لحمه ، ولا فرق بين صغاره وكباره . وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل .
وقال أبو حنيفة : يقتل المحرم الكلب العقور والذئب ؛ لأنه كلب بري ، فإن قتل غيرهما فَدَاه ، إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه . وهذا قول الأوزاعي ، والحسن بن صالح بن حيي .
وقال زُفَر بن الهذيل : يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه .
وقال بعض الناس : المراد بالغراب هاهنا الأبقع{[10382]} وهو الذي في بطنه وظهره بياض ، دون الأدرع وهو الأسود ، والأعصم وهو الأبيض ؛ لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفَلاس ، عن يحيى القَطَّان ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خمس يقتلهن المحرم : الحية ، والفأرة ، والحدأة ، والغراب الأبقع ، والكلب العقور " .
والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك ؛ لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه .
وقال مالك ، رحمه الله : لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه .
وقال مجاهد بن جَبْر وطائفة : لا يقتله بل يرميه . ويروى مثله عن علي .
وقد روى هُشَيْم : حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه سئل عما يقتل المحرم ، فقال : " الحية ، والعقرب ، والفُوَيْسِقَة ، ويرمي الغراب ولا يقتله ، والكلب العقور ، والحدأة ، والسبع العادي " .
رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ، والترمذي عن أحمد بن منيع ، كلاهما عن هشيم . وابن ماجه ، عن أبي كريم{[10383]} عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف ، به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن . {[10384]}
وقوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، عن أيوب قال : نبئت عن طاوس قال : لا يحكم{[10385]} على من أصاب صيدًا خطأ ، إنما يحكم{[10386]} على من أصابه متعمدًا .
وهذا مذهب غريب عن طاوس ، وهو متمسك بظاهر الآية .
وقال مجاهد بن جبير : المراد بالمتعمد هنا{[10387]} القاصد إلى قتل الصيد ، الناسي لإحرامه . فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه ، فذاك أمره أعظم من أن يكفر ، وقد بطل إحرامه .
رواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نَجِيح وليث بن أبي سليم وغيرهما ، عنه . وهو قول غريب أيضًا . والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه . قال الزهري : دل{[10388]} الكتاب على العامد ، وجرت السنة على الناسي ، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله : { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ ، كما دل الكتاب عليه في العَمْد ، وأيضًا فإن قتل الصيد إتلاف ، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان ، لكن المتعمّد مأثوم والمخطئ غير مَلُوم .
وقوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأها : " فجزاؤه مثل ما قتل من النعم " .
وفي قوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك ، والشافعي ، وأحمد ، والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم ، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي ، خلافًا لأبي حنيفة ، رحمه الله ، حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليًا أو غير مثلي ، قال : وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه ، وإن شاء اشترى به هديًا . والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع ، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة ، وفي بقرة الوحش ببقرة ، وفي الغزال بعنز وذكْرُ قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب " الأحكام " ، وأما إذا لم يكن الصيد مثليًا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه ، يحمل إلى مكة . رواه البيهقي . وقوله : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل ، أو بالقيمة في غير المثل ، عدلان من المسلمين ، واختلف العلماء في القاتل : هل يجوز أن يكون أحد الحكمين ؟ على قولين :
أحدهما : " لا ؛ لأنه قد يُتَّهم في حكمه على نفسه ، وهذا مذهب مالك .
والثاني : نعم ؛ لعموم الآية . وهو مذهب الشافعي ، وأحمد .
واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكومًا عليه في صورة واحدة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا جعفر - هو ابن بُرْقَان - عن ميمون بن مِهْران ؛ أن أعرابيًا أتى أبا بكر قال : قتلت صيدًا وأنا محرم ، فما ترى عليَّ من الجزاء ؟ فقال أبو بكر ، رضي الله عنه ، لأبي بن كعب وهو جالس عنده : ما ترى فيما{[10389]} قال ؟ فقال الأعرابي : أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك ، فإذا أنت تسأل غيرك ؟ فقال أبو بكر : وما تنكر ؟ يقول الله تعالى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به .
وهذا إسناد جيد ، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق ، ومثله يحتمل هاهنا . فبين له الصديق الحكم برفق وتُؤدَة ، لما رآه أعرابيا جاهلا وإنما دواء الجهل التعليم ، فأما إذا كان المعترض منسوبًا إلى العلم ، فقد قال ابن جرير :
حدثنا هَنَّاد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا وَكِيع بن الجراح ، عن المسعودي ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قَبِيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجًا ، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث ، قال : فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي - أو : برح - فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خُشَّاءه فركب رَدْعه ميتًا ، قال : فَعَظَّمْنا عليه ، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه ، قال : فقص عليه القصة قال : وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْب فضة - يعني عبد الرحمن بن عوف - فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه قال : ثم أقبل على الرجل فقال : أعمدًا قتلته أم خطأ ؟ قال الرجل : لقد تعمدت رميه ، وما أردت قتله . فقال عمر : ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها . قال : فقمنا من عنده ، فقلت لصاحبي : أيها الرجل ، عَظّم شعائر الله ، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه : اعمد إلى ناقتك فانحرها ، ففعل{[10390]} ذاك . قال قبيصة : ولا أذكر الآية من سورة المائدة : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : فبلغ عمر مقالتي ، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدّرّة . قال : فعلا صاحبي ضربًا بالدرة ، وجعل يقول : أقتلت في الحرم وسفَّهت الحكم ؟ قال : ثم أقبل عليَّ فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا أحل لك اليوم شيئا يحْرُم عليك مني ، قال : يا قبيصة بن جابر ، إني أراك شابّ السن ، فسيح الصدر ، بيّن اللسان ، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ ، فيفسد الخلقُ السيئ الأخلاقَ الحسنة ، فإياك وعثرات الشباب .
وقد روى هُشَيْم هذه القصة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة ، بنحوه . ورواها أيضًا عن حُصَيْن ، عن الشعبي ، عن قبيصة ، بنحوه . وذكرها مرسلة عن عُمَر : بن بكر بن عبد الله المزني ، ومحمد بن سِيرين .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي وائل ، أخبرني أبو جرير البَجَلِيّ قال : أصبت ظَبْيًا وأنا محرم ، فذكرت ذلك لعمر ، فقال : ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك . فأتيت عبد الرحمن وسعدًا ، فحكما عليّ بتَيْس أعفر .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا ابن عُيَيْنة ، عن مُخارق ، عن طارق قال : أوطأ أربد ظبيًا فقتلته{[10391]} وهو محرم فأتى عمر ؛ ليحكم عليه ، فقال له عمر : احكم معي ، فحكما فيه جَدْيًا ، قد جمع الماء والشجر . ثم قال عمر : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين ، كما قاله الشافعي وأحمد ، رحمهما الله .
واختلفوا : هل تستأنف{[10392]} الحكومة في كل ما يصيبه المحرم ، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل ، وإن كان قد حكم من قبله الصحابة ، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة ؟ على قولين ، فقال الشافعي وأحمد : يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة{[10393]} وجعلاه شرعًا مقررًا لا يعدل عنه ، وما لم يحكم فيه{[10394]} الصحابة يرجع فيه إلى عدلين . وقال مالك وأبو حنيفة : بل يجب الحكم في كل فرد فرد ، سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا ؛ لقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وقوله تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : واصلا إلى الكعبة ، والمراد وصوله إلى الحرم ، بأن يذبح هناك ، ويفرق لحمه على مساكين الحرم . وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة .
وقوله : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } أي : إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعَم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال ، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام من الجزاء والإطعام والصيام ، كما هو قول مالك ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأحد قولي الشافعي ، والمشهور عن أحمد رحمهم الله ، لظاهر الآية " أو " فإنها للتخيير . والقول الآخر : أنها على الترتيب .
فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة ، فيُقوّم الصيد المقتول عند مالك ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وحماد ، وإبراهيم . وقال الشافعي : يقوم مثله من النعم لو كان موجودًا ، ثم يشتري به طعام ويتصدق به ، فيصرف لكل مسكين مُدٌ منه عند الشافعي ، ومالك ، وفقهاء الحجاز ، واختاره ابن جرير .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يُطعِم كل مِسْكين مُدَّيْن ، وهو قول مجاهد .
وقال أحمد : مُدّ من حنطة ، أو مدان من غيره . فإن لم يجد ، أو قلنا بالتخيير{[10395]} صام عن{[10396]} إطعام كل مسكين يومًا .
وقال ابن جرير : وقال آخرون : يصوم مكان كل صاع يومًا . كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه ، فإن الشارع أمر كعب بن عُجْرَة أن يقسم فَرَقًا بين ستة ، أو يصوم ثلاثة أيام ، والفَرَقُ ثلاثة آصع .
واختلفوا في مكان هذا الإطعام ، فقال الشافعي : محله الحرم ، وهو قول عطاء . وقال مالك : يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد ، أو أقرب الأماكن إليه . وقال أبو حنيفة : إن شاء أطعم في الحرم ، وإن شاء أطعم في غيره .
ذكر أقوال السلف في هذا المقام :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس في قوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قال : إذا أصاب المحرمُ الصيدَ حكم عليه جزاؤه من النعم ، فإن وجد جزاءه ، ذبحه فتصدق به . وإن لم يجد نظر كم ثمنه ، ثم قُوّم ثمنه طعامًا ، فصام مكان كل نصف صاع يومًا ، قال : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قال : إنما أريد بالطعام الصيام ، أنه إذ وجد الطعام وجد جزاؤه .
ورواه ابن جرير ، من طريق جرير .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } إذا{[10397]} قتل المحرم شيئًا من الصيد ، حكم عليه فيه . فإن قتل ظبيًا أو نحوه ، فعليه شاة تذبح بمكة . فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . فإن قتل إبِلا أو نحوه ، فعليه بقرة . فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا . فإن لم يجد صام عشرين يومًا . وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه ، فعليه بدنة من الإبل . فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا . فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا .
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وزاد : والطعام مُدٌّ مُدّ تشبَعهم . {[10398]}
وقال جابر الجُعْفي ، عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قالوا : إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي . رواه ابن جرير .
وكذا روى ابن جُرَيْج عن مجاهد ، وأسباط عن السُّدِّي أنها على الترتيب .
وقال عطاء ، وعكرمة ، ومجاهد - في رواية الضحاك - وإبراهيم النَّخَعِي : هي على الخيار . وهو رواية الليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . واختار ذلك ابن جرير ، رحمه الله تعالى .
وقوله : { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } أي : أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } أي : في زمان الجاهلية ، لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله ، ولم يرتكب المعصية .
ثم قال : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } أي : ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
قال ابن جُرَيْج ، قلت لعطاء : ما { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } قال : عما كان في الجاهلية . قال : قلت : وما { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ؟ قال : ومن عاد في الإسلام ، فينتقم الله منه ، وعليه مع ذلك الكفارة قال : قلت : فهل في العود حَدُّ تعلمه ؟ قال : لا . قال : قلت : فترى حقًا على الإمام أن يعاقبه ؟ قال :
لا هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله ، عز وجل ، ولكن يفتدي . رواه ابن جرير . {[10399]}
وقيل معناه : فينتقم الله منه بالكفارة . قاله سعيد بن جبير ، وعطاء .
ثم الجمهور من السلف والخلف ، على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ، ولا فرق بين الأولى والثانية{[10400]} وإن تكرر ما تكرر ، سواء الخطأ في ذلك والعمد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : من قتل شيئًا من الصيد خطأ ، وهو محرم ، يحكم عليه فيه كلما قتله ، وإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة ، فإن عاد يقال له : ينتقم الله منك كما قال الله ، عز وجل .
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي جميعًا ، عن هشام - هو ابن حسان - عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس فيمن أصاب صيدًا فحُكم{[10401]} عليه ثم عاد ، قال : لا يحكم عليه ، ينتقم الله منه .
وهكذا قال شُرَيْح ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وإبراهيم النَّخَعِي . رواهن ابن جرير ، ثم اختار القول الأول .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن يزيد العبدي ، حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان ، عن زيد أبي المعلى ، عن الحسن البصري ؛ أن رجلا أصاب صيدًا ، فتجوز عنه ، ثم عاد فأصاب صيدًا آخر ، فنزلت نار من السماء فأحرقته فهو قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ }
وقال ابن جرير في قوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } يقول عَزَّ ذكره : والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع ؛ لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره ، له العزة والمنعة .
وقوله : { ذُو انْتِقَامٍ } يعني : أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } أي محرمون جمع حرام كرداح وردح ، ولعله ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم ، وأراد بالصيد ما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفا ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " خمس يقتلن في الحل والحرم ، الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور " وفي رواية أخرى " الحية " بدل " العقرب " ، مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ ، واختلف في أن هذا النهي هل يلغي حكم الذبح فيلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثني أو لا فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب . { ومن قتله منكم متعمدا } ذاكرا لإحرامه عالما بأنه حرام عليه قبل ما يقتله ، والأكثر على أن ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء فإن إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الضمان ، بل لقوله : { ومن عاد فينتقم الله منه } ولأن الآية نزلت فيمن تعمد إذ روي : أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برحمه فقتله . فنزلت . { فجزاء مثل ما قتل من النعم } برفع الجزاء ، والمثل قراءة الكوفيين ويعقوب بمعنى فعليه أي فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم ، وعليه لا يتعلق الجار بجزاء للفصل بينهما بالصفة فإن متعلق المصدر كالصلة له فلا يوصف ما لم يتم بها ، وإنما يكون صفته وقرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول وإقحام مثلي كما في قولهم مثلي لا يقول كذا ، والمعنى فعليه أن يجزى مثل ما قتل . وقرئ فجزاء مثلي ما قتل بنصبهما على فليجز جزاء ، أو فعليه أن يجزي جزاء يماثل ما قتل وفجزاؤه مثل ما قتل ، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة عند مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما ، والقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال : يقوم الصيد حيث صيد فإن بلغت القيمة ثمن هدى تخير بين أن يهدي ما قيمته قيمته وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره ، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما وإن لم تبلغ تخير بين الإطعام والصوم واللفظ للأول أوفق . { يحكم به ذوا عدل منكم } صفة جزاء ويحتمل أن يكون حالا من ضميره في خبره أو منه إذا أضفته ، أو وصفته ورفعته بخبر قدر لمن وكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد يحتاج إلى المماثلة في الخلقة والهيئة إليها ، فإن الأنواع تتشابه كثيرا . وقرئ " ذو عدل " على إرادة الجنس أو الإمام . { هديا } حال من الهاء في به أو من جزاء وإن نون لتخصصه بالصفة ، أو بدل من مثل باعتبار محله أو لفظه فيمن نصبه . { بالغ الكعبة } وصف به هديا لأن إضافته لفظية ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم والتصدق به ، وقال أبو حنيفة يذبح بالحرم ويتصدق به حيث شاء . { أو كفارة } عطف على جزاء إن رفعته وإن نصبته فخبر محذوف . { طعام مساكين } عطف بيان أو بدل منه ، أو خبر محذوف أي هي طعام . وقرأ نافع وابن عامر كفارة { طعام } بالإضافة للتبيين كقولك : خاتم فضة ، والمعنى عند الشافعي أو أن يكفر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي من غالب قوت البلد فيعطي كل مسكين مدا . { أو عدل ذلك صياما } أو ما ساواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوما ، وهو في الأصل مصدر أطلق للمفعول . { وقرئ بكسر العين وهو ما عدل بالشيء في المقدر كعدل الحمل وذلك إشارة إلى الطعام ، وصياما تمييز للعدل . { ليذوق وبال أمره } متعلق بمحذوف أي فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام ، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى وأصل الوبل الثقل ومنه الطعام الوبيل . { عفا الله عما سلف } من قتل الصيد محرما في الجاهلية أو قبل التحريم ، أو في هذه المرة . { ومن عاد } إلى مثل هذا . { فينتقم الله منه } فهو ينتقم الله منه وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكي عن ابن عباس وشريح . { والله عزيز ذو انتقام } مما أصر على عصيانه .
الخطاب لجميع المؤمنين ، وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل { ليبلونكم } [ المائدة : 94 ] و { الصيد } مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد ، ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الحرم ، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خمس فواسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور »{[4710]} ووقف مع ظاهر هذا الحديث سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر ، وقاس مالك رحمه الله على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم ، ورآه داخلاً في اللفظ فقال للمحرم أن يقتل الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية مبتدئاً بها ، فأما الهر والثعلب والضبع فلا يقتلها المحرم وإن قتلها فدى ، وقال أصحاب الرأي إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله ، وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته ، وقال مجاهد والنخعي لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا عليه ، وقال ابن عمر ما حل بك من السباع فحلَّ به ، وأما فراخ السبع الصغار قبل أن تفرس{[4711]} فقال مالك في " المدونة " لا ينبغي للمحرم قتلها ، قال أشهب في كتاب محمد : فإن فعل فعليه الجزاء ، وقال أيضاً أشهب وابن القاسم لا جزاء عليه ، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب ، وقال مالك : يطعم قاتله شيئاً ، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه ، وقال أصحاب الرأى لا شيء على قاتل هذه كلها ، وأما سباع الطير فقال مالك لا يقتلها المحرم وإن فعل فدى ، وقال ابن القاسم في كتاب محمد : وأحب إليَّ أن لا يقتل الغراب والحدأة حتى يؤذياه ، ولكن إن فعل فلا شيء عليه .
قال القاضي أبو محمد : وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلا{[4712]} ، وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد أو الحال ، وفرض الجزاء على من قتله و { حرم } جمع حرام وهو الذي يدخل في الحرام أو في الإحرام ، وحرام ، يقال للذكر والأنثى والاثنين والجميع ، واختلف العلماء في معنى قوله { متعمداً } فقال مجاهد وابن جريج والحسن وابن زيد : معناه متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه ، فهذا هو الذي يكفر وكذلك الخطأ المحض يكفر وأما إن قتله متعمداً ذاكراً لإحرامه فهذا أجلّ وأعظم من أن يكفر . قال مجاهد : قد حل ولا رخصة له ، وقاله ابن جريج ، وحكى المهدوي وغيره أنه بطل حجه ، وقال ابن زيد : هذا يوكل إلى نقمة الله ، وقال جماعة من أهل العلم منهم ابن عباس ومالك وعطاء وسعيد ابن جبير والزهري وطاوس وغيرهم ، المتعمد هو القاصد للقتل الذاكر لإحرامه ، وهو يكفر وكذلك الناسي والقاتل خطأً يكفران .
قال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في قتله خطأً أنهما يكفران ، وقال بعض الناس لا يلزم القاتل خطأً كفارة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «فجزاءُ مثلِ ما » بإضافة الجزاء إلى مثل وخفض مثل ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «فجزاء » بالرفع «مثلُ » بالرفع أيضاً فأما القراءة الأولى ومعناها فعليه جزاء مثل ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «فجزاء » بالرفع «مثلُ » بالرفع أيضاً فأما القراءة الأولى ومعناها بقولك أنا أكرمك ، ونظير هذا قوله تعالى : { أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات }{[4713]} التقدير كمن هو في الظلمات .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل قوله تعالى : { فجزاء مثل } أن يكون :المعنى فعليه أن يجزي مثل ما ، ثم وقعت الإضافة إلى المثل الذي يجزي به اتساعاً ، وأما القراءة الثانية فمعناها : فالواجب عليه أو فاللازم له جزاء مثل ما و «مثل » على هذه القراءة صفة لجزاء ، أي فجزاء مماثل ، وقوله تعالى : { من النعم } صفة لجزاء على القراءتين كلتيهما ، وقرأ عبد الله بن مسعود «فجزاؤه مثل ما » بإظهار هاء يحتمل أن تعود على الصيد أو على الصائد القاتل ، وقرأ أبو عبد الرحمن «فجزاءُ » بالرفع والتنوين «مثلَ ما » بالنصب ، وقال أبو الفتح «مثل » منصوبة بنفس الجزاء أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ، واختلف العلماء في هذه المماثلة كيف تكون ؟ ! فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة وعظم المرأى فيجعلون ذلك من النعم جزاءه ، قال الضحاك بن مزاحم والسدي وجماعة من الفقهاء : في النعامة وحمار الوحش ونحوه بدنة ، وفي الوعل والإبل ونحوه بقرة ، وفي الظبي ونحوه كبش ، وفي الأرنب ونحوه ثنية من الغنم ، وفي اليربوع حمل صغير ، وما كان من جرادة ونحوها ففيها قبضة طعام ، وما كان من طير فيقوم ثمنها طعاماً فإن شاء تصدق به وإن شاء صام لكل صاع يوماً ، وإن أصاب بيض نعام فإنه يحمل الفحل على عدد أصاب من بكارة الإبل فما نتج منها أهداه إلى البيت وما فسد فيها منها فلا شيءٍ عليه فيه .
قال القاضي أبو محمد : حكم عمر على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة ، وحكم هو وعبد الرحمن بن عوف ، قال قبيصة : قلت يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك ، قال : فضربني بالدرة حتى سابقته عَدْوا .
ثم قال : أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض{[4714]} الفتوى ؟ وهذه القصة في الموطأ بغير هذه الألفاظ . وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة ، وقبيصة هو راويها والله أعلم . وأما الأرنب واليربوع ونحوها فالحكم فيه عند مالك أن يقوم طعاماً ، فإن شاء تصدق به وإن شاء صام بدل كلّ مدّ يوماً ، وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد ، وعند قوم صاع ، وعند قوم بدل مدين ، وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة ، وفي الحمام غيره حكومة وليس كحمام الحرم ، وأما بيض النعام وسائر الطير ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه ، قال ابن القاسم : وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ صارخاً بعد الكسر فإن استهل ففيه الجزاء كاملاً كجزاء كبير ذلك الطير . قال ابن المواز : بحكومة عدلين ، وقال ابن وهب : إن كان في بيضة النعامة فما دونها فرخ فعشر ثمن أمه ، وإن لم يكن فصيام يوم أو مد لكل مسكين ، وذهبت فرقة من أهل العلم{[4715]} منهم النخعي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة ، يقوّم الصيد المقتول ثم يشتري بقيمته ندّه{[4716]} من النعم ثم يهدى ، ورد الطبري وغيره على هذا القول ، و { النعم } لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمع هذه الأصناف ، فإذا انفرد كل صنف لم يقل «نعم » إلا للإبل وحدها ، وقرأ الحسن «من النعْم » بسكون العين وهي لغة ، والجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه بحكم لفظ الآية ، وذلك في المدونة ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائراً فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار ، قال لا جزاء عليه ، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة وبالتقدير فيها ، وحكم عمر وعبد الرحمن بن عوف وأمر أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها قال :
فأتيت عبد الرحمن وسعداً فحكما عليّ تيساً أعفر ، ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء ، وعلى هذا جمهور الناس وفقهاء الأمصار ، وقال ابن وهب رحمه الله في العتبية : من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد كما خيره الله في أن يخرج هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً . فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيراً لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي . فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ، ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوماً . وكذلك قال مالك في المدونة : إذا أراد المصيب أن يطعم أو يصوم وإن كان لما أصاب نظير من النعم فإنه يقوم صيده طعاماً لا دراهم ، قال : وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعاً ، والأول أصوب ، فإن شاء أطعمه وإلا صام مكانه لكل مد يوماً وإن زاد ذلك على شهرين أو ثلاثة ، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا العدد ، فإن شاء أخرج ذلك الطعام ، وإن شاء صام عدد أمداده .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن أحتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الطعام ، ومن أهل العلم من يرى أن لا يتجاوز في صيام الجزاء شهران ، قالوا : لأنها أعلى الكفارات بالصيام ، وقوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ ، وذكرت { الكعبة } لأنها أم الحرم ورأس الحرمة ، والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى ، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم ، بشرط أن يدخل من الحل لا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغاً الكعبة ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «هدِيّاً بالغ الكعبة » بكسر الدال وتشديد الياء ، و { هدياً } نصب على الحال من الضمير في { به } ، وقيل على المصدر ، و { بالغ } نكرة في الحقيقة لم تزل الإضافة عنه الشياع ، فتقديره بالغاً الكعبة حذف تنويه تخفيفاً ، وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي «أو كفارةً » منوناً «طعامُ مساكين » برفع طعام وإضافته إلى جمع المساكين ، وقرأ نافع وابن عامر برفع الكفارة دون تنوين وخفض الطعام على الإضافة ومساكين بالجمع ، قال أبو علي : إعراب طعام في قراءة من رفعه أنه عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة ، ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام وفي هذا نظر ، لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام ، فالكفارة غير الطعام لكنها به ، فيتجه في رفع الطعام البدل المحض{[4717]} ، ويتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص ، إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي أو كفارة طعام أو كفارة صيام ، وقرأ الأعرج وعيسى بن عمرو «أو كفارةٌ » بالرفع والتنوين «طعامُ » بالرفع دون تنوين «مسكين » على الإفراد وهو اسم الجنس ، وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء : القاتل مخير في الرتب الثلاثة وإن كان غنياً ، وهذا عندهم مقتضى { أو } ، وقال ابن عباس وجماعة لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هدياً ، وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم ، وقاله إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان ، قالوا : والمعنى أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي .
ومالك رحمه الله وجماعة معه يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول بالطعام كما تقدم ، وقال العراقيون إنما يقوم الجزاء طعاماً ، فمن قتل ظبياً قوم الظبي عند مالك وقوم عدله من الكباش أو غير ذلك عند أبي حنيفة وغيره ، وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم ، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به ، وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوماً قال : وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم ، ومن يجد طعاماً فإنما يجد جزاء ، وأسنده أيضاً عن السدي .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا القول بظاهر لفظ الآية فإنه ينافره ، والهدي لا يكون إلا في الحرم كما ذكرنا قبل .
واختلف الناس في الطعام فقال جماعة من العلماء : الإطعام والصيام حيث شاء المكفر من البلاد ، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره «الهدي و الإطعام بمكة والصوم حيث شئت » وقوله تعالى : { أو عدل ذلك صياماً } قرأ الجمهور بفتح العين ومعناه : نظير الشيء بالموازنة والمقدار المعنوي ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري : «أو عِدل » بكسر العين ، قال أبو عمرو الداني ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعض الناس «العَدل » بالفتح قدر الشيء من غير جنسه ، وعِدله بالكسر قدره من جنسه ، نسبها مكي إلى الكسائي وهو وهم والصحيح عن الكسائي : أنهما لغتان في المثل ، وهذه المنسوبة عبارة معترضة وإنما مقصد قائلها أن «العِدل » بالكسر قدر الشيء موازنة على الحقيقة كعدلي البعير ، وعدله قدره من شيء آخر موازنة معنوية ، كما يقال في ثمن فرس هذا عدله من الذهب ، ولا يتجه هنا كسر العين فيما حفظت ، والإشارة بذلك في قوله { عدل ذلك } يحتمل أن تكون إلى الطعام ، وعلى هذا انبنى قول من قال من الفقهاء الأيام التي تصام هي على عدد الأمداد أو الأصواع أو أنصافها حسب الخلاف الذي قد ذكرته في ذلك . ويحتم أن تكون الإشارة ب { بذلك } إلى الصيد المقتول ، وعلى هذا انبنى قول من قال من العلماء : الصوم في قتل الصيد إنما هو على قدر المقتول ، وقال ابن عباس رضي الله عنه إن قتل المحرم ظبياً فعليه شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، وإن قتل أيلاً{[4718]} فعليه بقرة ، فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكيناً ، فإن لم يجد صام عشرين يوماً ، وإن قتل نعامة أو حمار وحش فعليه بدنة ، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكيناً ، فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً .
قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم لابن عباس رضي الله عنه قول غير هذا آنفاً حكاهما عنه الطبري مسندين ، ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان ، وقال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى : { أو عدل ذلك صياماً } قال يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة .
وقوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } الذوق هنا مستعار كما قال تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم }{[4719]} وكما قال { فأذاقها الله لباس الجوع }{[4720]} وكما قال أبو سفيان : " ذق ُعَقُق " {[4721]} ، وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان ، وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس{[4722]} ، والوبال سوء العاقبة ، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله{[4723]} ، وعبر [ بأمره ] عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضي ماله أو تعبه بالصيام ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { عفا الله عما سلف } فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معه : معناه عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحلاً فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم ، وإن كان عاصياً فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط ، قالوا وكلما عاد المحرم فهو مكفر .
قال القاضي أبو محمد : ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير ، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظائره وأصحابه رحمهم الله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : المحرم إذا قتل مراراً ناسياً لإحرامه فإنه يكفر في كل مرة ، فأما المتعمد العالم بإحرامه فإنه يكفر أول مرة ، وعفا الله عن ذنبه مع التكفير ، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه ، ويقال له : ينتقم الله منك ، كما قال الله ، وقال بهذا القول شريح القاضي وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وقال سعيد بن جبير : رخص في قتل الصيد مرة فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه .
قال القاضي أبو محمد : وهذ القول منه رضي الله عنه وعظ بالآية ، وهو مع ذلك يرى أن يحكم عليه في العودة ويكفر ، لكنه خشي مع ذلك بقاء النقمة ، وقال ابن زيد : معنى الآية { عفا الله عما سلف } لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم ، قال وأما من عاد فقتل الصيد وهو عالم بالحرمة متعمد للقتل فهذا لا يحكم عليه ، وهو موكول إلى نقمة الله ، ومعنى قوله { متعمداً } في صدر الآية أي متعمداً للقتل ناسياً للحرمة .
قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم ذكر هذا الفصل ، قال الطبري : وقال قوم : هذه الآية مخصوصة في شخص بعينه وأسند إلى زيد بن المعلى أن رجلاً أصاب وهو محرم فُتجوز له عنه ثم عاد فأرسل الله عليه ناراً فأحرقته ، فذلك قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } وقوله تعالى : { والله عزيز ذو انتقام } تنبيه على صفتين تقتضي{[4724]} خوف من له بصيرة ، ومن خاف ازدجر ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل{[4725]} .